في صيف السنة الماضية، كنت في منزلي بأحد أحياء مونتريال، وأمامي حاسوبي أبحر عبره بين مقالات عن السياسة الكندية، فوجدت تقريرا مفصلا عن الحزب الليبرالي الكندي، وتاريخه، وبرامجه، ورئيسه الحالي "جاستن ترودو". وجدت الحزب ملفتا للانتباه بأفكاره، برامجه، أنشطته، وأيضا سيرة رئيسه جاستن، فولجت موقع الحزب، وبدأت في ملء استمارة العضوية إلكترونيا، ودفعت مبلغا زهيدا عبر بطاقتي البنكية الإلكترونية كتبرع مني للحزب، وفي ثوان وصلني "إيميل" يرحب بي عضوا في الحزب الليبرالي الكندي. أسبوعيا كانت تصلني رسائل إلكترونية، ويوميا ينشر الجديد على حسابات الحزب في "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"؛ كلها عن أنشطة الحزب، وتحركات جاستن، والتجمعات الحزبية في مختلف مقاطعات كندا، ولقاءات التبرع من أجل الحزب، وطلبات التطوع من أجل أنشطته، وأفكار عن كيفية دعمه، وبرامجه، ورئيسه جاستن... كان جاستن مصمما على أن ينهي ما يقارب عشر سنوات من حكم المحافظ ستيفن هاربر، وأن يعيد الاعتبار للحزب الليبرالي الكندي بعد هزيمة نكراء في 2006، ويصبح رئيس وزراء كندا الجديد، وفي 19 من أكتوبر 2015، حقق المصوتون حلم جاستن ترودو، وحلمهم في قلب صفحة ستيفن هاربر، فمنحوا الحزب 188 مقعدا، وهو رقم يتجاوز رقم 169 الواجب توفره لتحقيق الأغلبية... منح المصوتون جاستن التفويض ليصنع كندا جديدة، شعارها "كن واقعيا، واطلب المستحيل". يبلغ جاستن ترودو من العمر 43 سنة، وهو زوج مذيعة تلفزيونية، وأب لثلاثة أطفال، وابن رئيس الوزراء الأسبق، والأكثر شهرة، "بيير ترودو"، والذي يحمل أكبر مطار في مونتريال اسمه. في سنته السادسة، انفصلت والدته عن والده حين كان رئيسا لحكومة كندا، وفضلت ترك منصب زوجة رئيس وزراء البلاد، والرحيل إلى جنوب المغرب، بعيدا عن السياسة. هذا الانفصال لم يؤثر سلبا على جاستن، الذي يقول إنه يتفهم رغبة والدته، كما تفهم طموحات والده. أصبح ترودو نائبا برلمانيا لدائرة بابينو سنة 2008، وتمت إعادة انتخابه مرتين، وكان مسؤول الحزب عن الشباب والتنوع الثقافي، المواطنة والهجرة، التعليم الثانوي، والشباب ورياضة الهواة. مسار ترودو الدراسي والمهني كان محط انتقاد المحافظين، لكن هذا المسار يحيل على فتى منفتح على كل أشكال التعلم والممارسة، فقد حصل جاستن على إجازة في الآداب، وأخرى في التربية، وعمل معلما للفرنسية والرياضيات ثم الدراما، ليعود إلى دراسة الهندسة، ثم يحصل على ماستر في جغرافيا البيئة ليلتحق بالوظيفة العمومية. كان جاستن يعرف كيف يحول مآسيه الشخصية إلى طاقة إيجابية، فبفقدانه والده سنة 2000 سيزيد من نشاطه في الحزب الليبرالي الكندي، وسيسرق الأضواء داخله، إلى أن تم دعمه ليصبح رئيسه، وهو في سن ال41. وبفقدانه أخاه في "حادث ثلجي"، سينطلق جاستن في عالم "النضال"، ويصبح ناشطا لصالح وضد عدد من القضايا الاجتماعية والطبية والبيئية أيضا. في نشاطه النضالي، كما في نشاطه السياسي، أبان جاستن عن ملكة في الخطابة، حتى دخلت عدد من أقواله التاريخ السياسي لكندا. كما اتسم نشاطه النضالي بالكثير من الإبداع في جمع التبرع لصالح قضايا خيرية يدعمها، إذ لم يتردد في النزول إلى حلبة الملاكمة في حملة تبرع ضد المحافظ باتريك برازو، كما لم يتردد في "التعري" من أجل جمع تبرع لصالح مرضى التهاب الكبد. جاستن، الحالم بكندا يكون فيها التنوع الثقافي سببا وليس نتيجة، هو نفسه ابن عائلة كندية فرنسية بريطانية اسكتلندية، مع قرابة ماليزية سنغافورية اندونيسية، لذلك كانت أغلب الأصوات الممنوحة له في الانتخابات الرئاسية من "المهاجرين"، ولذلك وجه رسالة مفتوحة ينتقد فيها دعوة "الكيبيك" إلى الاستقلال، وتأسيس دولة كيبيكية مستقلة عن كندا الفيدرالية. فجاستن يعتبر أن مفهوم "النشيوناليزم" قد ولى، وأن النجاح هو من نصيب الدول التي تنفتح على التنوع بمختلف أشكاله. يدافع جاستن ترودو عن حرية العقيدة، وكان شرسا في خلافه مع ستيفن هاربر، الذي ركز في حملته الانتخابية على "منع النقاب"، والاستمرار في "الحرب على الإرهاب". فجاستن يريد كندا تحتوي كل الاختلافات بدون خلافات، ومن المنطلق نفسه يدعو في برنامجه الانتخابي إلى كسر قانون المحافظين الذي يعاقب على استهلاك الماريخوانا، إذ يعتبر أن تقنينها وفرض ضرائب عليها سيقلل عدد المتعاطين لها، وسيكسب خزينة كندا أموالا تستثمر في البحث العلمي. لذلك، وفي الوقت الذي كان فيه عمدة تورنتو يعيش ضغوط مطالبته بالاستقالة، بسبب "فيديو" له وهو يدخن الماريخوانا الممنوعة قانونا، كان جاستن يقر بأنه لم يمانع في تدخين القليل من الماريخوانا مع بعض الأصدقاء في منزله، وحين كان أطفاله بعيدين في منزل جدهم. جاستن ترودو، الشاب الليبرالي، أو "صاحب الشعر المموج" كما يوصف في الصحافة الكندية، يصنف كأول رئيس وزراء يحمل وشما، فمنذ كان في سن ال 23 رسم وشما على كتفه الأيسر على شكل كرة أرضية، وفي سن ال40 أحاطه برسم لغراب على طريقة شعوب شمال شرق المحيط الهادي. منذ دخل مضمار السياسة وجاستن ترودو لا يكف عن صنع الحدث في كندا الهادئة، ولم يكن انتخابه رئيسا للوزراء نهاية خبرته في أن يتصدر عناوين الإعلام الكندي، فقد اختار أن ينزل في أول يوم له كوزير أول إلى إحدى محطات المترو بمونتريال، وهناك وقف يصافح المارين المتفاجئين برؤيته بينهم، ليقوم لهم "شكرا على تصويتكم....شكرا على ثقتكم". ولجاستن أقول شكرا لك لأنك منحتنا متعة الفرجة السياسية بدون ابتذال، ولا ابتزاز، ولا تراشق اتهامات، وإنني بانضمامي للحزب الليبرالي الكندي أشبعت ذاك الفراغ الذي لم تستطع أحزاب بلدي الأم إشباعه، وعرفت أن عزوفي السياسي في بلدي ليس إلا تعبيرا عن خيبة أمل حاولت معالجتها بالانضمام إلى حزب سياسي في بلد المهجر. شكرا جاستن...في انتظار أن يرفع شعار "لنتحد الخوف بالأمل" في المغرب. *مستشارة في الإعلام والتدريب