إن تنظيم داعش يعتبر ظاهرة شاذة في المنطقة العربية الإسلامية، ما دام أنه يختلف بشكل جذري عن الحركات الراديكالية التي شهدها السياق الإسلامي أثناء العقود الأخيرة، من حيث أنه لا يتواني عن التكفير والتهجير وهدر الدماء دون أي تمييز بين المسلم وغير المسلم، بين البريء والجاني وبين المظلوم والظالم، بيد أن السؤال المهيمن في النقاش الدائر حول هذه الظاهرة كثيرا ما يركز على من يقف وراء هذا التنظيم والعوامل التي أدت إلى ظهوره، وليس على ما يقوم به هذا التنظيم؛ على من صنع داعش، وليس على ما تصنعه داعش! وكأن العين أضحت معتادة على رؤية مشاهد الدم المراق، وقوافل اللاجئين التائهة، وصور الطفولة المشوهة، فانصرف السؤال إلى غير ذلك؛ ليس إلى (ماذا) يحدث؟ وإنما إلى (لماذا) يحدث ذلك؟ فاعتصم العرب والمسلمون بلام (لماذا؟)، وهم يغضون الطرف عن (ماذا؟) يحصل على أرض الإسلام والعروبة! فضاعت الحقيقة في ردهات السؤال عن السبب، عوض السؤال عن الكروب التي ألمت بالإنسان والمجتمع. وقد جارينا بدورنا التيار الفكري السائد، وتساءلنا عن السبب حتى يبطل العجب، غير أنه بعد رحلة البحث عن حقيقة داعش رجعنا بخفي حنين! وقد تولد في نفوسنا شك فلسفي عميق، ليس بسبب الجهل أو التردد، بل توقا إلى اليقين، لأن "من لم يشك لم يبصر، ومن لم يبصر وقع في العمى والضلال"، على حد تعبير العلامة أبو حامد الغزالي. وهكذا لاحظنا أن كل فريق يتهم الفريق الآخر بأنه هو الذي صنع داعش؛ فالمسلمون يتهمون الغرب، والعرب يتهمون الصهاينة، والسنة تتهم الشيعة، والإخوان يتهمون الوهابية، وهلم جرا. لكن غاب عن الجميع أن داعش لم تأت من فراغ أو عدم، بل ساهم الجميع في صناعتها، وتهيئة المناخ الملائم لتفشي أفكارها الهدامة، وترهيب الأمة في عقر دارها، وها هي الآن تنقلب على الجميع دون تمييز بين العدو والصديق. وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن ثمة انقساما عارما بين المسلمين؛ دعاة ومثقفين وسياسيين وإعلاميين حول الجهة التي ساهمت في صناعة الظاهرة الداعشية، وتعمل على دعمها بالمال والسلاح حتى تتقوى شوكتها، ليس في بلاد الرافدين فحسب، وإنما في المنطقة العربية برمتها، فهناك من يربط هذا التنظيم بإيران، وهناك من يظن أنه صناعة صهيونية أمريكية، وهناك من يعتبره مواليا للنظام الرسمي السوري، وهناك من يذهب إلى أنه بدعة سلفية وهابية، وهناك من يعتقد أنه استمرار لتنظيم القاعدة، وهناك من يرى في أتباع هذه الحركة خوارج الأمة الجدد، ما يجعل الشعوب المسلمة في حيرة من أمرها، لا تعرف إلى أي صف تنحاز، ولا تدري أي حقيقة تصدق، وقد تملكها عجز غريب عن فهم ما يقع لها، واستيعاب ما يحمله لها المجهول من مفاجآت سارة أو ضارة. وبعد زمن قصير من ظهور حركة داعش تمكنت من أن تمتد وتتشعب على أرض الواقع، لتخلق لها كيانا قائما بذاته يشبه الدولة المستقلة، وهذه في الحقيقة مقاربة أمنية محضة تعضدها مختلف التقارير السياسية والإعلامية، ولا يختلف اثنان في أنها صحيحة. غير أن المغيب أو المسكوت عنه في هذه المقاربة هو أن العالم أصبح إزاء ظاهرة جديدة تتغذى بفكر التطرف والغلو والعنف، عن طريق ليّ أعناق النصوص الدينية وتحميلها ما لا تحتمل، وهي الظاهرة الداعشية التي ما انفكت تمتد مثل نهر جارف خارج قواعدها الأصلية، فصار الوعي الإنساني منشغلا بما تحمله هذه الإيديولوجيا المتسترة بما هو ديني من أفكار متطرفة وهدامة، تختلف جذريا عن طبيعة الإسلام السمحة التي بدأ يكتشفها الغرب في الآونة الأخيرة، ما يفسح المجال لنشوء "فوبيا" عالمية جديدة بسبب ما يحدث. وأعتقد شخصيا أن الظاهرة الداعشية التي نحاول جاهدين تفكيك خيوطها المتشابكة، وفهم طلاسمها المستعصية، ومن ثم إماطة اللثام عن حقيقة صانعها المجهول، لا ينبغي أن نختزلها في حركة داعش فحسب، ونكتفي كالعادة بأن نقول بأنها "رافضية" أو "خارجية" أو "وهابية" أو "متصهينة" أو غير ذلك، قصد تبرئة ذمتنا مما يحدث، واعتبار أنفسنا الفرقة الأفضل أو الفرقة الناجية، ثم نمضي إلى حال سبيلنا، وكأننا أدينا ما علينا من مسؤولية تجاه الخالق والإنسان والمجتمع، ونحن نجهل أو نتجاهل بأن الظاهرة الداعشية أكبر من حركة داعش، وأنها تتجذر في قرارة نفوسنا الجشعة، ويحملها كل واحد منا بين جوانحه وجوارحه الجامحة، عندما يدعي الحقيقة المطلقة، وعندما يقصي كل من يختلف معه دينيا وثقافيا وإثنيا، وعندما يعامل غيره بعنصرية نتنة وتمييز ممقوت، وعندما يتطرف لصالح رأيه ومذهبه. لذلك لا داعي للتحليق بعيدا ونحن نقتفي أثر من صنع داعش، إذ يكفي النظر في أحوالنا الرديئة وأفعالنا الدنيئة لندرك أن السبب الذي يقف وراء نشوء داعش يتأصل فينا جميعا، فلا حاجة إلى مشجب نعلق عليه اتهاماتنا للآخر بتهديد وجودنا وهويتنا وعقيدتنا، ونحن ما نفتأ نهدم كياننا الذاتي بمعول النرجسية والإقصاء والتعصب والطائفية، حتى صار كل واحد منا بمثابة داعشي مستبد لا يؤمن إلا برأيه، فأما آراء الآخرين فإلى الجحيم! هكذا يساهم الجميع إذن، عن وعي أو عن لا وعي، في صناعة الظاهرة الداعشية، التي تمتد كلما تخلل سلوكنا الجشع والأنانية والبغض، وتنكمش كلما تحلينا بالتسامح والإيثار والرحمة، فالجميع هيأ إذن الظروف لانبثاق هذه الثمرة الفاسدة سواء في الغرب أم في الشرق، وقد رأينا كيف صنعت المخابرات الغربية "القاعدة" بمباركة من الكثير من الدول العربية والإسلامية، فانساقت الشعوب بدورها وراء هذا "الاختيار الاستراتيجي"، وهي ترى آنذاك في طالبان البديل الإسلامي الأنجع، غير أنه سرعان ما تكشفت الحقيقة المرة، فراح كل فريق يتهم الفريق الآخر بأنه هو الذي صنع القاعدة، دون أن يدرك الجميع بأنهم كلهم أسهموا في ذلك، وهذا نفسه ما يتكرر اليوم مع داعش، إذ تنكر جميع الأطراف أن تكون لها أي علاقة بها، لتظل الأجوبة عن سؤال السبب (لماذا صنعت داعش؟ ومن صنعها؟) ساذجة ومتضاربة. إن الإجابة السليمة عن هذا السؤال الإشكالي لا تتحقق إلا عبر استنطاق الذات/النحن عن مكمن الخلل الذي قد يكون في فهم الهوية، أو في تنزيل النص، أو في تنفيذ برامج التربية، أو في وعي الآخر، أو في غير ذلك، لا سيما وأن داعش لم تأت من عدم، وإنما انبثقت من بيئتنا، لذلك فهي جزء لا يتجزأ من ذاتنا، أو بالأحرى جزء لا يتجزأ من الخلل الذي يعتري واقعنا المتردي. أما أن نسارع إلى تبرئة ذممنا عن طريق الزعم بأن داعش صناعة أجنبية، وأنها جزء من مخطط خارجي يستهدف وجودنا، فهذا بمثابة هروب جبان من الحقيقة، بل وتأويل مغلوط لنظرية المؤامرة التي صرنا نشكل طرفا جوهريا فيها، ثم نجتهد في التحذير من أضرارها وأخطارها! وما دام أن كل واحد منا قد ساهم بقسط معين في صناعة الظاهرة الداعشية التي ترمز إلى كل فكر مبطن بالإقصاء والنرجسية والعنف واللا تسامح، وهي قيم فاسدة تكتسح طبيعة الأفكار التي نحملها، والسلوكات التي تصدر منا، والمؤسسات التي تمثلنا، بل والمجتمع الذي يحضننا على مختلف الصعد وفي شتى تمظهراته، فما دام الأمر كذلك إذن، فإن هذا يعني أن حل هذا الإشكال المشترك يقتضي ثورة بنيوية واجتماعية وتربوية وأخلاقية جذرية، يتحتم على الجميع أن يساهم فيها بدءا، أولا وقبل كل شيء، من نفسه الموبوءة بالنرجسية والاستئثار والتملك، فثورة الدم التي تنفذها داعش لا يمكن مواجهتها بثورة من جنسها الدموي، وإنما بثورة مضادة تصحح الخلل الاعتقادي والفكري والتربوي الذي يعتري بنية الإنسان المسلم وعقله، ولا تُنزّل هذه الثورة المضادة على ميدان المواجهة وإنما تنقل إلى الأسرة والمدرسة والمسجد والجمعية والإعلام، حيث يعمل الجميع على تصحيح مسار الأمة المنحرف، ومن ثم بناء جيل يؤمن بالحوار والتسامح والسلم.