كل ما نقوم به، من خلال هذا الموقع أو ذاك، هو مجرد قطرة في محيط سياسي عام، وهو مساهمة إلى جانب باقي المساهمات في ضخ نفس جديد في الحياة السياسية، وهو لا يتعدى نطاق مجهود ينضاف إلى باقي الجهود الأخرى، من أجل إعطاء معنى وتحديد غاية للمشهد السياسي. لكن، قد ينقص هذا المحيط وهذه الحياة وهذا المشهد، إن افتقد إلى هذه القطرة والمساهمة والمجهود. لأن تجسيد إرادة التغيير داخل المجتمعات، لا يتم إلا بالإقدام على الفعل ببساطة وتواضع، والأقوياء دائما هم من تحفزهم أهداف متحركة، ولا يصاب بالانهيار إلا من اعتقد أن عمله في منتهى الأهمية. لذلك فالخوف الذي يجب أن نحمي أنفسنا منه هو الخوف من أنفسنا. لقد أوحى لنا الأستاذ عبد الجليل طليمات، من خلال مقاله، "حزب الأصالة والمعاصرة: من هو؟؟؟"، أن السياسة تبدأ حين يطرح سؤالا يبحث بواسطته عن النظام فيما يبدو للعين المجردة سلسلة من الأحداث أو الظواهر العشوائية، لكنه تناسى أن هناك أسئلة عديدة يطرحها الناس الذين يفكرون من حين لآخر: ما معنى الحياة السياسية؟ وما هي الأحزاب السياسية؟ وهل للمشهد السياسي غاية وأهداف؟... وللقارئ أن يتصور كم سيكون مفيدا لو أن الأستاذ طليمات أجاب عن مثل هذه الأسئلة من موقعه الحزبي، وانطلاقا من أدبيات حزبه، وبناء على "مرجعيته الفكرية والسياسية والإيديولوجية، بما تعنيه المرجعية من شمولية في الرؤية والاختيارات، ومن ثوابت ومبادئ عامة موجهة للعمل السياسي والحزبي في كل تفاصيله". وبدل ذلك اختار أن يجعل من حزب الأصالة والمعاصرة مشجبا يعلق عليه كل الإعاقات والأعطاب المرتبطة بتجربته، وهو يعلم أن الهروب إلى الأمام لن يفيد في شيء، والضرورة تقتضي أن ينكب على تقييم وتقويم تجربته وأدائه، وبعدها تقييم تجارب الآخرين. وما حاول أستاذنا الجليل تغافله للتمويه عن قصد، هو أن كل واحد منا مطالب بأن يجد إجابات عن تلك الأسئلة وأخرى، إذا ما أراد قراءة أداء الغير، عبر الاطلاع على أدبياته، لأنه ببساطة عندما نعرف ما يفكر فيه الآخرون، بخصوص التوجهات والاختيارات والمبادئ والأهداف والأولويات... يؤدي بنا ذلك إلى فهم أفضل لذلك الغير، ويؤدي بنا إلى فهم أنفسنا، وإلى صياغة أفكارنا الخاصة عن الحياة السياسية. وقد كنت أنتظر أن تكون انطباعاته بخصوص غياب الهوية والمرجعية لدى حزب الأصالة والمعاصرة مسنودة على الأقل ببعض من قراءاته وتأويلاته لما جاء في أدبيات هذا الحزب، كي يتضح لنا أنه على اطلاع، ولكي يتبين لنا أنه قادر على فهم هذا المغاير له وما يفكر فيه ويصبو إليه. لكن، اتضح أن عدم استناده إلى أدبيات الحزب يفسر عدم فهمه من جهة أولى، ويشرح عدم قدرته على تحديد موقعه والمسافة بينه وبين الحزب المغاير من جهة ثانية، ويبين أنه بعيد كل البعد عن مستوى صياغة أفكاره الخاصة عن الحزب وعن الحياة السياسية بصفة عامة من جهة ثالثة. لذلك، فمن العادي أن يَعْتَبِر "نشأة هذا الحزب ومساره غير عادي"، ومن العادي جدا أن يتبين له أن هدف هذا الحزب يكمن فقط في "تحقيق موقع انتخابي وسياسي دون حجمه وقدره"، كما أنه قد يكون عاديا تخيل الأستاذ عبد الجليل طليمات أن مهمة هذا الحزب تتحدد أساسا في "مواجهة" التحالف القادر على القيام بمهام التغيير في المرحلة، المُشَكَّلِ من اليسار والمحافظة الدينية. بل ومن هذه المنطلقات، يمكن أن تختلط الأمور عليه فيذهب إلى أبعد من هذا ويعتبر أن كل ما قام به هذا الحزب هو "التلاعب بإرادة الناخبين وتمييع التحالفات وخلط الأوراق بشكل مقرف". وعلى الرغم من أني أعرف كونه قارئا نَهِمًا، إلا أنه بخصوص حزب الأصالة والمعاصرة أظهر عدم اطلاعه على أدبياته، وعدم تتبعه لإصداراته، وبذلك سقط في حبال عدم القدرة على تفسير الأحداث نتيجة نقص المعطيات والمعلومات، وتسبب له ذلك في السقوط في هذا النوع من التفكير غير السوي، الذي عادة ما ينتشر في الأوساط المنغلقة فكريا. كما أظهر نوعا من التحامل على هذا الحزب حين صب كل النعوت القدحية على ممارسته السياسية في الانتخابات الجماعية، دون أن يكون له ما يسند ميدانيا وعمليا وقانونيا كل ادعاءاته، ودون أن ينضبط لقواعد التنافس الديمقراطي، ودون أن يكون في مستوى المنافس الذي يعترف بالنتائج ولو لم تكن في صالح موقعه الانتخابي. وفي اعتقادي المتواضع، كان أحرى بالأستاذ من موقع فاعليته السياسية لَمَّا تواجهه مشكلة ما، أن يبحث عن أسبابها ويفكر في الظروف التي سببتها، بدل أن يتوجه إلى حزب الأصالة والمعاصرة باللائمة، وأن يفكر في مشكلته ومشكلة تنظيمه السياسي نفسه، بدل ركوب صهوة تقدير ذاته والاعتبار بسداد وصحة رأيه، والحط من مكانة الغير واعتباره مصدر كل الأخطاء والشرور. وبناء عليه، يمكنني تذكير الأستاذ عبد الجليل طليمات، لأجل رفع اللبس الذي ظهر جليا في انتقاداته لحزب الأصالة والمعاصرة، عبر النقاط الأساسية التالية: فبخصوص نشأة الحزب: لا يخفى على أستاذنا الجليل، وهو معاصر لنشأة حزب الأصالة والمعاصرة، أنه تأسس بعدما دخلت بلادنا حقبة تاريخية جديدة، تمثلت إحدى أبرز معالمها في تجاوز النزاع حول شرعية المؤسسات، وتكريس الإجماع الوطني حول ثوابت الأمة المغربية والدولة الوطنية. وبعد ذلك تلاحقت مبادرات وديناميات تكثفت فيها معاني التحول النوعي. ولئن كانت تجربة التناوب التوافقي قد شكلت تجسيدا لانفتاح النظام السياسي المغربي، وبداية انتقاله الديمقراطي، فقد أشرت على دخول المغرب مرحلة "انتقالات متعددة". لكن، وعلى الرغم من أهمية كل الخطوات الإيجابية، المؤدية إلى تحقيق مكتسبات وإطلاق ديناميات، فإن أسباب القلق بقيت ماثلة، خاصة أمام بروز العديد من الظواهر؛ منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي... من قبيل: استمرار دوائر الفقر والبطالة والهشاشة، وتراجع القدرة الشرائية، وتدني مكانة الطبقات الوسطى، واتساع دائرة الاحتجاج ذات الطبيعة الاجتماعية؛ تنامي دعاوى الإقصاء والنزعات العنصرية ونزوعات الكراهية والتعصب والانغلاق واتساع دوائر التيئيس؛ استمرار أشكال مختلفة من اقتصاد الريع والاقتصاد غير المهيكل؛ العزوف السياسي الذي طبع بعض المحطات الانتخابية، واستمرار مسلسل إفساد المحطات الانتخابية رغم التوجه العام للدولة الرامي إلى ضمان انتخابات نزيهة وشفافة؛ الخصاص الحاصل في مجال التأهيل الحزبي وعقلنة التعددية وإرساء القطبية الواضحة والمنسجمة. وضع حابل بإمكانات تقدم حقيقية لبلادنا، ومنذر في نفس الوقت بأخطار ماثلة تهدد بإضعاف وعرقلة كل المكتسبات، ما كان إلا ليضع الجميع أمام مسئوليات تاريخية لا تدع مكانا لأنصاف الحلول والمواقف، فكان ما كان من تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة في ضوء هذا السياق الوطني العام. وإذا لم تكن الأحزاب السياسية ذات المشروعية التاريخية قد استشعرت هذه اللحظة، أو لم ترتب لها ما يستدعي القيام بالمهام المنوطة بها حسب انتظارات اللحظة ذاتها، فأعتقد أن الأمر يتعلق بشأن لم تكن هناك إمكانات الفعل ولا التأثير فيه بما تقتضيه المرحلة التاريخية من جدية ومسؤولية وحزم، وإلا اعتبر ذلك تحكما. لذلك، لم يأت حزب الأصالة والمعاصرة من فراغ، كما شاء الأستاذ طليمات أن يعتقد، ولا جاء نتيجة رغبة ذاتية تتوخى تحصيل منافع ضيقة، بل كان تعبيرا عن حاجة موضوعية استشعرتها شرائح متعددة من الفعاليات السياسية والمدنية، قررت تجميع طاقاتها لإسناد وإغناء الاختيار الديمقراطي الحداثي. وبخصوص اختيارات الحزب: ما جمعنا آنذاك ومهد لاندماجنا في حزب واحد، وجعلنا نستجيب للعرض السياسي الذي أطلقته "حركة لكل الديمقراطيين"، هو وعينا بضرورة الدفع باتجاه إرساء أسس التعددية الفاعلة المنتجة، وبناء تقاطبات سياسية كبرى، تسمح للتباري السياسي أن يصبح ذا معنى أكبر وذا أثر على ترسيخ المؤسسات وتعزيز دورها في البناء الديمقراطي. لقد أقدمنا على خطوة التأسيس موقنين بأن إسهاماتنا المتفرقة لا يمكن إلا أن تتقوى في صيرورة الاندماج في حزب الأصالة والمعاصرة. ورهاننا كان يكمن بالأساس في الانفتاح على كل الكفاءات والفعاليات المنتمية إلى جهات المملكة، والتي تجد في حزب الأصالة والمعاصرة مجالا ملائما لممارسة حقها في المشاركة في تدبير الشأن العام، وتستشعر حاجة شعبنا إلى إطلاق وحفز كل طاقات أجياله الجديدة للمساهمة بعزيمة وثقة في بناء مستقبل بلادنا الواعد، عبر أداة تنظيمية غير ممركزة، قادرة على ضمان صلاحيات حقيقية للتنظيمات الجهوية، وعلى المساهمة في تجاوز سلبيات التصورات التنظيمية المركزية التي تهمش النخب الجديدة وتكبح التداول على المسؤولية. ومن ناحية أخرى فان التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعولمة، ورهانات الاندماج الايجابي في الفضاء الأورومتوسطي، وتشرذم المحيط الجيوسياسي المباشر وتنامي المخططات التخريبية به، كلها عوامل استوجبت خروج قوى الحداثة والديمقراطية الجادة عن صمتها وتحملها لمسؤولياتها وضم إرادتها لكل الإرادات والطاقات الايجابية التي تزخر بها بلادنا. وحزب الأصالة والمعاصرة من منطلق وعيه بضخامة هذه التحديات، كان ولا يزال رهانه الأساسي هو المساهمة في استنهاض وتحرير طاقات الشعب المغربي وقواه الحية، من نخب جديدة وفئات اجتماعية منتجة وفاعلين في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية... لكي تخرج عن سلبيتها وتقرر مصيرها بنفسها. كنا ولا زلنا نطمح إلى إثبات قدرة العمل الحزبي المغربي، كيفما كانت اختيارات الفاعلين وقناعاتهم الفكرية والسياسية، على إنتاج النخب القادرة على التنافس الشريف والتداول على المسؤولية في ظل بناء مؤسساتي قوي قادر على مواجهة مختلف التحديات التي تواجه بلادنا، ونراهن على الدور النوعي لمنظمات المجتمع المدني ولحيوية موقع الشباب والنساء في ذلك. كما كان طموحنا ولا يزال يتجه إلى إثبات صحة الفكرة القائلة بأن قوة المؤسسات المنتخبة ومصداقيتها تكمن في الطاقات التي تتمرس داخل الأحزاب السياسية الوطنية والخبرات التي تتراكم داخلها، والتي تؤهلها ليس فقط للاضطلاع بالمسؤولية في تدبير الشأن العام، بل لابتكار الأفكار الجديدة لتطوير البناء المؤسساتي والدستوري، الذي تحتاجه البلاد في كل المراحل المفصلية من تاريخها. فيما يخص تقريري الإنصاف والمصالحة والخمسينية: لا يعتبرهما مرجعية لحزب الأصالة والمعاصرة إلا من لم يطلع على أدبياته، ولم يتتبع إصداراته وتصريحات قادته. خاصة وأن الحزب أوردهما في سياق الحديث عن الأوراش المفتوحة التي أطرتها مقاربات تشاركية وواكبتها حوارات عمومية، التي تزامنت مع ما عرفته بلادنا من مجهودات تقييمية واستشرافية ساهمت فيها كفاءات وطنية من مختلف التخصصات، مست عددا من المجالات الحيوية، وتناولت بالدراسة والنقد والاقتراح، اختيارات السياسات العمومية المتبعة منذ الاستقلال، كما تزامنت مع تعاطي الدولة مع ملف انتهاكات حقوق الإنسان. وقد تجسدت على وجه الخصوص في تقرير الخمسينية وتقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، وهما التقريران اللذان اتسما بنفس نقدي موضوعي، وتقدما أمام الرأي العام بمجموعة من التوصيات البناءة وأكدا الإرادة السياسية لأسمى سلطة في بلادنا، للمضي قدما، بالاستفادة من هذه الدروس، في تدعيم الإصلاحات وترسيخ البناء الديمقراطي وإعطاء دفعة نوعية لمشاريع التنمية المستدامة. لذلك، فإذا جاز أن نعتبر أن هذه الصياغة يمكن حملها على أنها تفيد بأن التقريرين يشكلان مرجعا وطنيا على مستوى الاسترشاد في مجال السياسات العمومية، فإنها لا تسعف، سواء من خلال منطوق النص أو مفهومه أو اقتضائه، في أن تُقْرَأ أو تؤول على أن الحزب يعتبرهما مرجعية فكرية أو سياسية أو إيديولوجية. ومن ثمة أصبح لزاما على الأستاذ طليمات أن يبحث عَمَّا أو مَنْ تسبب له السقوط في هذا المطب المعرفي، الذي لا وجود له سوى في ذهنه ونسق تحليله المتحامل على حزب الأصالة والمعاصرة وعلى تموقعه السياسي والانتخابي. أما بخصوص العلاقة مع الأحزاب الوطنية: سواء ذات المشروعية التاريخية، أو ذات المشروعية النضالية، أو تلك التي تفرض مشروعيتها من قوتها الاقتراحية أو العملية، فإن حزب الأصالة والمعاصرة لا يتموقف منها ولا يتموقع إزاءها، إلا بقدر ما يحصل من تقاطع أو تنافر على مستوى المبادئ والتوجهات والأهداف والأولويات. لأن التنسيقات والتحالفات بين الأحزاب السياسية تعد معبرا ضروريا لتموقعها وتطبيق برامجها، على أساس تقارب الأهداف والبرامج. وفي ما يخص الحزب، فإن المنطلق الذي يحكم تصوره وممارسته في هذا المجال ينبع من عاملين أساسيين: الأول ويتعلق بمرجعيته الإستراتيجية البعيدة المدى، والمتمثلة في تبنيه للاختيار الديمقراطي الحداثي، أما الثاني فيتمثل في تعامله مع معطيات تموقع الهيئات السياسية. فليس لدى الحزب نظرة قبلية دوغمائية عن الأحزاب السياسية، بل ما يحكم تنسيقاته وتحالفاته الممكنة هو مدى انخراط تلك الهيئات أو القوى في الاتجاه الذي يحكم اختياراته الأساسية التي ينتظمها المشروع الذي يتبناه. وفي هذا الصدد، فإنه ينفتح على جميع القوى السياسية والمدنية التي تدافع عن دمقرطة وتحديث المجتمع والدولة المغربيين، بما يعنيه ذلك من التزام بقضايا حقوق الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة وإقرار العدالة الاجتماعية. وضمن هذا السياق فإن الحزب يعارض كل القوى التي تشكل عائقا أمام الأهداف السابقة الذكر، وهي القوى التي تعمل على تأبيد اقتصاد الريع والرشوة والتهرب الضريبي ونهب المال العام وإفساد الحياة السياسية بمختلف طرق الترغيب والترهيب وشراء الذمم، ونشر روح التيئيس، واستغلال الدين أو أي مكون آخر من مكونات الهوية الوطنية. إن تصور حزب الأصالة والمعاصرة للتنسيق والتحالف ينطلق من واقع التحولات التي طرأت وتطرأ على النسق الحزبي المغربي فكرا وسياسة وتجربة تنظيمية وعلى تطوراته المحتملة، في عالم لم يعد يقبل التصورات والتصنيفات الجاهزة، ويتطور بتسارع مطرد ويضع مجمل البلدان أمام تحديات الحفاظ على كيانها الوطني ورفع رهانات التنمية وترسيخ الديمقراطية. من هذه الزاوية، وفي سياقات هذه التحولات، فإن حزب الأصالة والمعاصرة، الحريص على استمرار تبوُّء بلادنا مكانتها بين الأمم في عالم اليوم، يعتبر مجال العمل المشترك من مبادرات سياسية ومواقف مشتركة وبرامج عمل وطنية أو جهوية، داخل المؤسسات وخارجها، تنبني على مقاربة واقعية، تسمح بتحقيق التقدم في المجالات السالف ذكرها مع الفاعلين السياسيين بقدر الاتفاق على البرامج والمواقف أعلاه. فالمنحى الحداثي الديمقراطي الذي يتبناه الحزب كما بيناه أعلاه، باعتماد الديمقراطية روحا وممارسة، والحداثة أفقا مع الحرص على عمقه الأصيل، يضع الحزب في نطاق طاقات وقوى الحداثة والديمقراطية في بلادنا، وهو يراهن على إدراك هذه القوى كيفما كانت تجربتها ومجال اشتغالها كي تقدر الأهمية التاريخية لالتئام صفوفها وتفاعلها في قوة اجتماعية سياسية قادرة على حماية مكتسبات بلادنا والدفع بها أشواطا أخرى في مجال التنمية والتحديث والدمقرطة. لذلك يبقى نعت حزب الأصالة والمعاصرة ب"العداء للأحزاب الوطنية ذات الشرعية التاريخية والنضالية المتجذرة في التاريخ الوطني والذاكرة الجماعية" مجرد عملية توهم قابعة في ذهن الأستاذ طليمات، لا أساس لها في أدبيات الحزب ولا في ممارسته السياسية، بحيث يصعب إن لم نقل يستحيل تأكيد هذا المعطى، إلا من زاوية ما تعرفه الساحة السياسية اليوم من مزايدات فارغة ناتجة عما تفرزه نتائج المحطات السياسية من أحقاد وضغائن مجانية. على سبيل الختم: المفروض، أن نفضل انتماءنا لهذا الوطن، قبل غيره من الانتماءات، لأن الإدراك يأخذنا إلى هذه الرقعة التي أحببناها ولا زلنا، والوعي يحذرنا من قتل جدوة الأمل فينا وحماسة الطموح. فنحن، وعلى الرغم من اختلاف انتماءاتنا، راغبون في عيش يحفظ الكرامة والحرية دون قيد، والمساواة دون تمييز، ويوفر حسب الإمكان التاريخي والحضاري والقيمي أجواء التضامن والتسامح لا أقل ولا أكثر. ولنكن مستوعبين أننا لم نولد مستعدين لفقدان جمالية هذه الحياة، أو التفريط في شروط التشبث بالرغبة في البقاء، أو التعرض للأذى والضرر، بسبب تصرفات غير مسؤولة، أو بسبب أخطاء غير مقبولة، ولا قابلين لأن تكون انتماءات ما دون الوطن على هذا القدر من القبح كي تضيِّق علينا مساحات الاستمتاع برحابة وسعة رقعة هذا الوطن. لم نرضع من أثداء أمهاتنا، ولم نقتد بآبائنا وأجدادنا، ولم ننهل من مناهج وبرامج مدارسنا، ولم نخلص في تجارب حياتنا، ولم نتلاقح مع باقي حضارات وثقافات عالمنا، إلا لنوثق لعلاقاتنا وتفاعلاتنا قبل تاريخنا طبعا بذاك القدر اللازم من الجهد والعمل الشاق للوصول بنا وبوطننا إلى القمة، أو الاقتراب منها على أقل تقدير. علمتنا الحياة بأن الاهتمام ينبغي أن ينصب على الأهم قبل المهم، والمهم قبل الأقل أهمية، أما التافه من الأمور سواء في غيرنا أو فينا فشأنه مكفول للزمن، فهو الشافي والكافي لمن ولما لا إجابة له في لحظتنا. وفي حالتنا الوطنية: أَمِنَ الضرورة أن نكون على قدر من القبح والتسلط والتنكر والإيذاء كي ندخل معترك السياسة؟ فكم هي كلفة التنازلات التي تلزم البعض منا، فقط كي نُمَتِّع الناس بحقوقهم؟ وكم هو الجهد الذي يلزم البعض منا، فقط لنقدر الناس ونحترمهم؟ وما الذي يلزم البعض منا، فقط لنمكن الناس من حرياتهم؟ وكم يحتاج البعض منا في الأخير من تواضع، لبلورة الخطط والبرامج والوقت والوسائل فقط لنتخلص من آفة قمع الناس وإرهابهم؟