ونحن جُلوسٌ فى مقهى "الدّيوان الأدبي النُّوغَال" ، بالعاصمة الكولومبيّة " بوغوطا" التي ينعتها المثقفون فى القارة الأمريكيّة ب: "أثيناأمريكا اللاّتينية" ،رفقة صفوةٍ من خيرة الأدباء،و ثلّةٍ من نخبة الخلاّن الأصفياء، حكى لنا ذات مرّة الصّديق السّاخر أَوْغُوسْطُو المتألّق أبداً الذي كان فى زيارةٍ تكريميّة لكولومبيا عن تجربته المُرّة فى مدى الإنصياع،والإنسياب، والإنسياق وراء هَوَس إبنته التي كان يُخيّلُ لها أنّها تهوىَ الموسيقى، وتعشق أوتارَها، وتعبد دساتينَ مِعزفها ،وتسحرها نغماتها، وتهيم فى تنويعاتها ،وَوُهِمت بالتالي أنّها قد أصبحت من أمهر العازفات على البيانو ! إلاّ أنّ الحقيقة،ليست كذلك، فلا الله، ولا الطبيعة، ولا الظروف،ولا الحياة هيّأت لها من هذه الأمور شيئاً، وبالتالي لم تلهمها بوحيٍ مُبدع، أوتصقلها بموهبةٍ خلاّقة لإجادة فنّ العزف، والتألّق فى هذه الهواية، وتطويرها ،وتطويعها، وتحقيقِ ولو قسطٍ يسير، أونصيبٍ حقيقيّ من النجاح أو بالأحرى التفوّق فيها،بعد أن وَهَبت كلَّ وقتها،وكلَّ حياتِها،وشرخ ربيع عمرها للمويسقى ،وبعد أن خصّص لها والدها هو الآخر وقتاً طويلاً، وبذلَ من أجلها مجهوداً مُضنياً، وكلفته هوايتها الكثيرَ من التضحيات ، والمكابدة،والمعاناة، و دفعته لإرتداء مُسُوح النفاق والمحاباة، والتدثّر بدثارالمُداهنة والمصانعة على مَضَض فى المجتمع الذي يعيش فى كنفه ، ناهيك عن والإخفاق وإنفاق المال الوفير دون طائلٍ يُذكر، أو مردودية حقيقة تُلمَس،ممّا زاد فى إحباطه، وبالتالي فى حَنقه ، وغضبه على إبنته ، بل لقد وصل به الأمر إلى كرهها ...كان يتحدّث بحماسة منقطعة النظير ،كأنّه كان يشكو لنا أمراً، وكنّا نحن كلّنا آذاناً صاغية مُصغية له ،فانبرى فى خنوع، وخشوع، وعيناه مُخضلتان تكادان تغشاهما الدّموع، وأفرغ علينا كلّ جعبتَه ، ونفض كاملَ مخلاته ، وحكى لنا قصّتَه بلا رتوش من ألفها إلى يائها ، حدّثنا عن إبنته ،وعن مهارتها الوهميّة فى العزف على البيانو ..عن عشقها للموسيقى،وتوقها للشّهرة، وتطلّعها للمجد، والذيوع والإنتشار، فقال : "بداية السّرد" : (( بعد دقائق سوف تحتلّ مكانها فى هدوء أمام البيانو. ستستقبل الضّجيج التكريمي للجمهور بانحناءة خفيفة. فستانها الذي تملؤه خرزات برّاقة يشعّ كما لو كان يردّ إنعكاس الضوءعليه. التصفيق الحادّ والسّريع لمائة وسبعة عشر من الحاضرين الذين يملؤون هذه القاعة التي أعدّت خصّيصاً لهذا الحفل لن يتوقّف. أصدقائي سوف يُعجبون أو لا يُعجبون- لا يمكنني أن أعرف ذلك أبداً – بمحاولات إبنتي فى عزف أرقّ الألحان، وأعذب الموسيقى فى العالم حسب إعتقادي ، نعم، أعتقد ذلك، ولكنّني لست واثقاً . باخ ، موتسارت، بتهوفن، لقد تعوّدت أن أسمع أنّهم موسيقيّون لا يمكن تجاوزهم، ولقد أمكنني تخيّل ذلك. والواقع هم كذلك، إنني أحاول ألاّ أقع فى هذه الحيرة، إذ أنني عندما أخلو بنفسي فإنني على يقين أنهم لا يروقونني، وأعتقد أنّ الجميع يشعر بحماستي الزّائفة. إنّني لم أكن قطّ من عشّاق الفنّ، وإن لم يقدّر لإبنتي أن تصبح عازفة بيانو فإنني لن أشعربهذا الإشكال.إلاّ أنني والدها، وإنني أعرف واجبي تجاهها.وعليه فلابدّ لي أن أستمع إلى عزفها. وعليّ أن أبدي إعجابي بها وبفنّها،إنني رجل أعمال، ولا أشعر بسعادة مثل التي أشعر بها عندما أحرّك دواليب المال والتجارة. أكرّر أنا لست فنّاناً. لو كان هناك فنّ من شأنه أن يساهم فى جمع المال وتراكمه، والسّيطرة على السّوق العالمية ، وسحق المنافسين فإنني سأكون أوّلَ مَنْ يناصر هذا الفنّ ويتحمّس له. الموسيقى جميلة،هذا صحيح،ولكنني أجهل إذا ما كان فى مقدور إبنتي حقّا أن تجسّم هذا الجمال.إنّها نفسها تشكّ فى ذلك.إذ غير ما مرّة ، بعد كلّ حفل موسيقي ،كنت أراها تنخرط فى البكاءعلى الرّغم من التصفيق . من جانبٍ آخر ، إذا صفّق أحدهم بدون حماسة، فإنّ إبنتي تجد فى نفسها صلاحية مناقشة ذلك بين الحضور.ويكفي هذا لكي تجعلني أعاني ،ومن ثمّ تبعث على كراهيتي لها بشراسة بعد ذلك. إلاّ أنه من النادر أن يجرؤ أحدٌ على مفاتحتها أو مناقشتها فى ذلك، فقد تعلّم أصدقائي من تلقاء أنفسهم أنّ برودة التصفيق أمر خطير قد يجلب لهم المتاعب، بل إنّه قد يؤدّي بهم إلى الإفلاس،وإذا هي لم تقم بإشارة تفيد مطالبتهم بالكفّ عن التصفيق فإنّهم يستمرّون فى التصفيق طوال الليل مخافة أن يشعر أحدُهم أنّه مُقصِّر أو هو الأوّل الذي توقّف عن التصفيق ، وهم يراقبون يديَّ خائفين متوجّسين من أن يسبقوني بالدخول فى الصّمت،فى البداية كانوا يخادعونني ،وكنت أعتقد أنهم فعلاً مُنفعلون ومُعجبون ، ولم يمرّ الزّمن عبثاً إذ سرعان ما إنتهى بي الأمر إلى معرفة الحقيقة. إستبدّت بي كراهية متصاعدة، إلاّ أنني أنا أيضا مصطنع وزائف لأنني أصفّق أنا اللآخر عن غير إقتناع. أنا لست فنّانا . الموسيقى جميلة ورقيقة إلاّ أنها فى العمق لا تهمّني أن تكون كذلك. ثمّ إنها تبعث فى نفسي الملل. أصدقائي ليسوا فنّانين ، هم الآخرون، يروقني أن أنكّل بهم، إلاّ أنّ أمرهم لا يشغلني. الآخرون هم الذين يجرحونني . هؤلاء الذين يأخذون مقاعدَهم فى الصفوف الأمامية وفي كلّ حين يسجّلون أو يتظاهرون إنهم يسجّلون شيئاً فى دفاترهم الصغيرة،إنهم يحصلون على دعوات مجّانية تكتبها إبنتي بنفسها بعناية فائقة وتبعثها لهم مع ساعٍ خاص. إنّني أبغضهم كذلك ،إنّهم الصّحافيون ،وهم يخشونني ،إذ فى إستطاعتي أن أسكتهم متى شئت، فى حين أنّ سلاطة ألسنتهم ،وخاصّة إثنين أو ثلاثة منهم ليس لها حدود. وقد تجرّأ بعضهم فى مناسبات على القول أنّ إبنتي لا تجيد العزف، إنّ إبنتي ليست عازفة سيّئة ، خاصّة على البيانو. لقد أخبرني بذلك أساتذتها أنفسهم ،منذ طفولتها وهي تدرس العزف على البيانو، وهي تحرّك أناملها بخفّة وإنسياب على دساتين المعزف أحسن من أيّ سكرتيرة من سكرتيراتي.. ! الحقيقة التي لا أفهمها لماماً هي عندما تعزف.. إلاّ أنّني لست فنّانا وهي تعزف جيّدا. الحقد ذنب ممقوت ، هذا العيب الكامن فى أعدائي يمكن أن يكون العامل الخفيّ للإنتقادات القليلة الإيجابية ، ليس غريباً أنّ أحداً ممّن يبتسمون فى هذه اللحظة، وبعد لحظات سوف يغرقون فى التصفيق ، قد يدلي بهذه الأحكام المعادية. أن يكون لك أب صاحب نفوذ ، قد يكون أمراً إيجابياً ، إلاّ أنه قد يكون كذلك مصدر شؤم ونحس،إنّه فى الوقت الذي تسألني فيه، كيف سيكون رأي الصحافة فى عزفها لو لم تكن إبنتي..؟ فإنني أعتقد جازماً أنه ما كان لها أن تختار طريق الموسيقى لأنّه لم يكن لديها قطّ إهتمامات فنيّة حقيقيّة فى العمق. لم يجلب لنا ذلك سوى الإرتياب ،والتردّد، والأرق،والقلق. إلّا أنّ أحداً لم يحلم منذ عشرين سنة أنني سأصل إلى ما وصلت إليه. إنّه من المستحيل أن نعلم بالضبط لا هي ولا أنا من هي فى الحقيقة وما تساويه فى الواقع. إنّه من السّخف أن يصدر إنشغال من هذا القبيل عن رجل مثلي. وهي إن لم تكن إبنتي، فإنّني قد أعترف أنني أكرهها، وعندما أراها تظهر على خشبة المسرح فإنّ حقداً دفيناً وملحّاً يشتعل فى صدري نحوها ونحوي لأنني جعلتها تتّبع طريقاً خاطئا . إنّها إبنتي حقيقة ولم يكن من حقّها أن تفعل بي هكذا. غداً سيظهر إسمُها على صفحات الجرائد،وسوف يتضاعف التصفيق بحروف بارزة . سوف تمتلئ هي بالفخر،وسوف تقرأ لي بصوتٍ عالٍ رأيَ النقاد وهم يطرون على فنّها، ويقرظون عزفها. إلاّ أنها عندما تصل إلى الآخرين ، هؤلاء الذين يصبح المدح عندهم أكثر تعجّباً وإشادةً بها، فإنني سوف أرى عينيها تتبلّلان وتتخضّلان ، وكيف أنّ صوتها ينطفئ حتى يتحوّل إلى همسٍ خافت ، وكيف أخيراً ينتهي بها الأمر ببكاء حزين لا متناهٍ ، أو سوف أشعر أنّ كلّ قوّتي ونفوذي غير قادرين بأن يجعلاها تقتنع فعلاً أنها عازفة بيانو جيّدة ، وأنّ باخ ،وموتسارت، وبيتهوفن سوف يشعرون بالرضى والإنشراح من الطريقة الرّائعة التي حافظت بها على رسالتهم وجعلتها دائما حيّة..! خيّم الصّمتُ المطلق الذي عادةً ما يصاحب ظهورها على خشبة المسرح . بعد قليل سوف تنساب أناملها الطويلة الناعمة مرّة أخرى على دساتين المعزف . سوف تمتلئ القاعة بالموسيقى، وتبدأ معاناتي من جديد...))..."نهاية السّرد". هذه هي أقصوصة الأب، والإبنة، وعشق هذه الأخيرة للمُوسيقىَ، وَتوْقها للشُّهرَة، وتطلّعها للمجد،والذيوع والإنتشار، ومَهَارَتها الوهمية فى العزف على البيانو،الأقصوصة التي حكاها لنا أو علينا الكاتب السّاحر، والسّاخر فى تلك الأمسية القائظة من أماسي حاضرة بوغوطا الفيحاء،هذا القاصّ الذي يحلو لبعض النقّاد أن يلقّبوه ب (سلطان السّخرية فى أدب أمريكا اللاّتينية) وهو الغواتيمالي"أَوْغُوسْطو مُونطيرّوسُّو" ، والقصّة من ترجمة كاتب هذه السّطور عن لغتها الأصلية الإسبانية إلى لغة الضّاد !. * عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- (كولومبيا).