بيْنما يتحدّث مسؤولو القطاع السياحي في الرباط عن بذْلِ جهودٍ حثيثة لرفْعِ عدد السياح الأجانب الوافدين على المغرب، تعيشُ محلّاتُ تُجّار منتوجات الصناعات التقليدية بمدينة أكادير، وهيَ ثاني مدينة سياحية بالمغرب بعد مدينة مراكش، رُكودا غيْرَ مسبوق، أدَّى بعشرات المحلّات إلى إغلاقِ أبوابَها خلالَ السنوات الأخيرة. وسط المنطقة السياحية بأكادير ثمّة مشاهدُ كثيرة معبِّرة عن الأزمة. أمامَ محلّ تجاريٍّ للمنتوجات التقليدية تجلسُ سيّدة مُسندة ذقنها بقبضة يدها، بيْنما المكانُ لا يعرفُ أيّ حركة تجارية، رغْم أنّ الزمانَ كانَ وقتَ ذروة. أمامَ محلّاتٍ أخرى يجلسُ تجّار يتبادلون أطرافَ الحديث، وآخرون جالسون في صمْتٍ يرقبون قُدومَ سائحٍ باتَ نادراً حدّ الانعدام. بازارات تنقرض "كانَ عددُ محلّات بيْع المنتوجات التقليدية في وسط مدينة أكادير 500 محلٍّ، الآنَ لم يتبقَّ من هذه المحلاّتِ سوى أقلّ من 300 محلّ"، يقول عبد الرزاق الخليفي، أمين مال جمعية تجار منتوجات الصناعة التقليدية بأكادير، مشيرا إلى محلٍّ جوارَ المتحف البلدي أغلقَ أبوابَه قُبيْل أسابيعَ فقط، وكانَ موْرِدَ رزقٍ لصاحبه ومستخدميْن كانا يشتغلان معه. صاحبُ المحلِّ اضطرَّ إلى الاستسلامِ للأزمة التي يُعاني منها قطاع تجارة منتوجات الصناعة التقليدية بأكادير حينَ قامَ بجرْدٍ لحساباته قصْدَ إخراج الزكاة، فتبيّن له أنه لا يُحقق أرباحا، فلم يملك من خيار غيرَ أنْ أوْصدَ أبواب محلّه إلى غير رجعة، ويعلّق الخليفي بنبرةٍ ملْؤها التشاؤمُ: "لوْ وجدْنا بديلا لهذه الحرفة لأغلقنا أبوابَ محلّاتنا نحنُ أيْضا". بالنبرة نفْسها يتحدّث تاجرٌ آخر في المنطقة السياحيّة، وجدناه أمامَ باب محلّه يقرأ القرآن مُستغلا الركودَ التجاري السائد. يقول التاجر، والساعة بالكادّ تقتربُ من الرابعة عصرا: "والله إيلا غِيرْ حْشمْتْ نهبّط الريدو ونَمْشي لْداري نَرْتاح"، أمّا تاجر آخر يوجد محلّه بالسوق المركزي فيُلخّص واقعَ تجارة منتوجات الصناعة التقليدية بأكادير في جملة واحدة: "القضيّة مِيّْتة كاع". وبكثير من النوستالجيا تعود الذاكرةُ بالتجار إلى سنوات ازدهار القطاع السياحي ب"مدينة الانبعاث"، ويتذكر أحدهم كيف أنّه كانَ ذاتَ مساءٍ من أواسط الثمانينيات قد شرعَ في إغلاق أبواب محلّه التجاري على الساعة العاشرة ليْلا، وبالصّدفة كانَ عامل أكادير، أحمد مطيع آنذاك، مارّا، فتوقف ونادى عليْه مُخبرا إيّاه أنه ليْس من حقه إغلاق أبواب محله إلا بعْد الساعة الحادية عشرة ليلا. في تلك السنوات الخوالي، كانتْ محلّاتُ بيْع المنتوجات التقليدية بمدينة أكاديرَ تعرفُ رواجا كبيرا، وكان التجّارُ يبقون على محلاتهم مفتوحة حتى ساعاتٍ متقدّمة من الليل، أمّا الآنَ فكثير منهم يشرع في الإغلاق بعد أذان المغرب مباشرة، وبالنهار يعْمدُ كثير منهم إلى إطفاءِ مصابيح النور اقتصادا للمصاريف. يقول تاجر لهسبريس: "والله إيلا كايْن اللّي ما عْندو حتّى باش يخلّص الضوّْ". تعددت الأسباب والركود واحد الأزمةُ التي يُعاني منه قطاعُ تجارة بيْع المنتوجات التقليدية بمدينة أكادير نجمتْ عنْ أسباب عدّة، منْ بيْنها أنَّ أصحابَ الفنادق أصبحوا يوفرون للسياح كلَّ شيء داخلَ الفندق، بما في ذلك المنتوجات التقليدية، وقالَ عبد الرزاق الخليفي إنَّ ذلك ساهمَ بشكل كبيرٍ في الركود داخلَ محلّات بيْع المتوجات التقليدية في مختلف أنحاء المدينة. ثمّةَ سببٌ آخرُ أضرَّ بأصحاب البازارات المتواجدة وسطَ مدينة أكادير، وفي المنطقة السياحيّة ككلّ، هوَ أنَّ الوحدات الفندقيّة الجديدة تمّ تشييدها في منطقة "فونتي" البعيدة عن وسط المدينة بحوالي خمْسة كيلومترات، بحسبَ أحد التجّار، الذي قال: "هذه الفنادق بعيدة عن وسط المدينة، ثم إن أصحابها يُنشؤونَ متاجر كبرى لبيْع منتوجات الصناعة التقليدية، وبالتالي ما بْقاوْشْ كاْيطَلْقو السائح باشْ يْجي عَنْدنا". ويُوازي تشييدَ الفنادق السياحية الجديدة بمدينة أكاديرَ في منطقة "فونتي" البعيدة، إغلاقُ عدد من الفنادق في المنطقة السياحيّة وسط المدينة. ففي شارع محمد الخامس لوحْده أغلقَ فندقان، أحدهُما يُعادُ بناؤه، فيما أغلق الثاني بصفة نهائية، وهُناك فندقان آخران في الشارع نفسه يرُوجُ أنهما سيُغلقان أبوابهما قريبا، بحسب عبد الرزاق الخليفي. في شارع 20 غشت أيضا ثمّة فنادق أغلقت أبوابها بصفة نهائيّة، وأوضح الخليفي أّنَّ الفنادقَ المغلقة هي من فئة خمس وأربع نجمات، وكانَ لها إشعاع كبير على المستوى السياحي بمدينة أكادير؛ وفي الوقت الذي يقول مسؤولو قطاع السياحة إنَّ عددَ السياح الوافدين على المغرب يعرف استقرارا، قال الخليفي: "إذا فتحْنا فُندقا جديدا، وأغلق اثنان أبوابهما فأيْن هو الاستقرار والازدهار السياحي". "حرب" غيرُ متكافئة يقُول تجّارُ منتوجات الصناعة التقليدية الذين التقيْناهم في مدينة أكاديرَ إنَّ "حرْبا" تُخاضُ ضدّهم من طرفِ جهاتٍ مختلفةٍ، جعلتْ تجارتَهم توشكُ على البوار النهائي؛ "بمجرّد أن يحطّ السائح قدمه في مدينة أكادير تلتفُّ حوْله جهات كثيرة، ولا تُترك له حريّة الاختيار ولا حتى حرّية التنقل"، يقول أحد التجار، مضيفا: "وكالات الأسفار كاتْجْبد، مّالين التاكسيات والمرشدين المزيّفين كايْجبدو، كُلْشي كايْجْبد، وما بقاوش يخلّيو السائح يمشي على رجليه". وبكثيرٍ من الحنْق يتابعُ التاجرُ قائلا: "سائقو سيارات الأجرة الصغيرة يعْرضون على السياح جولاتٍ بالمجان داخل المدينة، فينقلونهم إلى البازارات التي يختارونها هُم، مقابلَ عمولات يتلقّونها من أصحابها"، وثمّة عاملٌ آخر، يردف المتحدّث، يجعل السياح لا يَفدون على وسط المدينة، وهوَ المرشدون السياحيون المزيفون، قائلا: "هُناكَ مراكزُ تدليك (Massage) فُتحتْ حتى في الجبل، ويتمّ اصطحابُ السياح إليها من طرف المرشدين المزيفين. ثمّة "حِيَل" أخرى يلجأ إليها أصحاب الفنادق الكبرى وتُضرُّ بتجار منتوجات الصناعة التقليدية الصغار بأكادير، بحسب الخليفي، وهي أنهم ينظمون سهرات تسمى (Soirées berbères)، ويتمُّ الاتفاقُ معَ بائعٍ لمنتوجات الصناعة التقليدية بعرْض منتوجه للسياح داخل الفندق، مقابلَ أداء مبلغ ماليٍّ قالَ أمين مال جمعية تجار منتوجات الصناعة التقليدية بأكادير إنه يتراوح بين 400 و500 درهم، ويُمْكن أن يصلَ إلى 1500 درهم، حسب شُهرة الفندق. هذا المبلغُ يتمّ دفْعه لقاءَ عرْض منتوجات الصناعة التقليدية لبضع ساعات أمامَ السياح داخلَ الفنادق، وقال الخليفي: "نحنُ نطالبُ المسؤولين على الأقلّ بمراقبة الأسعار التي يبيعُ بها هؤلاء، لأنّ من يدفع 1500 درهم لعرض سلعته من الساعة السادسة إلى الثانية عشرة ليلا، سيبحث عن استرداد المبلغ الذي دفعه، مع أرباحٍ، بأيّ وسيلة كانت"، مضيفا: "نحنُ نخضع للمراقبة، لأننا معروفون بأسمائنا ومحلّاتنا، وهؤلاء الباعة لا أحدَ يراقبهم وكأنهم فوق القانون". أزمة عامّة في شهر أبريل الماضي، كشف تقرير أصدره المجلس الجهوي للسياحة بمدينة أكادير أنّ القطاعَ السياحي بالمدينة يمرُّ بظرفيّة صعبة، ويؤكد ذلك انخفاض عدد السياح الوافدين على المدينة خلال الثلاثة أشهر الأولى من السنة الجارية بنسبة 4.22 في المائة (ناقص 8108)، في حينِ انخفضتْ ليالي المبيت بمؤسسات الإيواء المصنّفة بنسبة 11.59 في المائة، وهو ما يمثل 119 ألفا و853 ليلة مبيت. يقُول عبد الرزاق الخليفي إنَّ الركودَ غير المسبوق الذي تعيشه بازارات مدينة أكادير هُو جزء من الأزمة التي يعرفها قطاع السياحة ككل في مدينة أكادير، موضحا أنّ أغلبَ الفنادق باتتْ تعتمدُ على العلب الليلية والكباريهات كموْردٍ رئيسي لكسب أرباحٍ، وأضاف المتحدّث: "الأزمة التي يعرفها قطاع السياحة في مدينة أكادير أدّتْ حتّى إلى تغيّر نوع السياحة بالمدينة، فقد بدأ السياح الذين كانوا يأتون بحثا عن الشمس والبحر ينقرضون، وحلّت محلهم عيّنة أخرى من السياح". وأشارَ المتحدث إلى أنّ هناك عواملَ عِدّة أدّتْ إلى هذا الوضع، وأوّلها أنَّ السياحَ الوافدين على مدينة أكادير لمْ يعودوا يجدون راحتهم للاستمتاع بالشمس والبحر، نظرا للمضايقات التي يتعرضون لها، حينَ نزولهم إلى الشاطئ أو تجوالهم داخل المدينة، سواء من طرف الباعة المتجولين، أوْ المرشدين السياحيين المزيفين، أوْ سائقي سيارات الأجرة الصغيرة، قائلا: "نطالبُ فقط أنْ تعطى للسائح الحرّية، حتى يذهب إلى حيث شاء دون أن يُضايقه أحد". "غِيرة" من مراكش وينتابُ تجّارَ منتوجات الصناعة التقليدية بأكادير نوع من "الغيرة" إزاءَ نظرائهم في مدينة مراكش، بسبب العناية التي يوليها مسؤولو المدينة الحمراء للسياحة، وسهرهم على توفير ظروف ملائمة للسياحة في مختلف فضاءات المدينة، "مراكش تتوفر على مآثر تاريخية، هذا لا نقاش فيه، لكنّ هذه المآثر لا تتطلب من الوقت سوى صبيحة واحدة لزيارتها كلها، ومع ذلك يمكثُ فيها السياح أسبوعيْن أو أكثر، وهذا يطرح سؤال ما الذي يجده السياح في مراكش ولا يجدونه في أكادير". يتساءل الخليفي. وبسُرعة يُتبعُ سؤاله بجواب: "حينَ أرادَ مسؤولو مراكش النهوض بالسياحة كانَ من بيْن الإجراءات التي اتخذوها، فرْض قانون يمنع إزعاج أو الحديث مع السياح في الفضاءات العامّة، وتسهرُ الشرطة السياحية على تطبيق هذا القانون، وهوَ ما يوفّر للسائح التجول بحرية، ونحنُ نطالبُ بتوفير هذه الحماية للسائحين الوافدين على مدينة أكادير". وزادَ المتحدّث: "السائحُ يبحث عن الأمن والأمان والاطمئنان، وهذا الثالوث غيرُ متوفّر في مدينة أكادير، فمنذ أن يغادر السائح الفندق حيث يقيم يبدأ في التعرض للمُضايقات، ومن ثمّ يضطرّ للعودة إلى غرفته داخل الفندق، ويتشكل لديه انطباع سيء عن المدينة". ولا يؤثّرُ عدمُ توفير ظروف ملائمة للسياح في الفضاءات العامّة بأكادير على وضع السياحة بالمدينة في الوقت الراهن فحسب، بلْ ستكون له تداعيات أوْخمُ مستقبلا، بحسب أمين مال جمعية تجار منتوجات الصناعة التقليدية، الذي يرى أنّ السائح حينَ لا يجدُ الأمان والاطمئنان لن يفكر في العودة مرة أخرى إلى المدينة، لافتا إلى أنَّ المضايقات التي يتعرض لها السياح في المنطقة السياحة بأكادير، تتفاقمُ في "سوق الأحد"، وهُو واحد من المزارات السياحية المهمّة. "حينَ يذهبُ السائح إلى سوق الأحد، فإنّ المصيبة تكون أكبر، فهناك يوجدُ بمداخل السوق مرشدون سياحيون مزيفون، يصلُ بهم التحرّش بالسياح ومضايقتهم إلى حدّ منعهم من دخول السوق، بداعي أنهم سيتعرّضون للسرقة، ويفرضون عليهم مرافقتهم للتجوال داخل السوق، ومن ثمّ يرافقونهم إلى بازارات معيّنة، يتلقّون من أصحابها عمولات"، يقول الخليفي، وزاد: "لدينا في مدينة أكادير كنز ثمين، ورأسمالٌ لا ينضب، اسمه الشمس والبحر، لكنَّنا لا نعرفُ كيف نستثمره". ولم يقفْ تجار منتوجات الصناعة التقليدية بأكادير مكتوفي الأيْدي أمامَ الركود المُخيّم على محلاتهم، و"الضربات" التي يتلقونها، هُم والسياحة ككل بالمدينة، من جهاتٍ شتّى، بلْ يُكابدون من أجل إسماع صرخاتهم إلى من يهمهم الأمر. فقبْلَ حواليْ ستّ سنوات أقْدموا على إغلاق محلاتهم وأضربوا عن العمل لمدّة 48 ساعة، احتجاجا على الأزمة التي يعرفها القطاع، "لكن لا حياةَ لمنْ تنادي"، يقول أحدُ التجار لهسبريس. ولتجاوز وضعية الركود الحالية، يُطالبُ التجارُ المسؤولينَ بالبحث عن حلول من أجل تشجيع النشاط السياحي وسط المدينة، فإضافة إلى توفير الأمن والأمان والطمأنينة للسياح، كما قالَ عبد الرزاق الخليفي، قالَ أحد التجار إنهم اقترحوا على المجلس البلدي لأكادير في عهد العمدة السابق، تحويلَ "ساحة الأمل" الواقعة وسطَ المدينة بمحاذاة مقر المجلس البلدي إلى ساحة أشبهَ بساحة جامع الفنا بمراكش"، لكنَّ الاقتراح لمْ يلقَ أيّ ترحيب، "الجوابُ الذي تلقّيناه من أحد مسؤولي المجلس هوَ إيلا ردّينا ساحة الأمل بْحالْ جامع الفنا غادي يْصَدّعونا"، يقول التاجر بحسرة.