مُعَانَاة وَآهَاتٌ مِنْ وَحْيِ الإِكْتِشَاف إنهيار مَفَاهِيمُ الفَلسَفة الجُغرَافيّة القديمَة يرى غيرُ قليلٍ من الباحثين، والمفكّرين، والكتّاب، والمُخصّصين فى تاريخ القارّة الأمريكية التي أضيفت فى 12 أكتوبر من عام 1492 إلى الخريطة الجغرافيّة التي كان يعرفها العالم قبل هذا التاريخ ، حيث إنهارت بذلك مفاهيم الفلسفة الجغرافية القديمة، أنّه خلال الخمسة قرون الماضية وثلاثة وعشرين سنة التي خلت حتّى اليوم، قد أبيد الملايين من أبناء القبائل الهندية،واستبعد،وشُتّت بعضُهم في أفضل الأحوال، ونُهبت ثرواتهم، و طُمست رموز حضارتهم في أكثر حروب الإبادة،والقهر، والعنت، والمتابعة الوحشيّة التي عرفها التاريخ، وذلك تحت ذريعة أنهم كانوا يشكّلون عوائق تحول دون إنطلاق جحافل المستعمرين على أراضي وسواحل بحار، وضفاف أنهار، وغابات، وأدغال ما أطلق عليه فيما بعد ب "العالم الجديد"..واليوم وبعد إنصرام هذه القرون تقف القارّة الأمريكيّة محاولة إلتئام جراحها المفتوحة، وكِلاَمِها الغائرة، وتضميد جسدها الواهن المكلوم مستحضرة أبشع مظاهر الوحشيّة، والتعسّف التي تعامل بها المستعمِر الأوروبي الأبيض بدون رحمة ولا شفقة مع سكّان البلدان الأصليّين، ومع ثروات الطبيعة وكنوزها الحضارية التي لا تُقدّر بثمن أو بمال. وصمة عار ويرى الباحث والرئيس البوليفي الأسبق "خايمي باث ثامورا" خلال الفترة المتراوحة بين( 1989- 1993):" أنّ تاريخ القرون الخمسة الماضية، أيّ منذ أن هبط كريسطوبال كولومبوس على أرض العالم الجديد يشكّل أبرز نقاط التحوّل والدّمار في تاريخ البيئة على ظهر كوكب الأرض، كما أنّ ضحايا تلك الإكتشافات وما صاحبها من تظلّم وقسوة بالغين ما إنفكّوا يتساقطون بالملايين حتّى الآن ،رغم أنه في المقابل وفي أعين الشعوب الأوروبية المعاصرة هي عندهم علامات تحضّر وتمدين، وأمارات إشراق وتنوير بما يسمّى إكتشافهم المجحف للقارّة الأمريكيةالجديدة" . ويرى الباحث البوليفي كذلك "فيكتور هيغو كارديناس" من جهته : " أنّ الإحتفالات التي يقيمها الأوربيّون عادة في هذا التاريخ إحتفاءً بهذا الحدث ليست سوى نقطة سوداء، ووصمة عارعلى جبين البشرية، فهو وبكلّ المقايس تسجيل لتاريخ الغزو، والهلاك، وبداية حقبة إستعمارية حالكة للقارة الأمريكيةالجنوبية، فهذا الحدث - فى نظره - جلب معه جحافل الجنود، والمغامرين، والتجّارالإسبان،والبرتغاليين،كما جلب الموتَ والدمارَ للملايين من أبناء الشعوب والقبائل الأصلية التي نشأت ، وترعرعت، وعاشت على أراضي وجزر القارة الأمريكية منذ عهود سحيقة من التاريخ، تضافُ إلى تلك المظالم أنواع شتّى من ألوان القمع،والذلّ، والمهانة التي لحقت بأبناء الأجيال التي تمكّنت من النجاة من مقاصل،وسيوف، ومدافع، وأنفاط الغزاة الجدد البيض،" ويشير نفس الباحث: " أنّ هناك ما بين 60 و 70 مليون هندي من السكّان الاصليين ممّن قطنوا، وسكنوا الأراضي الشاسعة الممتدّة من ألاسكا إلى أطراف القارة اللاّتينية الجنوبية تمّت إبادة معظمهم بمختلف وسائل القمع،والإضطهاد، والوحشية التي لم تعرف البشرية مثيلاً لها من قبل، في تلك المذابح الجماعية التي بدأت منذ وصول الغزاة الأوائل ضدّ السكّان الأصليين.أمّا أبناء القبائل الذين تمكّنوا من الفرار والنفاذ بعيداً عن تلك المذابح مثل قبائل" اليانونامي " في البرازيل، و قبائل " اللاّكاندون" في المكسيك فقد تعرضوا لعمليات المطاردة، والطرد والمتابعة إلى أطراف هذين البلدين ليقيموا فيها تجمّعاتهم السكّانية بعد أن سلبوا كافة حقوقهم كمواطنين ، وبنفس النمط الذي تحيا به قبائل الهنود في مناطق الشمال والوسط والجنوب من القارة اللاّتينية الجنوبية ما فتئ يعصف بهم الفقر، والعوز، والخصاصة، ويسحقهم البؤس والتعاسة والتهميش ". ويضيف " فيكتوركارديناس" :'إنّه من المحزن، والمؤسف أن نشهد اليوم مساحات شاسعة من أراضي القارة الأمريكية، والجزرالمحيطة بها وقد تحوّلت إلى أراضٍ جرداء خالية من مظاهرالحياة الطبيعية أوالبشرية من على ظهرها. ولو عاد كريسطوبال كولومبوس إلى الحياة من جديد بعد تلك القرون الخمسة العِجاف فلن يستطيع التعرّف على ذلك العالم الجديد الخلاّب الذي وصفه في دفاتر يومياته بالأراضي الخصبة المليئة بالغابات الكثيفة، والبحيرات الواسعة الصّافية، والأغصان المورقة التي تنوء بثمارها من فواكه لم يعرفها الإنسانُ الأوربيّ من قبل..واليوم بعد أن دمّر الغزاة أبرزَ وأجملَ مظاهر الطبيعة التي وصفها كولومبوس في مذكّراته، أصبحت معظم المناطق جرداء قاحلة مثلما حدث فى جزر هايتي ، كما دُمّرت في السّلفادور ما يقرب من 98 في المائة من غاباتها،وأدغالها.. وحيثما توجد مناطق مزروعة بالغابات الآن لا تخلو فيها شجرة واحدة من أمراض الخواء التي أصابت تجاويفها الداخلية، وهي الظاهرة التي تشهدها الغابات في مختلف مناطق قبائل "لاكاندون" في المكسيك على سبيل المثال وفى سواها من أصقاع هذه القارّة المترامية الاطراف" . قصص وحكايات .. القصص التي يسوقها الكاتب الأورغوائي الكبير الرّاحل إدواردوغاليانو في كتابه "مذكّرات النار"( ثلالثة أجزاء) عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية، وهي تتضمّن قيماً رمزية عميقة تكشف النّقاب عن أشياء لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم عندما أقيم عام 1496 أوّل "مكان للحرْق " في أمريكا اللاّتينية في "هايتي" إنه منذ إكتشاف أمريكا لأوّل مرّة يعاقَب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقاً، إن القاتل (العشماوي) هو" بارطولومي كولومبوس" أخو كريسطوبال كولومبوس البحّار الشهيرالمغامر، الضحايا الذين إشتعلت أجسامهم حرْقاً وهم أحياء هم ستّة من الهنود، ويشير الكاتب أنّ هذا الإعدام، أو هذه التضحية تجسّم لنا كلّ شيء، ليس فقط تصادم حضارتين ، بل وأكثر من ذلك هو أنّ أكبر خطأ لما يُطلق عليه إكتشاف أمريكا هو فى الواقع عدم إكتشاف شيء، لأنّ "كولومبوس" مات مقتنعاً أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أيّ في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيّين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلاّ أنهم كانوا عاجزين عن إكتشافها، ذلك أنّ نظرتهم لها كانت نظرة عمياء ، إنّ دأب هؤلاء كان هو السّلب والنّهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى، إنّ الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلاّ أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي إرتكبه هؤلاء الهنود الستّة ليلقِي بهم بارطولومي كولومبوس في النّار أحياء..؟ !. مأساة الهِندي الأبيض المُلتحي يشير غاليانو: " أنه ليس عيباً أن يُحْتفَى بإكتشاف أمريكا ، ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشأوا محاكمَ التفتيش، والتعذيب،والتقتيل، والتنكيل المعروفين بعدم التسامح ،والجهل، بل فليكن هذا الإحتفال تكريماً لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جدّاً، وقيم ،وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشّرف، والكرامة، وهامت بالطبيعة، إنّ سكّان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات فيما بينهم قبل أن يحدث "الإكتشاف" الذي جاء ولقّنهم الأنانية ،والكراهية، والأثرة، والتشرذم، وحقّ المِلْكية، والجَشَع، وروائع أخرى..! أو أن يكون إحتفالاً بهؤلاء الذين جاءوا فاتحين مثل حالة البحّار "غونسالو غيرّيرو" الذي ظلّ تائهاً في أرض "المايا"، ثم سرعان ما إنخرط في مجتمع الهنود، وتزوّج منهم وكان له أولاد، وعندما علم (المكتشِف) " إيرنان كورطيس" بقصّة ذلك البحّار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظلّ مع أهله الجدد، وعائلته وأولاده، ولما كان عام 1536 وبعد معركة طويلة بين هنود المايا والغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هنديٌّ ملتحٍ، هنديّ ذو جلد أبيض، وقد شقّت جبينه رصاصة غاشمة، لقد كان "غونسالو غيرّيرو" الذي آثر أن يسقط مع مَنْ إرتاح إليهم، وأحسنوا وفادتَه، هذا الرجل هو أوّل غازٍ تمّ غزوُه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول،والنسيان . تقديس الصّداقة ويحكي لنا غاليانو من جهة أخرى فى كتابه الذكور المثير برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصّداقة عند السكّان الأصلييّن فى هذا الشقّ من العالم ،فيخبرنا كيف أنّ البطل الأسطوري" بانشو فييّا" كان إسمه الحقيقي هو "دوراتيو أرانغو" وبانشو كان إسم أعزّ أصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلّة " أرانغو" إتّخذ لنفسه إسمَ صديقه ،أيّ الإسم الذي هَوَى، وأصبح إسمُه " بانشو فييّا" لكي لا يموت إسم صديقه أبداً، إنّه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضدّ النّسيان الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظلّ إسم صديقه حيّاً في شخصه، تردّده أمريكا اللاّتينية حتى اليوم . ويسوق الكاتب مثالاً آخر فى نفس السياق فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكييّن الجنوبييّن الذين أصبحوا يشكّلون نوعاً من الأسطورة في حياة النّاس، وفى أدب أمريكا اللاّتينية وهم : "سَابَاطاَ" و"سَاندينو" و"غِيفارا" جَمَعَهم مصيرٌ واحد، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم...! الأرض..الأرض تبدو فى الأفق البعيد.. إقترنت ذكرى ما أطلق عليه ب "إكتشاف العالم الجديد" فى 12 أكتوبرمن عام 1492 الذي غيّر خريطةَ العالم وتاريخَه، بإسم كريسطوبال كولومبوس، مثلما إقترنت ذكرى فتح الأندلس عام 711 م باسم طارق ابن زيّاد، ولقد أصبح هذا التاريخ من كلّ سنة هو اليوم الذي تُحيي فيه إسبانيا عيدَها الوطني ،وهو اليوم ذاته الذي وصل فيه " كولومبوس" عام 1492 إلى جزيرة ¨ "لا إسبانيولا" ( حالياً هايتي وجمهورية الدومنيك)، وجزيرة "غواناهاني" التي أصبحت فيما بعد تُسمّى "باهاماس" فى القارّة الأمريكية البِكر. وفى الوقت الذي يحتفي فيه الإسبان بهذا اليوم بأعلى مظاهر الزّينة، والبذخ، والبهرجة يقف السكّان الأصليون لهذه القارّة - كما رأينا آنفاً - على طرفي نقيض من هذا الإحتفال، إذ تعبّر فيه الغالبية العظمى منهم فى شمال القارة الأمريكيةوجنوبها، وإلى جانبهم العديد من المهتمّين بتاريخ هذه القارة فى مختلف أنحاء المعمور من مؤرّخين، وكتّاب، ومفكّرين، وباحثين، وشعراء ، وسياسيّين، وعلماء البيئة إلخ..، يعبّرون عن سخطهم ،وعن مشاعر إستيائهم من تكريس هذا التاريخ من شهر" أكتوبر" من كل عام كعلاماتٍ فارقة فى تاريخ البشرية، بقدرما كان ينبغي عليهم إعتباره نقاطَ تحوّل مجحف فى صفحات تاريخ الظلم ، والتشتّت اللذين لحقا بأجناس شعوب هذه القارة من السكّان الأصلييّن أرباب الأراضي الحقيقييّن التي إكتشفها كولومبوس وبحّارتُه منذ 523 سنة إلى اليوم، ويؤكّد الدّارسون والمتخصّصون أنّ كريستوبال كولومبوس كان يحسب أنّه متّجه إلى آسيا الشرقيّة . إلاّ أنّ مراكبَه الشراعيّة الثلاثة "سانتا ماريا" (أكبرها) و"لانينيا " (أوسطها) و"لابينتا "(أصغرها) رست فى آخر المطاف على سواحل هذه الأراضي النائية التي كانت لمّا تزلْ مجهولة، ولم تكن قد وطئتها قبل هذا التاريخ قدم أوربية قطّ، وكانت لحظة مشاهدة اليابسة من طرف أحد بحّارة كولومبوس وهو " رودريغو دي تريانا" عندما صاح بأعلى صوته من على حيزوم سفينة "لا بينتا" فرحاً، مرحاً ،جذلاً، وهو يقول بنبرة جَهورية ممطوطة وكأنه يغنّي : (الأرررض..الأرررض تبدو فى الأفق...) كانت هي اللحظة التي تغيّر فيها وجه التاريخ ومجراه..!. كولومبوس البحّار المغامر تؤكّد معظمُ المصادر التاريخية أنّ كريسطوبال كولومبوس المولود فى مدينة جِنْوة الإيطالية عام 1451، فى التاريخ المتراوح بين 1459-1481 بدأ سفرياته نحو السّواحل الأوروبيّة لتمويل مغامراته فى أعالي البحار ،وأقاصي المحيطات.كان بحّاراً مغامراً كبيراً وذلك على الرّغم من أنه كان يميل إلى العزلة، ويتحاشى الإختلاط . ومعروف عنه أنه في سنّ مبكّرة وهو بعد فى شرخ الشباب وريعانه (19 ربيعاً) إنضمّ إلى أوّل بعثة مسلّحة فى محاولة من ملك جِنْوَة "دانييرو دي أنجو"عام 1459 للسّيطرة على مدينة نابولي لصالح نجله حيث لم يفتأ يطالب بهذا العرش من الأراغونيين . وتصف بعضُ كتب التاريخ كذلك أنّ كولومبوس كان من القراصنة الكبار، وقد شارك فى عدّة مناسبات ضمن غارات على جِنوة، والبندقية ، وكان الرحّالة الإيطالي الشّهير "ماركو بولو" من أبرز شخصيات هذه الحروب والغارات أيضاً ، إشتغل كولومبوس فى صفوف فرسان البحر فى خدمة بلاده ما بين 1461-1465 حيث حصل على العديد من الغنائم منها عشرات السُّفن التي كانت تمخر عباب البحار والتي كانت تنتمي إلى البندقية ، كما قام بهجمات على المرافئ المغاربية فى شمال إفرقيا التي كان يعتبرها بعض الأوربييّن أوكاراً للقراصنة، ففى 1461 قاد كولومبوس سفينةً مسلّحةً إلى ميناء تونس بهدف إطلاق سفينة إسبانية أخرى كانت مُحتجَزة هناك من طرف قراصنة مسلّحين، وخلال هذه الغارة البحرية نجا كولومبوس فى عرض البحر بأعجوبة على إثر تمرّد قام به البحّارة الذين كانوا مرافقين له وأعلنوا العصيانَ عليه حيث فرّ بجلده إلى مدينة جنوة. عمل هذا المغامر كذلك كبحّار محارب لدى ملك فرنسا، وحاول من خلال ذلك الحصول على ثروة طائلة لتعاطيه التجارة، إلاّ أنّ مساعيه فى هذا السبيل باءت الفشل فى آخر المطاف. وفى 1479 إنتقل للإقامة فى البرتغال حيث شارك فى عدّة بعثات إلى السّواحل الإفريقية خاصّة إلى سواحل غينيا غرب إفرقيا ،وهناك إتضح له عبثية فكرة الوصول إلى الهند بالدوران حول إفرقيا، إذ لولا وصول كولومبوس فى خطٍّ متوازٍ إلى الأراضي الأمريكية فيما بعد لكان السفرُ طويلاً جدّاً بل ومُستحيلاً بالنسبة لمراكبه الشراعيّة . كان كولومبوس محارباً شجاعاً شديدَ المراس، كان مُثقلاً بالفضول، والتطلّع نحو إكتشاف آفاق بعيدة، وعوالم جديدة، ومجاهل نائية ،ومعروف أنّ غيرَ قليلٍ من المؤرخين والكتّاب،وحتى العامّة عملوا على حبكَ العديد من القصص، والحكايات التي حيكت، حوله وتحوّلت فيما بعد إلى أساطير، إلاّ أنّ شخصيته الحقيقية تظلّ محصورةً فى رجل بحّار طموح ، ومغامر كبير،كما أنّ هناك من المؤرّخين الثقات مَنْ يؤكّد أنّه لم يصطحب معه خلال رحلته الإستكشافية الكبرى إلى أمريكا الوسائلَ والأدوات العربية ( البَوْصَلة ، الأسْطُرْلاب ، الخرائط إلخ) وحسب، بل كان معه كذلك أناس من أصل عربي أو أمازيغي يُجيدون اللغةَ العربية لظنّه فى بداية الأمرأنه كان متّجهاً صوب الهند، وليس نحو قارّة نائية جديدة . هل هو لقاء أم إكتشاف..؟ يرى بعضُ المؤرّخين المُنْصِفين المتخصّصِين فى تاريخ أمريكا اللاتينية أنّه من الأخطاء التي يقع فيها بعضُ الكتّاب والباحثين فيما يُسمّى ب "إكتشاف العالم الجديد" قولُهُم - بعد أن أجازوا مصطلح "لقاء" بدلَ "إكتشاف"- بأنّ هذا اللقاء كان بين عالميْن أو ثقافتيْن إثنتْين وهذا حيفٌ بيّن،وتحريف صارخ، وخطأ واضح ، وحسب هؤلاء المؤرّخين أنّه من الإنصاف القول أنّ هذا اللقاء كان بين ّثقافاتٍ ثلاث وهي الأوربية، والأمريكية الأصلية إلى جانب الإرث الزّاخر والتأثير العميق للثقافة الإسلامية التي جاءت مع الإسبان الذين وفدوا على هذه الديار زرافات ووحداناً خلال وبُعَيْد الإكتشاف ، والهِجْرات المتوالية والمتعاقبة التي حدثتْ فيما بعد بشكل متواتر غير منقطع حيث أطلق على هذه الاراضي المكتشفة بعد ذلك ب"إسبانيا الجديدة" أو "العالم الجديد" . وإسبانيا الجديدة هذه لم تقم سوى على إشعاع، وآثار، وأرضية الحضارة الإسلاميّة المشعّة ،حتّى وإن صادفت نهايتها ( سياسيّاً) مع بداية الإكتشاف، إلاّ أنها كانت لمّا تَزَلْ قائمةً، متأصّلةً ،متغلغلةً، متجذّرةً فى مختلف مظاهر الحياة وداخل الأنفس، والعقول ذاتها. ففي ذلك الإبّان ،أيّ بعد تاريخ 12 إكتوبر1492 لم تكن الرّقعة الجغرافية الإسبانية خاليةً من العرب، والأمازيغ المسلمين، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده ،وهناك من آثر البقاءَ متظاهراً باعتناق الكاثوليكية ،والذين نجوا وبقوا سُمّوا بالموريسكيين ، الذين أُبعدوا هم الآخرون فيما بعد من ديارهم وموطنهم، والذين كان منهم أمهرَ الصنّاع، والحرفييّن، والمزارعين، والمهندسين، والعلماء، والمعلمين وخبراء الريّ، والفلاحة ،والبستنة، بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية،والقطاعات الأساسية، فى البلاد ليس فى الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفى مختلف مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصّة فى شمالها الشّرقي بيد المسلمين. هذه الحقائق التاريخية التي لا يرقى إليها ريب، تؤكّدها مختلف الوثائق،والمراجع، والمظانّ التي لها صلة بهذا الموضوع، فكيف والحالة هذه ألاّ يَحْمِل الإسبانُ الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا "التأثير"..؟ بل قد يصل بنا التساؤل والقول بأنّ هناك مِنَ المسلمين المغلوبين على أمرهم مَنْ هاجرخفيةً مع أفواج المهاجرين الإسبان ، وإلاّ مِنْ أين جاءت هذه الدّور،والقصور ذات الباحات،والساحات، والنافورات العربية التي بنيت فى العديد من بلدان أمريكا اللاتينية ..؟ بل ومن أين لهم هذه الأقبية، والأقواس،والمُقرنصات، والعقود، والشبابيك ذات الطابع الإسلامي البحت ؟ والأبعد من ذلك هذه الكنائس التي كانوا يبنونها غداةَ وصولهم ويظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح ،ولقد إستعملَ بعضُهم فنون وأشكال الخطّ العربي المحتوي على أشعار،وأقوال،وأمثال، وحِكَم، وآيات قرآنية إعتقاداً منهم أنها كانت من علامات الزّينة،والزّخرفة،والتنميق فى البيوتات الكبرى، والقصور فى إسبانيا، وتعلو وجهَ المرء إبتسامةٌ ممزوجةٌ بالرضى والمرارة معاً عندما تقع عيناه على بعضَ تلك الأشعار، والآيات القرآنية وقد وُضِعت مقلوبةً على تلك البلاطات، أو الرخامات،أو الخشب، أوالزلّيج..!. والحالة هذه، ما زالت هناك - ولا شكّ- صفحات مُشرقة للحضارة الإسلامية التي تألّقت، وإزدهرت، وسادت فى الأندلس،وعن مدى التأثير العميق الذي أحدثته هذه الحضارة فى الشقّ الجنوبي من القارة الأمريكية لم يُكشف عنها النقابُ بعد حتى اليوم،و ما فتئ التاريخ في كلّ مناسبة يميط اللثام عن مفاجآت ،وأخبار، وعن حقائق مذهلة لم تكن فى الحُسبان.** *عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا. **تحريراً بتاريخ 9 نوفمبر 2015 فى حيّ المَزمّة - أجدير- الحسيمة.