مني حزب الاستقلال في الانتخابات الجماعية والجهوية في 4 شتنبر الأخير، وعند نهاية مسلسل انتخاب رؤساء الجهات والجماعات ومجالس العمالات والأقاليم ورئاسة مجلس المستشارين، بواحدة من أقسى الهزائم الانتخابية في تاريخه. لكن، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، فما يحتضر هي قيم حزب الاستقلال. فليس هناك عنف أقسى من العنف المُمارس على قيم حزب، عنفٌ يحتمله البعض عن جبن أو تراجع، فضلا عن أن الصمت بدوره يساهم بنفس الحجم في هذا العنف. إن وازع الضمير يقتضي عرض رواية مختلفة عن تلك التي روجت لها هيئات الحزب التقريرية حول وضعه السياسي. كما أنه من باب الواجب تجاه المجتمع إجراء تشخيص واضح للحالة التي توجد عليها هذه التشكيلة السياسية، من أجل رسم آفاق جديدة لها وتهيئ ظروف تجديدها. هذه الدعوة للتفكير تتطلب درجة من الموضوعية، حتى تُقرأ هذه السطور دون أحكام مسبقة أو تحيُّز، وتستوجب فكرا متحررا من أي إكراه أو تبعية. فحرية التفكير تبقى المخرج الوحيد عندما تتغذى الأزمة الداخلية لحزب ما على إنكار الواقع، وعلى زرع الشعبوية، وإذكاء التعصب وتبني العنف اللفظي. فشل على خمس مستويات لقد مُني حزب الاستقلال بفشل خماسي. فالهزيمة هي في نفس الوقت إعلامية، انتخابية، سياسية، نضالية ومعنوية. على مستوى التواصل أولا، فقَد الاستقلال معركة وسائل الإعلام، التي تساهم في توجيه الرأي العام، إن لم تكن تُشكِّله. إذ بالاستثناء "الطبيعي" للدعامتين الصحافيتين التابعتين للحزب، فقد ساهمت كل المنشورات الأخرى، مكتوبة كانت أم رقمية وكذا وسائل الإعلام السمعية البصرية، في بلورة صورة سلبية عن حزب الاستقلال. صحيح أن الإخلالات المتعددة التي لوحظت على صعيد الحزب سهلت المهمة لأصحابها : أخطاء في الإستراتيجية السياسية، خطاب فظ وعديم الاحترام لقواعد اللباقة السياسية، غياب نقاش فكري حول مشاريع بديلة الخ ... ثم على الصعيد الانتخابي، كان جواب المغاربة واضحا وصريحا. فقد وُجهت رسالة عدم الثقة لقادة الاستقلال، بثتها شرائح كاملة من المجتمع المغربي اعتادت تاريخيا على التصويت لفائدته. إنها شرائح حضرية وقروية، بورجوازية وشعبية، مكونة من عمال وأطر، مثقفين وحرفيين، شباب وأقل شبابا. لقد كان وقع هذه الإدانة قاسيا : فقد طُرد حزب الاستقلال من تدبير جميع جهات والمدن الكبرى للمملكة تقريبا. ثم إن الهزيمة سياسية، فعلى الرغم من مرتبته الثانية عدديا في الانتخابات الجماعية ب 5106 مستشارا ومركزه الثالث في الانتخابات الجهوية ب 119 منتخبا، فقد فشل حزب الاستقلال في سياسة تحالفاته. إذ عجز عن جمع أغلبية سياسية، منسجمة وتحظى بالثقة. فلا شك أن عدم المصداقية والخرجات الإعلامية المدوية لقيادته، قد ساهمت في استحالة هذه التحالفات. إن وقع الفشل الشخصي لزعيم الحزب فيما كان إلى وقت قريب معقله الانتخابي، والفوز الساحق لمرشح حزب العدالة والتنمية في نفس المعقل لهو تأكيد إضافي للهزيمة السياسية لحزب الاستقلال، التي لا يمكن أن تحجب فداحتها أي محاولة لصرف الانتباه أو التشهير بسلطات الدولة المكلفة بالإشراف على الانتخابات. كما أن هزيمة الحزب هي أيضا نضالية : فبالرغم من الضجة الناجمة عن خيبات الأمل المتلاحقة والارتباك الناتج عن المواقف الرسمية، ظل مناضلو الحزب عاجزين عن المطالبة باحترام الالتزامات بالاستقالة، المعلن عنها أمام الملأ من قبل الفريق المسير للحزب، أو عن التشبث بعقد مؤتمر استثنائي للنظر في مخرج للأزمة. هزيمة الاستقلال هي في الأخير معنوية، لأن اسم الحزب ارتبط بقضايا تزوير انتخابي، من بينها تلك المسجلة من طرف اللجنة الحكومية لمتابعة الانتخابات، والتي أسفرت عن متابعات قضائية في مواجهة 26 متهما، من ضمنهم 10 نجحوا في انتخابات مجلس المستشارين و6 منهم بلون حزب الاستقلال. بدون حكم مسبق من شأنه المساس بالقرار النهائي للقضاء، ودون خرق قرينة البراءة إلى حين يثبت العكس، سواء إزاء هؤلاء المستشارين أو بعض القادة الذين قد تكون وردت أسماؤهم في تقارير المجلس الأعلى للحسابات أو خلال التحقيقات التي يجريها القطب المالي للفرقة الوطنية للشرطة القضائية. فالأخلاق تحتم على كل مسؤول سياسي مشتبه به، الانسحاب مؤقتا من الحياة العامة، للدفاع عن شرفه وعدم تشويه صورة عائلته السياسية، طالما أن التحقيق لا زال جاريا. إستراتيجية سياسية متقلبة الأطوار الخيارات الاستراتيجية التي نهجتها القيادة أدت بالحزب في بداية الأمر إلى المشاركة في الأغلبية الحكومية، وإلى المعارضة الممنهجة والعقيمة، ثم العودة إلى المساندة النقدية للأغلبية، وفي نهاية الأمر، إلى هزيمة انتخابية وسياسية. بتصريحاته المتغطرسة وتصرفاته الطائشة وتقلباته المزاجية، غرق حزب الاستقلال في التفاهة. إن مكانة الحزب حاليا في المشهد السياسي المغربي تتطلب منه بلا شك الكثير من الرزانة وضبط النفس. عليه أن ينصاع أكثر من أي وقت مضى لواجب التواضع. لكن هذا لا يعني أن على مناضليه وأنصاره أن يلتزموا الصمت. لأنه ونظرا للمأساة التي حدثت أمام أعينهم، حيث أصبح خطاب القادة السياسيين متدنيا ومتدهورا ومهانا، وانتُهكت الإرادة الشعبية، وشُوهت الديمقراطية، وجب عليهم رفع أصواتهم. هذه الأصوات لن تكون ذات مصداقية ومسموعة من طرف المغاربة إلا إذا استطاعت إصلاح تنظيماتها السياسية من الداخل وإلا سينضاف العار للانتحار السياسي. مخطط استعجالي للآفاق المستقبلية أصبح اليوم من غير المحتمل بالنسبة للعديد من المناضلين رؤية حزب الاستقلال ينحدر خارج التاريخ ويفقد التحكم في مصيره في وقت يتوفر فيه على كل المؤهلات ليلعب دورا بالغ الأهمية في مغرب القرن الحادي والعشرين. فالأزمة السياسية، الأخلاقية والهوياتية للحزب لن تحل بخطب تاريخية أو بمناورات الأجهزة السياسية، ولكن بمبادرات تضمن لكل من المناضلين حماية قيم حزبهم، وللمتعاطفين، الحفاظ على مرجعيتهم الإيديولوجية وللمواطنين، الإستماع لمطالبهم السوسيو اجتماعية. فما دام كلام الهيئة المسيرة للحزب غير مسموع وعملها ضد تطلعات البلد، فقد أصبح عقد مجلس وطني استثنائي دون تأخير، أمرا لا مفر منه. ويجب أن ينصب جدول أشغال المجلس هذا على نقطة فريدة : التغيير الفوري لهيئات الحزب وتنصيب فريق مُصغَّر، على شاكلة مجلس مديري مُكون من ثُلاثي مُجدَّد من قياديين محنكين، مشهود لهم بالكفاءة والمثالية، والذي سيعهد له بوضع مخطط استعجالي وإدارة الحزب، بشكل جماعي ومؤقت، إلى غاية انعقاد المؤتمر القادم، مع استحضار الانتخابات المقررة سنة 2016 كأفق. ستكون مهمة هذا الفريق الجديد غير المسبوق، الإعداد لتنظيم مؤتمر قصد إعادة تأسيس حزب الاستقلال وذالك في احترام صارم لقواعد الشفافية والمساواة. سيكون مؤتمر الانبعاث، وسيعمل على ألا يعود الحزب مكان تبادل الاتهامات والمواجهات العقيمة لخدمة أنانيات مفرطة الحساسية في بحث يائس عن مناصب تافهة. كما ينبغي له أن يسهر على ألا يمسي الحزب مكانا للشكاوى والحنين إلى الماضي، حتى وإن كان له مجد، بل عليه أن يجعل الحزب إطارا للمناقشات وفضاء للقاءات الأيديولوجية والفكرية، للحوار ذي النزعة المواطنة وخصوصا في إطار العمل السياسي وبلورة مشاريع للمستقبل. المشروع المستقبلي ينبغي أن يكون التحضير لمؤتمر حزب الاستقلال فرصة لمناقشة المواضيع كلها وبدون طابوهات، المواضيع التي تهم حياة المغاربة ومستقبل الأجيال الشابة، بغية بناء مشروع مجتمعي جريء من جهة ووضع نموذج سياسي حداثي وبرنامج اقتصادي فعال من جهة أخرى. في هذا المشروع المجتمعي يجب ألا يكون فيه المغاربة مجرد ناخبين، بل مواطنين بكامل الصفة والأهلية، يتمتعون بكافة حقوقهم الفردية والجماعية ويتمتعون بالحرية السياسية، الثقافية، النقابية، العقائدية والفكرية. مجتمع مغربي لا تُزوَّج فيه الفتيات القاصرات، ويكون للنساء فيه حق التصرف في أجسادهن وإجراء عملية إجهاض ؛ مجتمع تُحترم في قانونه للميراث المساواة بين الجنسين ؛ مجتمع لا تُصدر فيه باسم الدولة أحكاما بالإعدام. مغرب حديث، حيث لا تصبح الوظائف السيادية للدولة، من تعليم، ثقافة، صحة، سكن، عمل وقوة شرائية، خيالا أو حقوقا منقوصة القيمة، ولكن واقعا مُعاشا لكل مواطن في علاقته اليومية مع المصالح العمومية. مجتمع مغربي يجمع كل أبنائه، لتوحيد رأيهم في قضايا كبرى وحول مفهوم مشترك للملكية الدستورية والديمقراطية، وللدفاع السلمي، ولكن دون التنازل عن الوحدة الترابية، إسلام المعرفة والتسامح، على نبذ التطرف والإرهاب الديني والهمجية، والدفاع عن الطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة. أما بالنسبة للنموذج السياسي يجب أن يعيد المصداقية للأحزاب السياسية، ويُسن إخضاع قادتهم للالتزام بالنتائج، وإجبارهم على كشف الحسابات وشفافية قراراتهم الإدارية، وأن يُفرض عليهم الالتزام بإشهار الممتلكات والمداخيل، وأن تُطبق عليهم قواعد التعارض، الحد من الجمع بين المهام. ولضمان استقلالية ونزاهة صُناع القرار، يجب أن يُشيِّد هذا النموذج كمثل جدار الصين بين المسؤولية السياسية والوظيفة السامية العمومية وعالم الأعمال. كما يجب أن يدفع هذا المشروع بالنخبة الفكرية، والعلمية والإدارية المغربية إلى تقلد أسمى المناصب في إدارة الشؤون العامة الوطنية وفي الدبلوماسية. يجب أن يقترح البرنامج الاقتصادي إستراتيجية بديلة تُمكن من تحفيز النمو وخلق مزيد من فرص العمل، تعزيز القدرة الشرائية للمواطنين وتشجيع الاستهلاك والادخار العائلي وتوسيع الوعاء الضريبي وزيادة عائد الضرائب ومكافحة التهرب والاحتيال الضريبي وتحسين نوعية الخدمات العامة والحد من التضخم الإداري وجعل الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية أكثر نجاعة وتحسين فعالية الموظفين ومكافحة الرشوة، التحكم في الدين العمومي وزيادة استثمار المقاولات وتطوير الابتكار التكنولوجي. كما يجب على هذا البرنامج أيضا تحديث السياسة النقدية وإصلاح النموذج الاقتصادي للبنوك والعمل على فرز جيل جديد من مسيريها، وإنشاء بنك عمومي للاستثمار ودعم الصناعة وإعادة هيكلة بورصة الدارالبيضاء والأجهزة والهيئات التنظيمية والرقابية على الأسواق المالية، الخ ... على حزب الاستقلال الجديد أن يصبح البديل الموثوق به لنخبة سياسية مصابة بمرض التَوَحُّد، متعصبة وعاجزة أمام صرخات الطبقات الشعبية المكتئبة المُتخلَى عنها، والتي اختارت أن ترتمي بكثافة هذه المرة في أحضان طرفين خطيرين على الديمقراطية : واحد، يجسده تنظيم ينصِّب الأخلاق الدينية كنموذج سياسي، والآخر، تحمله تشكيلة تعتبر الاستيلاء على السلطة السياسية دينا في حد ذاته. ومن أجل المغرب، من أجل الديمقراطية واستدامة المؤسسات السياسية، على حزب الاستقلال أن يتجدد. المواطنون يراقبونه بصرامة، وأنصاره ينظرون إليه بغضب ومعهم كامل الحق. فالوقت يداهمه، وعلى نخبه أن تتصرف بسرعة. يجب على حزب الاستقلال الجديد أن ينهض وبسرعة. لكن ليس هناك انبعاث من دون إصلاح، كما أنه لا توجد ديمقراطية دون حقيقة. ويجب إعادة صياغة الحقيقة لدفع الحزب نحو الأعلى، هذا هو التحدي الذي ينتظره مناضلوه. لا ينبغي أن يستهينوا بالعقبات التي تعترض هذه الخطوة، ولكن يجب أن تكون لهم الإرادة للتغلب عليها. في مواجهة أزمة الثقة وتجديد النخب التي تمر بها أسرتهم السياسية، عليهم أن يقدموا إجابات ذات مصداقية وداعية للوحدة، عليهم أن يتحركوا. وكما نجح حزب الاستقلال، بمؤسسيه وعلى رأسهم سي علال الفاسي، ونخبه ومناضليه في رفع تحديات تاريخية للبلاد، سيعرف الحزب اليومَ كتابة صفحة جديدة من تاريخ المغرب المعاصر وتأكيد دوره الريادي في خدمة القيم التي تعتمد عليها حرية وكرامة كل الشعب المغربي. الأمر رهين بالمناضلين، بأن يعمل ذكاؤهم الحزبي المشترك أخيرا، على التقارب ووضع تصوُّر مصير مشترك، مبني على الثقة والمسؤولية. ستمكنهم الجرأة من جعل هذا الانبعاث تثمينا لإرث تاريخي، واعترافا لترسيخ أخلاقي، وانتصارا لمشروع مُجتمعي وتساميا لمصير مشترك. ليست هذه الرؤية حلما ولا ضربا من اليوتوبيا، بل هي مجرد طموح من أجل بلدنا. الوقت يداهمنا. وعلى المواطنين التحلي بالإصرار وعلى المناضلين، التحرك.