كثيرا ما توقفت في الطريق العام أمام مشهد أسراب من المكفوفين وهم يقطعون طريق السيارات، كل واحد يتشبت بذراع الآخر في عملية التصاق والتحام غريبة ، وعادة ما يكون لسائق السرب البشري الواحد منهم بصيص من نور في إحدى عينيه يساعده على تلمس خطواته و القيام بالمهمة على أحسن وجه .وكنت دائما بعد كل لقاء عفوي بهؤلاء المواطنين ذوي الحاجات الخاصة وأنا في اتجاه مقر عملي أو عائد منه أطرح على نفسي هذا السؤال : متى سيتمتع هؤلاء المكفوفون الفقراء في بلادنا بحق التنقل المأمون في الشارع العام وسط مدينة صاخبة وكبيرة كالدارالبيضاء ؟ الحادث المروع الذي أودى بحياة التلميذين المكفوفين رحمة الله عليهما وعزاؤنا لأسرتيهما _ وسط المركز التجاري بدرب عمر بالدارالبيضاء أجبرني على إعادة طرح نفس السؤال مرة أخرى .لست في حاجة إلى أن أعيد ظروف وملابسات هذا الحادث المفجع، فالمدينة قتلتهما مرتين ، مرة حين أوكلت مهمة نقلهما العسيرة من البيت إلى المدرسة لأمهما المسكينة والمغلوبة على أمرها التي يكفيها ما تلاقيه وما تعانيه معهما في البيت ،والتي ينبغي أن ننحني برؤوسنا إجلالا لها ولغيرها من النساء اللواتي ساق القدر إلى أبوابهن هؤلاء الأطفال المحرومين من نعمة الصحة والعافية واللواتي تتضاعف آلام مأساتهن حين يشحذ الفقر والمجتمع سنانهما وأنيابهما على رقابهن ،ومرة أخرى حين يطير عن سائقي السيارات والشاحنات والحافلات والعربات وكل وسائل النقل المجنونة في الدارالبيضاء لبهم وعقلهم و يعمى بصرهم و بصيرتهم أثناء السياقة في أماكن آهلة بالمارة، حيث الرجل الهرم الذي لا يقوى على الحركة والسرعة ، وحيث الصبي الغر الطائش ، وحيث الغريب الطارئ على المدينة الذي لا يفقه حمقها وقوانينها الخاصة ،والذي لا يعرف ماذا تخبئ له منعطفات الطرق ، وتنعدم ثقافة المرور والنظام وقيم التسامح والعفو والأسبقية :الكل يلهث ويقفز ويسارع نحو حطام الدنيا لا ينتبه للآخرين مبتعدا شيئا فشيئا عن كل ما يتصل بالتمدن وبالآدمية . لقد كتب عميد الأدب العربي طه حسين يوما إلى زوجته الفرنسية السيدة سوزان يقول :"بدونك أشعر أني أعمى حقا .أما وأنا معك فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء وإني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي .".من كتاب الأيام .فكم من سوزانات تكفينا كي نضمد جراح مكفوفينا حتى ينطقوا بما نطق به طه حسين ؟ ونتساءل راغبين في سبر أغوار ما يجري فوق هذه الأرض هل عرفنا ما كان يدور بخلد هذين التلميذين المكفوفين وهما يحركان أطرافهما في الظلام بمعية أمهما ، غير أن يكونا في حالة أنين تتوزعهما مشاعر مختلفة أخفها كاف لتمزيق صخور الكثير من المسلمات البشرية الخاطئة : ماذا يقع من حولنا نحن المكفوفون ...؟.لماذا كل هذا الصخب وسط هذه المدينة الغابة المعتمة الحافلة بالأهوال التي يقودها هؤلاء "المبصرون" ؟ لقد برهنت لهما الأيام ولغيرهما من المكفوفين والمقعدين ، وما يلاقونه جميعا من صعوبات ومشاكل في التنقل من مكان إلى آخر ، في الحافلات والطاكسيات والعمارات والمستشفيات والمصالح الإدارية معوقة هي الأخرى لا ولوجيات لا أماكن ولا مقاعد خاصة ، أن هذه الفروق التي يتغنى بها المبصرون أي الفروق الجسدية فيما بينهم(حاسة البصر، ) ماهي إلا خزعبلات يهذون بها ، وإلا لماذا هذه الحوادث اليومية التي تسقط عن المبصرين صفتي الإبصار والبصيرة معا وتلحقهم بقافلة المبصرين /العميان ..ألم يشعروا ولم يعووا بعد أنهم يجلبون الدمار كل يوم لمدينتهم ولسكانها الأبرياء أطفالا وشيوخا وشبابا ورجال ونساء ، بالرغم من الأفئدة المثبتة في صدورهم و العيون المغروسة في وجوههم ؟ لقد انقلبت أحاديث بعض المكفوفين عن المبصرين وأنا بقربهم في الكثير من المناسبات التي جمعتني بهم بحكم مروري اليومي بقرب مقر منظمتهم الشريفة إلى حقائق لا يمكن أن تفسر إلا على أنها نقد مباشر وساخر لنظام سير البشر ركابا وراجلين ومسؤولين ،وإلى المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين وإلى كل المؤسسات ذات الصلة بذوي الحاجات الخاصة في بلادنا وعلى رأسها وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الإجتماعية ،تجمع كلها أن لا شفاء من هذه العربدة وهذا الجنون البشري إلا بسن سياسة جديدة صارمة ومعقلنة للمدينة وعلاقتها بذوي الحاجات الخاصة تكون الأولوية فيها لبناء البشر قبل الحجر ، و تعبيد مسلك الرفيق قبل الطريق ..