بعدما ظفر بقسط من الراحة عقب يوم من العمل المضني في مصنع يضيق صدره كلما ارتاده، بارح عمر منزله، وكانت وجهته على مألوف عادته إحدى المقاهي في وسط مدينة طنجة حيث تبوأ مقعده في زاوية بجوار نافذة مطلة على الشارع العام، ثم نكس رأسه ودس وجهه في شاشة هاتفه الذكي الجديد الذي كان قد اشتراه قبل أيام معدودة بمبلغ يفوق ثمن أجرته الشهرية التي يتقاضاها نظير عمله الشاق. بينما عمر على حاله جالسا في مقعده يقلب نظره في شاشة هاتفه الجديد دنا منه نادل المقهى الذي نثر عليه ابتسامة لا تخلو من تكلف، فرد عليه عمر بابتسامة باهتة لا تقل عنها تصنعا أردفها بطلب فنجان قهوة قبل أن ينصرف من جديد إلى شاشة هاتفه. ظل عمر مستغرقا في النظر إلى شاشة هاتفه حتى طرقت أذنيه تحية سلام رفع على أثرها رأسه، فوقع بصره على رجل مهندم يهم بالجلوس على مقعد شاغر غير بعيد عنه. رد عمر التحية وهو ينظر إلى الرجل نظرة عابرة ثم عاد ليدس وجهه من جديد في شاشة هاتفه. جلس الرجل على مقعده ووضع رجلا على رجل ثم سوى جلسته وربطة عنقه ونظارته قبل أن يضع على الطاولة رزمة من المفاتيح، ثم بسط أمامه جريدة، حيث جعل ينقل نظراته إلى صفحاتها أو هكذا بدا. قدم النادل في تلك الأثناء ثم وضع على طاولة عمر فنجان قهوة وكأس ماء قبل أن ينعطف وينحني أمام الزبون الجديد ويسأله طلبه. وبعد ما بارح النادل المكان نحى الرجل الجريدة جانبا وأخرج من جيبه هاتفا محمولا ثم شرع يتكلم بصوت جهوري... كان حديث الرجل يترامى إلى مسمع عمر الذي انبرى يصيخ إليه باهتمام بعدما استشف منه ما يشي بأن المتكلم صاحب شركة. مكث عمر لحظات يصغي إلى حديث الرجل الذي كان يتكلم وهو يقوم من مقعده تارة ويجلس طورا في مشهد يوحي بأنه قلق ومنفعل. وفي لحظة، سما عمر برأسه ثم جرف الرجل في لمحة واحدة بنظرة فاحصة من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه.... كان الرجل حسن الطلعة، أنيق الهندام، ذا لحية مشذبة، تبدو عليه أمارات الاستقامة والرزانة ورغادة العيش... لم تنصرم إلا لحظات بعد ذلك حتى باغتت عمر الرغبة في أن يزدلف إلى الرجل المهندم ويجالسه، فقد يكون نصيرا له ومعينا على إيجاد عمل جديد يخلصه من ويلات عمله في المصنع البئيس الذي لا يدر عليه من المال سوى ما يسد به رمق عيشه هو وأسرته، ثم إن مجالسة صاحب شركة خير له وأجدى عليه من الانزواء لوحده مع شاشة هاتفه. ذلك ما كانت نفس عمر تحدثه به وهو يواصل إصغاءه إلى حديث الرجل. وفجأة أنهى الرجل مكالمته أو هكذا بدا وهو ينقل نظراته إلى عمر كأنه يخاطبه... كان الرجل يغمغم ويفرغ من فمه بعض العبارات التي تفصح عن امتعاضه من تصرفات أحد العمال في شركته. لم يملك عمر وهو يتلقف كلمات الرجل التي صادفت هوى في نفسه إلا أن حرك رأسه بالإيجاب وهو يبش في وجهه. شملت الغبطة عمر بعد أن تملكه شعور بأن القدر قد وطأ له الطريق لمجالسة الرجل صاحب الشركة. وازدادت غبطته بعد أن رأى الرجل يدفع بمقعده نحوه ويدنو منه حتى اتخذ مجلسه بجواره وتلامست كتفاهما. أودع عمر بعد ذلك هاتفه الجديد في جيب معطفه ليتفرغ لمجالسة الرجل. انطوت دقائق انبرى الجليس خلالها يعرف بنفسه ويتحدث عن شركته التجارية التي يديرها وعن بعض المشاكل التي تعانيها بسبب تقصير بعض العمال الذين يعوزهم، كما قال، الضمير الحي. كان عمر يلقي السمع باهتمام إلى حديث الرجل الذي بدا له خليقا بالاحترام، خصوصا أنه كان ينثر من حين إلى آخر من فمه بعض المواعظ وجميل القول. أحس عمر بأن مجالسة هذا الرجل المهندم الذي يشي حديثه بظرفه ولطفه وبورعه وعلو منزلته لا يمكن أن يخرج منها إلا بطائل، فرأى أن يغتنم هذه الفرصة ويفضي لجليسه بما يمور في قلبه بخصوص معاناته في عمله في المصنع البئيس. وفيما كان الرجل مستغرقا في حديثه عن شركته آنس عمر من نفسه جرأة على تقديم طلبه، فاعتدل في مقعده واستجمع رباطة جأشه ثم مال إلى الرجل يشكو إليه المتاعب التي يواجهها في المصنع الذي يعمل فيه. وبعبارات لا تخلو من مناشدة بل ومن استعطاف، طلب عمر من جليسه أن يشغله في شركته. وبلباقة وابتسامة، ربت الرجل على كتف عمر ووعده بتشغيله في شركته بعد أيام معدودة. شاعت في وجه عمر علامات البهجة وهو يتلقف وعد جليسه بتشغيله، فما ملك بعد ذلك إلا أن انهال على جليسه بالأدعية وبعبارات الشكر والامتنان حتى كاد أن يجف ريقه. طلب الجليس من عمر رقم هاتفه، فأملاه عليه هذا الأخير والدمع يكاد يلمع في عينيه. وكيف لا تدمع عيناه وقد امتلأت نفسه بالاعتقاد بأن جليسه سيجيب طلبه وسينيله وطره. وفيما كان عمر يبوح بمكنون ما يقاسيه من المتاعب في المصنع الذي يعمل فيه كان جليسه يتلفت وهو مرفوع الهامة يمنة ويسرة ويوزع نظراته في كل اتجاه إلى أن استقرت في وجوه الغادين والرائحين الذين كان الرصيف المحاذي للمقهى يموج بهم. وبغثة، هب الرجل واقفا وقطع حبل حديث عمر ثم استأذنه في الانصراف لدقيقة يلتقي خلالها بأحد المارين ثم يعود. ترك الرجل مقعده وخطا مهرولا نحو باب المقهى وهو يشور بيده لأحد المارين أو هكذا بدا حتى توارى عن النظر... ضرب عمر بعد ذلك يده إلى جيبه ليستخرج هاتفه الجديد يتلهى بالنظر في شاشته ريثما يعود الرجل الذي ترك جريدته وكأس الشاي الذي لم يرتشف منه ولو حسوة... فوجئ عمر وكست محياه غشاوة من الدهشة والذهول بعد أن ألفى جيبه فارغا... ارتد واقفا وهو يتحسس باقي جيوبه، لكن دون جدوى.. جعل عمر ينقل نظراته بين المقاعد والطاولة باحثا عن هاتفه المفقود لكن من غير أن يبدو له أثر... وقر في قلب عمر اليقين بأن الرجل انتشل هاتفه الجديد من جيب معطفه... مرق بعد ذلك نحو باب المقهى وثاب الخطى في مسعى للبحث عن أثر للرجل... طفق يذرع الرصيف جيئة وذهابا وهو يجيل عينيه في أرجاء الشارع... لقد اختفى الرجل... عاد عمر إلى المقهى ثم نادى النادل وسأله عن جليسه المختفي... أخبره النادل أنه زبون جديد ارتاد المقهى لأول مرة وأنه لم يدفع بعد حساب المشروب... تغيرت ملامح وجه عمر وشحبت حتى أحس وكأن الدنيا تدور به... لبث هنيهة وهو واجم يستحضر ما دار بينه وبين جليسه من حديث ثم غادر عتبة باب المقهى وهو يجر رجليه مخذولا مقهورا، ثائر الأعصاب، مهموم الفؤاد، ولا تزال تلمع في خاطره صورة الجليس المهندم الذي اطمأن إليه وسكن إلى مجالسته ولم يجر في ظنه أنه لص محتال، أما في مسمعه فلا يزال يطن فيه وعد الرجل بتشغيله وصدى جميل قوله. انصرف بعد ذلك عمر إلى حاله محطما بعد أن ألفى نفسه وقد فقد هاتفه الجديد واستحال الوعد المأمول سرابا .