بينما كنت أمشي ذات مساء في أحد شوارع طنجة متجولا لا أعرف لي وجهة محددة ، طرق مسمعي صوت من داخل إحدى المقاهي الشهيرة ، فتلفت ناحية مصدر الصوت فإذا بي أبصر أحد أصدقائي يلوح لي بالدخول ، ثم إنني لم ألبث أن استجبت لندائه فدخلت المقهى ، ولم يكد صديقي الذي لم ألتق به منذ مدة طويلة يستقبلني مهللا في حبور حتى أشار علي بالجلوس معه في زاوية على مقربة من نافذة مطلة على الرصيف الذي كان يموج بالغادين والغاديات والرائحين والرائحات . جلست وصديقي نتضاحك ونتطارح الأحاديث ونتذاكر أيام الدراسة . كانت المقاعد المنتظمة داخل المقهى شاغرة إلا من شخصين ، أحدهما كان مكبا على جريدة يملأ خانات شبكة الكلمات المتقاطعة وبين أصبعيه سيجارة يدسها في فمه كلما استعصى عليه حل ، في حين كان الزبون الآخر مستلقيا على مقعد وثير وعيناه معلقتان على شاشة التلفاز الذي كان يبث مقابلة مسجلة في كرة القدم . أما في الخارج فقد استرعى انتباهي انتظام صف طويل من الزبائن الذين كانوا جالسين في ازدحام وتلاصق في على طول واجهة المقهي . كان الزبائن جالسين على مقاعدهم في سكون كجمهور مبهور ، لا يحادثون بعضهم إلا لماما ، يوزعون نظراتهم بسخاء واستمتاع على السائرين على ما تبقى من مساحة الرصيف التي ضيقتها مقاعدهم المتراصة . أما نادل المقهى فلم يكن يتردد عليهم ما دام يعلم أن مقاعدهم التي يحتلونها لا تستقبل غيرهم ، فهم لا يبرحونها إلا للضرورة القصوى ، لذلك فطلباتهم بالنسبة إليه لن تتجدد إلا ما تعلق منها بأكواب الماء . كانت أبصار أولائك الزبائن المتراصين في قارعة الطريق تجرف كل صغيرة وكبيرة يحتضنها الشارع الذي كان يعج في ذلك المساء بالسيارات والرصيف الذي كان يفيض بالناس بمختلف الأصناف والأشكال والألوان . في تلك الأثناء كنت أستمع بغير كبير اهتمام إلى صديقي الذي كان يحدثني عن مباريات الدوري الاسباني ، ذلك أنه برق في ذهني أثناء حديثه تساؤل عن سبب انتظام ذلك الصف المزدحم من الزبائن خارج عتبة المقهى في الوقت الذي كان الجو باردا وأغلب المقاعد داخل المقهى كانت شاغرة . استحثني الفضول على طرح السؤال على صديقي ، ففعلت ، غير أني فوجئت حينما قابل صديقي سؤالي بضحكة دلتني على أنه حسب أني أمازحه . فما كان علي إلا أن أعدت عليه طرح نفس السؤال لكن بنبرة لا تخلو من جدية . توقف صديقي بعد ذلك عن الضحك ثم أسر إلي بجواب بدا لي في الواقع غريبا وطريفا . ذلك أنه أعلمني أن أولائك الزبائن الجالسين يهرعون إلى تلك المقاعد الخارجية للمقهى كل صباح ومساء ويحرصون على الاعتصام بها لمشاهدة وتقييم ما يستهوي قلوبهم ، حتى إن منهم من يوصي نادل المقهى بحجز مقعده إن هو تأخر، فيضطر النادل لوضع مفاتيح على أحد المقاعد وكأس نصف فارغة على طاولة قبالته ليوهم الراغبين في الجلوس على ذلك المقعد بأنه محجوز . والحق أن جواب صديقي لم يشف غليل فضولي ، لذلك بادرته مرة أخرى بالسؤال عن سبب تسابق أولائك الزبائن على احتلال تلك المقاعد ، فانفرجت شفتاه عن ضحكة ثم أخبرني بأنهم أعضاء لجنة التنقيط والتقييم . والحقيقة أنني لم أستسغ مدلول كلامه الذي بدا لي أشبه بلغز ، ثم إنني ما كدت أطلب منه أن يوضح لي المقصود مما رمى إلي به من كلام ، حتى أشار علي بالتأمل في أولائك الزبائن وفي حركاتهم ونظراتهم . سموت بعد ذلك برأسي وأرسلت ببصري من خلال النوافذ الزجاجية العريضة إلى الجالسين استجابة لطلب صديقي . كانت رغبتي في فك شفرة كلامه متوقدة . بدأت بعد ذلك أرقب حركات أولائك الجالسين وأرصدها بتمعن . كانت نظراتهم في هدوء وصمت تشيع الغادين والرائحين ، لكن تلك النظرات كان يحلو لها فيما بدا لي أن تستقر على أجساد الغاديات والرائحات . لقد أبصرت أعناق أولائك الزبائن تشرئب ذات اليمين و ذات الشمال وعيونهم ترصد كل امرأة تطوي الرصيف الذي كان يضيق بالسائرين . ولعل المشهد اكتمل أمامي بما جعلني أقترب من فك شفرة كلام صديقي حينما مرت أمامهم فتاة بدينة ترتدي تنورة قصيرة ترتفع قليلا عن ركبتيها . كانت الفتاة ذات الشعر المنسدل المصبوغ والذراعين الحاسرتين البضتين والجسم المطهم تسير مترنحة بخطى وئيدة وهي تتأبط حقيبتها اليدوية وتتحدث عبر هاتفها المحمول بصوت مهموس ، في تلك الأثناء التأمت عيون زبائن المقهى المتراصين فطفقت نظراتهم تسرح طولا وعرضا في أرجاء جسد تلك الفتاة الثلاثينية . رأيت أحد الجالسين ينفث من فمه في استمتاع دخان سيجارته وهو يتفرس ويحملق بلا تورع في تلك الفتاة . لقد بدا لي وهو يعدل جلسته كأن انتعاشة سرت في أوصاله من شدة الإعجاب الذي تملكه .وأبصرت زبونا آخر طاعنا في السن ، تلوح على وجهه وهيئته سيماء الوقار والمهابة ، رأيته يختلس نظراته إلى نفس الفتاة وهو يرتشف الشاي على مهل بعد أن حرك فيما بدا لي ذلك المشهد كوامن قلبه حتى كاد ينضب ريقه . أما باقي الجالسين فقد رأيتهم يتطاولون بأعناقهم وبأبصارهم نحو الفتاة التي كانت تسير في دلال على الجانب الأيمن من المقهى ، وحينما ذرعت تلك الفتاة الرصيف وغابت وسط الزحام ، أقبلت فتاة أخرى من الجهة اليسرى من الرصيف تسير في أبهى حلة وأجمل زينة وهي تطرق الأرض بكعب حذائها العالي ، فتحولت الأعناق والأبصار كلها صوبها بشكل ذكرني بجمهور كرة المضرب . أبصرت بعد ذلك أولائك الزبائن واجمين ذاهلين يسددون إلى قوامها الممشوق نظرات فاحصة ثاقبة يمتعون أبصارهم بما يبدو من حسنها وهم لا يتحركون كأن على رؤوسهم الطير حتى أني خشيت على أثرها أن تفقد المسكينة توازنها أو يغمى عليها . كانوا يشيعونها بنظراتهم بإعجاب حتى إذا طوتها زحمة المارين عادت العيون إلى مقلها إلا عيني أحد الجالسين الذي كاد أن يرتد واقفا من شدة انجذابه وهو يتتبعها بقلب خافق و بعينين جاحظتين . والحق أنني اهتديت بعد تلك المشاهد إلى استخلاص المقصود مما رمى به إلي صديقي من كلام ، ذلك أنه خيل إلي بعد الذي أبصرت كأني جالس خلف أعضاء لجنة تنقيط وتقييم يتابعون مشاهد من عرض للأزياء النسائية خصوصا وأني رأيت بعض الجالسين يتبادلون الآراء والانطباعات والتعليقات حول تلك الفتاة في همس كما لو كانوا في جلسة مداولة ، بل إني أبصرت أحدهم بعد ذلك يومئ لزميليه برأسه وبعينيه إيماءة استحسان وإشادة فأدركت أن تلك الفتاة الممشوقة القوام قد عبرت رصيف العرض بنجاح وتميز ونالت علامة التنويه من طرف أعضاء اللجنة . ولعل مما استلفت نظري بعد ذلك هو أن بعض النساء كن تتحرجن من المرور أمام عيون أولائك الرقباء ، ولأجل ذلك كن كلما اقتربن من حدود تلك المقهى التي تحتل مقاعدها جزءا من الرصيف نكسن رؤوسهن وغضضن أبصارهن في خفر وحياء ، ثم نزلن في اضطرار إلى الشارع حتى لا تكن في موضع تقييم من طرف أعضاء لجنة التنقيط . والحقيقة أنني لبثت للحظات واجما أنظر إلى ذلك المشهد الذي أثار في نفسي خواطر وتساؤلات حول أولائك الأعضاء الذين صارت المقاعد الخارجية لتلك المقهى عصمة ومأوى لهم ، يفزعون إليها كل يوم ليحملقوا في غير تحرج في وجوه العابرين عامة وأجساد العابرات خاصة . كذلك استغرقت في التفكير في ذلك الأمر حتى نبهني صوت صديقي ليميل الحديث بنا بعد ذلك إلى مواضيع أخرى ، ثم إنني حينما بدأ الليل يبسط جناحيه على المدينة ودعت صديقي ثم خرجت من المقهى ومررت بعد ذلك أمام لجنة التنقيط ، ورغم أنني بادرت بتحية أحد معارفي الذي كان عضوا فيها ، إلا أنه لم يبال بتحيتي ، فقد كانت عدسة عينيه مصوبة كغيره من الأعضاء نحو إحدى العابرات .