إن تهمّمنا بهذا الموضوع راجع إلى الرغبة في أمرين عظيمين: أولا: قطع الطريق على المشككين في القرآن وشرائعه من أبناء جلدتنا قبل غيرهم، فهم يستغلون التأويل المنحرف لبعض الآيات من قبل العلماء السابقين ويستثمرونه في مشاريعهم الفكرية، فوجب سد هذه الذريعة. ثانيا: الحرص على تنوير عقول شباب الأمة وإبعادهم عن الوقوع في الإرهاب والتطرف، فبسطاء المعرفة بعلوم الشريعة، والمتعصبون لآراء المتقدمين الخاطئة، يحتجون بتفسير "السلف" لبعض آي القرآن، ومن هناك ينطلقون نحو التشدد والغلو. نصّ آية السيف: قال الله تعالى في الآية الخامسة من سورة التوبة: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). إن تسمية هذه الآية آية السيف تسمية مبتدعة ضالة من قبل بعض العلماء المنتشين بجبروت الإمبراطورية الأموية ثم العباسية، حيث كانت الدولتان تهدفان للتوسع ومزيد من السيطرة باسم "الجهاد" مستغلتين العاطفة الإسلامية لدى المسلمين الحدثاء في الإسلام المتحسرين على عدم إدراك الجهاد الحق أيام النبوة والخلافة الراشدة، فكان فقهاء الأباطرة والسلاطين يجيشون المسلمين السذج من خلال تحريف معاني كلام الله تارة، واختلاق الأحاديث الموضوعة تارة. وحق الآية أن تسمى آية العدل لا السيف، لأنها إذا قرئت في سياقها من السورة ومساقها من الأحداث أيام النبوة بعيدا عن تفاسير المنتشين والمتعصبين، أنتجت فهما عظيما يدل على عدل الله بين المسلمين والكافرين. فهم المنتشين والمقلدين: يرى هؤلاء أن الآية تفرض على المسلمين قتال المشركين حيث وجدوا بعد انقضاء الأشهر الحرم من كل عام إلى قيام الساعة. ولكي يؤيدوا تفسيرهم الطائش الأحمق، كذبوا على حبر الأمة مولانا عبد الله بن عباس، فوضعوا على لسانه تفسيرا بإسناد مظلم منتن يقول فيه: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم): أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق. ونسبوا إلى الضحاك التابعي الإمام أنه قال كما في تفسير الطبري: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين). قبل أن تنزل "براءة"، عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم، فنزلت: براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين، فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون حيث شاؤوا من الأرض آمنين. وأجَّل من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخَ الأشهر الحرم، من يوم أذِّن ببراءة، وأذن بها يوم النحر، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرم ثلاثين، فذلك خمسون ليلة. فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعةٌ من يوم النحر، أن يضع فيهم السيف أيضًا، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر، ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، أربعة أشهر: من يوم النحر، إلى عشر يخلُون من شهر ربيع الآخر. وأنه قال أيضا: كل آية في كتاب الله فيها ميثاق من النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين، وكل عهد ومدة نسختها سورة براءة: (وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد). وبناء على هذا التفسير المنحرف المحرف، زعم المنتشون منظرو الأباطرة الأمويين والعباسيين ثم المقلدون المغفلون عبر تاريخ الأمة إلى عصرنا أن هذه الآية ناسخة لعشرات الآيات الداعية إلى السلم والتواصل بين المسلمين وغيرهم باستثناء محاربيهم، والمقررة لحرية المعتقد والفكر والكفر، حتى ادعوا كذبا وزورا أنها تنسخ أكثر من مئة آية رحمة وتراحم وتواصل وسلم. ففي الناسخ والمنسوخ لابن سلامة : الآية الثانية والثالثة: هي الآية الناسخة، ولكن نسخت من القرآن مائة آية وأربعاً وعشرين آية، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهي قوله تعالى: (فَإِن تابوا وَأَقاموا الصَلاةَ وَآتوا الزَكاةَ فَخَلّوا سَبيلَهُم). الآية الرابعة: قوله تعالى: (إِلّا الَّذينَ عاهَدتُم عِندَ المَسجِدِ الحَرامِ فَما اِستَقاموا لَكُم فَاِستَقيموا لَهُم). نسخت بقوله: (اِقتُلوا المُشرِكينَ حَيثُ وَجَدتُّموهُم). وفي ناسخ القرآن ومنسوخه لابن البازري: وآية السيف وهي قوله تعالى في سورة التوبة: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم )، نسخ بها مائة وأربعة عشر موضعا في اثنتين وخمسين سورة، ثم نسخ الله عز وجل بعض حكم آية السيف بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)، ونسخ أيضا عمومها في آخرها بقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم). قلت: انظر إلى مدى غلو بعض علمائنا في دعاوى النسخ، فآية السيف عندهم ناسخة ومنسوخ بعضها في آن واحد. التفسير السليم لآية العدل: إن سياق الآية القرآني ثم تطبيقها العملي زمن النبوة والخلافة الراشدة يتناقض تناقضا كليا مع فهم فقهاء الأمويين والعباسيين، والمنتشين من المقلدين والمتعصبين. فالآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة تأمر بقتال قبائل العرب التي أعلنت الحرب على المسلمين أيام النبوة، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يقاتل أي قبيلة مسالمة، ولم يفرض عليها الإسلام ولا أجلى أهلها، بل صالح كثيرا منها بعد غزوة تبوك التي كانت بعد انتهاء الأشهر الحرم من السنة التاسعة. ولو فتح المغرر بهم أعين عقولهم جيدا، وتحرروا من ربقة التقليد للمنتشين، لوجدوا الله يقول بعد آية العدل مباشرة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)، أي يجب عليكم أيها المسلمون أن تقبلوا كل لاجئ سياسي ولو كان مشركا، وأن تنصحوه دون إكراه، فإن رفض الإسلام وأراد الرحيل إلى بلد آمن فأوصلوه إليه، وهذا ينقض الفهم العبيط. إذ كيف يأمرنا الله بقتل المشرك لشركه ثم يفرض علينا أن نجيره من أعدائه، ونكرمه ونعرض عليه الإسلام دون إكراه، ثم نوصله إلى مكان آمن إذا رفض الإيمان؟ ويقول الله تعالى بعد ذلك: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، وفي هذا أمر لازم بعدم نقض المعاهدات المبرمة مع قبائل مشركة غير قريش، لأن مكة فتحت في السنة الثامنة، أي أن العهد معهم عام صلح الحديبية كان قد انتهى، وهذا أيضا يبطل الرأي الأعوج. فلو كان الشرك علة القتل، وليس العداوة والحرب المعلنة من المشركين، لكان العهد والصلح مع غير المسلمين حراما، ولو كان كذلك لما لزم الوفاء به بعد عقده، والحال أن الله تعالى يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على العهد ويعتبر ذلك من لوازم التقوى. وكل ذلك برهان ساطع على أن علة محاربة المشركين هي حربهم على المسلمين وإذايتهم لهم. وبالعودة إلى الآية السابقة على آية العدل مباشرة، نجد التصريح بالعلة واضحا لكل ذي عقل متوازن متحرر من تقليد السابقين، حيث جاء فيها: ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا، فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). فقوله سبحانه: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا) صريح في أن المستحقين للقتال هم الذين نقضوا معاهدة السلام مع المسلمين وتحالفوا مع أعدائهم وأعانوهم في حربهم على المسلمين. وهو ما أكده الله بعد آية العدل حيث قال سبحانه: ( وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12). إن هذه الآيات البينات صريحات فيما نقرره، فهي تشترط إباحة قتال المشركين بنكث الأيمان ونقض المواثيق والطعن في الدين. ولكي نفهم أن الآيات تتعلق بظروف المسلمين زمن النبوة، وليست عامة مطلقة في كل عصر وزمان، فإن الله تعالى قال بعد ذلك: ( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) إذن، فالأمر بقتال الناكثين بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس تشريعا عاما للمسلمين في كل زمان ومكان، بل القضية خاصة بالقبائل المشركة المحيطة بالمدينةالمنورة، والتي كان بينها وبين رسول الله ميثاق وعهد، لكنها نقضته وخططت لإخراج الرسول وأصحابه من المدينة بالقوة، بل حاولت بعد التخطيط أن تقوم بالتنفيذ فهاجمت أطراف الدولة النبوية كما يشير قوله سبحانه: (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). وأصرح آية في أن المقصودين بالمقاتلة هم المهددون للمدينة النبوية، وليس المشركين كل زمان، هي قوله تعالى في آخر السورة نفسها: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123). ومن بلاغة القرآن وإعجاز أسلوبه أن يكون ختام السورة مرتبطا بمطلعها تذكيرا وتلخيصا وتعقيبا وتنبيها. وتقدم أن "المتقين" هم الذين يحترمون العهود المبرمة مع المشركين، فيكون المعنى واضحا، وهو: قاتلوا الذين يلونكم، أي يحيطون بمدينتكم، والذين نقضوا الميثاق وتآمروا على اغتيال نبيكم وطردكم. ويشير قوله تعالى: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ)، إلى أن تلك القبائل الناكثة كانت قوية إلى درجة أن عامة الصحابة كانوا يخشون مقاتلتها بعد نقض العهد والهم بالاغتيال والطرد، وذلك لأنها تحالفت وتحزبت على المسلمين. وأما "الفقهاء" المساكين فإنهم لم يراعوا كل هذا السياق، فاقتطعوا الآية وبتروها مما أنتج فهما عبيطا واستنباطا أرعن موغلا في الخيال، ظانين تحت سكر انتصارات الأمويين ثم العباسيين أن الأمة الإسلامية ستبقى قوية متماسكة دائما إلى قيام الساعة، قادرة على قتال المشركين حيث كانوا بعد انقضاء الأشهر الحرم من كل عام. وأعجب من ذلك الفهم العبيط، إصرار الغلاة المعاصرين عليه رغم انتكاسات الأمة المتوالية، ومن هنا تعرف علة عناد التنظيمات المتطرفة الزاعمة أنها قادرة على مقاتلة العالم الغربي والشرقي. مفسرون معتدلون: إن كلامنا ليس جديدا ولا بدعا إلا من حيث التفصيل والإطناب في التوضيح، والحق أن هناك أئمة ومفسرين سبقونا إلى الفهم السليم لأنهم لم يكونوا فقهاء السلاطين ولا متعصبين مقلدين، وعلى رأسهم ابن جرير الطبري شيخ المفسرين، فإنه قال في تفسيره للآيات: فإن ظنّ ظانٌّ أن قول الله تعالى ذكره: ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ )، يدلُّ على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتْلَ كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفسادِ ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك، كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يكن له منه عهد، وذلك قوله:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )، فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. وبعدُ، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليًّا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته"، أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودًا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورًا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب. انتهى وذهب قوم إلى أن آية "السيف" منسوخة، والحال أنه لا ناسخ ولا منسوخ كما تقدم، لكن هذا الرأي يفتل في حبل دحض مذهب الغلاة المتطرفين. روى ابن أبى حاتم في تفسيره للآية عن السدي المفسر قال: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) نسختها: ( فإما منا بعد وإما فداء) وفي تفسير ابن كثير: ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي: هي منسوخة بقوله تعالى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } وقال قتادة بالعكس. خلاصات: أولا: آية "السيف" تسمية ضالة مضللة، وحقها أن تنعت آية العدل. ثانيا: آية العدل ليست ناسخة ولا منسوخة، وادعاء أحد الوجهين سوء فهم وبحث عن المخرج من ورطة فقهية أبطالها فقهاء ملوك بني أمية وبني العباس. ثالثا: الأمر في آية العدل بالقتال خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا علاقة له بأجيال الأمة إلى قيام الساعة، إلا إذا أعاد التاريخ نفسه وتشابهت الظروف. رابعا: المشركون الذين أمر الله بمقاتلتهم في آية العدل هم مشركو القبائل العربية المحيطة بالمدينةالمنورة زمن النبوة، والتي نقضت عهدها مع النبي عليه السلام، وعزمت على اغتياله، وخططت لاستباحة عاصمته. خامسا: المشركون هم الوثنيون، فلا علاقة لليهود والنصارى بآية العدل. سادسا: الكفار من المشركين أو أهل الكتاب الذين يحترمون العهود والمواثيق لا يجوز قتالهم. سابعا: الكفار الذين لا عهد للمسلمين معهم، والذين لا يعتدون على المسلمين ولا يخططون للعدوان عليهم، لا يجوز قتالهم بأي حال، بل يجب أن نتواصل معهم ونتعارف ونتعاون على ما فيه الخير والمصلحة للجميع. ثامنا: إذا جاءنا لاجئ سياسي من أعدائنا المشركين، وجب الترحيب به وإكرامه واحترام عقيدته، لأن لجوءه إلينا يقتضي أنه لا يعادينا ولا يخطط لحربنا، ثم يجب إيصاله إلى المكان الآمن الذي يريده إن رغب عن الإقامة في بلاد الإسلام، وفي ذلك تسفيه لمن يزعم أن الشرك علة القتال. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]