«داعش» مفاجأة الألفية الجديدة بلا شك، فالتنظيمات الأصولية المسلحة والجماعات التي تؤمن بالتغيير العنفي والتي نشأت في نهايات القرن الماضي اصطبغت بطبيعة العمل السري الذي تتقنه جماعات العنف المسلح، وتنأى بنفسها عن أي ظهور إعلامي أو حضور اجتماعي، كما أن شروط الانتساب عادة ما تتطلب فحصا فكريا وأمنيا وعادة ما يجري الانخراط في العمل السري عبر تكنيك «الشبكات» والمعارف أكثر من الانتساب المباشر أو من خلال الإنترنت كما تفعل «داعش» الجديدة في إشارة إلى التحولات الهائلة التي يعيشها «وحش» الإرهاب اليوم، فيما نكتفي نحن باجترار المفاهيم والتصورات القديمة عن «القاعدة» وأخواتها وبدايات العنف الدموي الذي رغم كوارثه التي نجنيها اليوم فإنه كان أكثر معقولية مقارنة ب«داعش» الممثل الأهم للفوضى الخلاقة التي نعيشها اليوم. أول ظهور للاسم الجديد «داعش» في أبريل (نيسان) 2013، ليس بهدف الإعلان الرسمي أو محاولة تضخيم شأن التنظيم كما يخطئ عادة من يقرأ جماعات العنف المسلح خارج نصوصها وسجالاتها الداخلية، فالتسمية كانت هدفا استراتيجيا للتنظيم لابتلاع كل المجموعات الصغيرة. الهدف الأول لإعلان «داعش» لم يكن قرارا دعائيا أو محاولة تضخيم قدرات التنظيم الذي يجول طولا وعرضا في مناطقه المحببة في العراق والشام بقدر ما كان تحديا وجوديا لافتراس الأسماك «القاعدية» الصغيرة، وهو ما أدركته «جبهة النصرة» مبكرا فرفضت الاندماج وبدأت معارك إثبات الوجود التي لا تزال مستمرة إلى الآن وإن كانت الغلبة على مستوى أبناء «القاعدة» ويتامى بن لادن ل«داعش» رغم أن التنظيم رسميا يرفض الاعتراف بالهزيمة حتى اللحظة. التقاسم الإرهابي لكعكة الشام والعراق كان سببا في الخلاف بين التنظيمات المسلحة؛ «داعش» و«النصرة» بالأساس وبقية الصغار حسب ولاءاتهم ومصالحهم الصغيرة وإن كانت المبرر المقدم للأتباع والجمهور العريض هو «الشرعية»، فالاتهامات المتبادلة بالبغي والخروج على سلطة الحاكم الشرعي والمفاوضات، بل والمحاكمات المجانية والإعدامات، كشفت ما كان مستورا ولم تظهر واقعا جديدا في الخلاف بين التنظيمات المسلحة حول أحقية تمثيل «الجهاد» وهو ما يعني إدراكهم لدورهم والانتعاش المقبل لدورات الإرهاب والعنف بعد انهيار الربيع العربي. في البداية كانت «القاعدة» في العراق مستقلة وأقرب إلى التشكل المحلي مع إضافات هائلة في الخبرات والموارد من قبل المتحولين من «البعث» إلى «القاعدة» سواء كان التحول على سبيل الاقتناع والتبني وهو أقل، أو على سبيل التحالف والولاء المشترك لفكرة طرد المحتل واستهداف الحكومة الطائفية، ووقتها كانت «داعش» تعمل تحت شعار «جماعة التوحيد والجهاد» ليتحول لاحقا إلى تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» بعد تولي أبو مصعب الزرقاوي قيادته في 2004 ومبايعته زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن، ولا يخفى أن إضافة «الرافدين» إلى التنظيم هو جزء من التواضع لقيمة ومكانة بن لادن الذي تسبب مقتله على يد الأميركان إلى تحول كبير في التنظيم بعد الفراغ الهائل الذي خلفه. مقتل الزرقاوي في يونيو (حزيران) 2006 على يد القوات الأميركية في العراق، ساهم في تقلص دور «القاعدة» لحساب أدوار جديدة مفاجئة لم تكن مرصودة آنذاك في صخب عمليات التنظيم. * إذن «داعش» هي منتج إرهابي منفصل عن «القاعدة» بعد أن كان جزءا منها، ثم أضيفت إليه أفكار جديدة إلى أن آل الوضع إلى هذا المزيج الذي يقترب من العصابات المنظمة منه إلى عمل جماعات العنف المسلح الدينية. تعود بذور «داعش» للخلاف الفكري بين تيار الصقور الذي كان يمثله الزرقاوي، و«القاعدة» التقليدية، وبعد مقتله ومقتل أبو حمزة المهاجر دخلت «داعش» مرحلة مشروع الدولة في العراق. جزء من أزمة تحليل «داعش» تعود إلى أسباب كثيرة وأهمها القراءة الخاطئة ل«التيارات المنغلقة»، فالصورة المغلوطة عن جماعات العنف المسلح منذ حركة الخوارج تاريخيا ووصولا إلى «القاعدة» وأخواتها، فهناك أولا تغيرات بحكم التاريخ وتغير الوضع السياسي وأخرى بسبب التأثر والتأثير على الواقع نفسه، فالنواة الأولى لمجاهدي الثمانينات قبل نشأة «القاعدة» تختلف عنها في مرحلة «مطبخ بيشاور» التي أشرنا إليها، كما تختلف جذريا عن مرحلة القتال بالوكالة التي مارستها «القاعدة» عبر إرسال مقاتليها إلى البوسنة والشيشان. الخلاف إذن ليس فقط على مستوى الأفكار، وهذا فرق جوهري، بل على مستوى موقفهم من الأنظمة العربية أو قتال العدو القريب أو البعيد، موقفهم من التحالف مع استخبارات دول أخرى في مصلحة التنظيم، التدفق المالي، وأيضا انفصال المرجعيات الشرعية للتنظيم عن المناخ الشرعي السائد من حيث تحرير مسائل الجهاد أو فقه الثغور الذي تغير عدة مرات من تكوين علماء تنظيم مختصين وصولا إلى غياب الرؤية بحكم دخول أطراف قادمة من خلفيات بعثية وأخرى أقرب إلى الثوار المناطقيين كالعشائر في العراق وبعض المناطق السورية. تبدو «داعش» في عيون «الجميع» لغزا محيرا ينسب تارة إلى إيران وتارة إلى العراق وتارة إلى بشار وتارة إلى الولاياتالمتحدة، ناهيك عن الاتهام الاستعدائي الذي يعبر عن أزمة ترحيل الأزمات السياسية الإيرانية الشهيرة التي اقتبسها المالكي حين أطلق اتهاماته جزافا تجاه المملكة والخليج وبشكل يدرك هو أنه جزء من إنتاج شرعيته المتوهمة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة عند عقلاء شيعة العراق قبل سنتهم. لقطع هذه الحيرة في فهم لغز «داعش» كان الأحرى بسيل التحليلات التي تقترب من روايات الخيال العلمي قراءة نتاج «داعش» وهو منشور ومبذول، سواء المنتج الفكري (رسائل، فتاوى، وصايا شهداء، الردود على المخالفين.. إلخ) أو المجتمع الداعشي على الإنترنت (معرفات «تويتر»، منتديات جهادية، وحتى كتيبات تحريضية عادة ما تحاول عمل دعاية مضادة لخصوم «داعش») وأيضا من المهم معرفة قراءة «داعش» النسخة القاعدية ثم «داعش» النسخة العالمية التي تجتذب الآن عناصر أجنبية. بعيدا عن خطاب المؤامرة، واختزال "الظاهرة الداعشية" في تواطؤ أنطمة عربية أو غربية، علينا الإقرار بوجود مدونة فقهية لدى المسلمين، تشرعن ما تقوم به ب "داعش"، وهؤلاء صرحاء حتى الساحة في الإعلان عن ذلك، ولا يمارسون علينا التقية. وبالتالي مواجهة "داعش"، وموازاة مع المواجهة المادية، تتطلب مواجهة رمزية: فقهية وعلمية ومعرفية. لدينا تيارات في دول المغرب العربي (المغرب، تونس، ليبيبا، الجزائر)، تتبنى اليوم الخيار "الداعشي"، وتحلم بتكرار ذات التجربة في المنطقة، ولدينا العديد من مسلمي أوروبا وحتى أستراليا، يحلمون بذلك، دون الحديث عن وجود تيارات إسلامية حركية لديها قابلية رهيبة في تقليد الطرح "الداعشي"، على الأقل في الشق الخاص بحلم "دولة الخلافة" ومقتضيات هذا الحلم. (والذي يتعارض بالكلية مع واقع "الدولة الوطنية"، ودولة المواطنة). دققوا جيداً في بعض مضامين مدونتنا الفقهية التي تكاد تكون مقدسة عن البعض، قبل التدقيق في الجنسيات والأسماء والعناوين. لكي نوفر أعمارنا ونختصر كثيرا من الجدالات العقيمة، على كلّ من ينتمي منا لحزب أو تيار أو جماعة تنادي بالخلافة وتطبيق الشريعة أن يختار أكثر من يثق به في هذا الحزب/التيار/ الجماعة ويعتبره من الواعين الفاهمين ويطلب معه موعدا مدته ساعتان على الأقل ويأخذ معه ورقة وقلما ويسأله بإصرار وتفصيل ووضوح سؤالا واضحا سهلا : ما مشكلتنا مع داعش، وبماذا تختلف دعوتنا لتطبيق الشريعة عن داعش؟ فإذا كانت الإجابة مقنعة وواضحة ووجدنا فروقا معقولة، فبها ونعمت .. لكن إذا كانت الإجابات غائمة، والفروق فرعية، من قبيل أن الدولة لم تتمكن بعد، أو لم تتغلب بما يكفي لندين بها بالسمع والطاعة، أو يشوبها بعض المشاكل في التطبيق، فعندها إما أن تعتبر هذه المنظومة لا تعبِّر عن فهمك للإسلام فلا تضع عمرك معها، أو أنك مقتنع بها وداعش في مرحلة متقدمة من تطبيقها والأولى اللحاق بالخليفة ليتمكن ويتغلب ونساعده من الداخل في الجزئيات المتعلقة بالتطبيق .. في ظرف يوم واحد فقط، اصطدمنا من حيث لا نحتسب بواقعتين صادمتين، أكدت لنا مجدداً أن "فقه داعش"، لا يهم فقط تنظيم "داعش"، وإنما يهم أيضاً العديد من التيارات الديانية (الإسلامية الحركية)، وهذا متوقع إذا كنا نتحدث عن بعض وليس كل الفاعلين الذين ينهلون مثلاً، من مرجعية سلفية وهابية ("علمية")، وغيرها من المرجعيات.. (ولهذا نُجدّد التأكيد أن تنظيم "داعش" يستحق "الاحترام" لعدة أسباب، أقلها أنه صريح مع نفسه ومع الغير، ولا يُمارس التقية والازدواجية، الأقرب إلى "النفاق"). ولكن، أن تصدر ذات العقلية/ الفقه عن باحثين، يرفعون شعار الوسطية والاعتدال، أمر صادم فعلاً. تصبحون على وطن ينخرط بشكل أكثر فاعلية في التصدي لأي فقه يريد "اختطاف الإسلام" من أهله.