لست أشك فى أنهم فى مصر سمعوا بالموضوع، بدليل أنهم تحركوا وأجروا بعض التغييرات التى تدل على أنهم استلموا الرسالة. ووقفوا على موضوعها، لكن التجربة أثبتت أنهم أداروا ظهورهم لها وقرروا ألا يفهموها. على الأقل فإنهم لم يقتنعوا بعد بأن مصر بعد 25 يناير أصبحت مختلفة عن مصر قبل ذلك التاريخ، وأن المجتمع المصرى ولد من جديد، حقا وصدقا. الدليل على ذلك أن الخطاب الإعلامى الرسمى، ممثلا فى قنوات التليفزيون والإذاعة والصحف القومية، مازالت تتحدث بلغة مصر ما قبل 25 يناير، إذ تعامل مع ثورة الشباب وكأنها مظاهرة قام بها طلاب إحدى المدارس الثانوية. وظل همه وشاغله طوال الوقت هو كيف يمكن أن يقدم شبابها بأنهم أقرب إلى تلاميذ فى «مدرسة المشاغبين» فى المسرحية الشهيرة. لم يأخذهم التليفزيون الرسمى المصرى على محمل الجد، وليته وقف عند حدِّ الاستخفاف بهم، ولكنه ذهب إلى تعمد تشويههم والتحريض عليهم وتضليل المشاهدين بمختلف الحيل والأساليب لقطع الطريق على أى محاولة لفهم قضية المتظاهرين أو التعاطف معهم. وفى المرات التى قدر لى أن أتابع خلالها بعض البرامج التى بثها التليفزيون خلال الأسبوعين الماضيين وجدتها تتحدث عنهم بحقد ومرارة وازدراء، حتى بدا أشد عليهم بأكثر من شدته على الإسرائيليين. وإذا كان بعض رجال الأمن الذين تخفوا فى ثياب مدنية وأقرانهم من البلطجية قد عمدوا إلى إطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين فجر يوم الأربعاء الأسود، فإن التليفزيون المصرى ما برح يطلق عليهم ذات الرصاصات طول الوقت. ولم يكن ينقص موقف التليفزيون لكى يتطابق مع ما حدث فى ميدان التحرير سوى أن يستجلب مجموعة من الخيول والجمال والبغال، لكى يطلقها بدوره على المتظاهرين. رغم أننى لاحظت أن بعض مقدمى البرامج قاموا بالمهمة بجدارة عالية. إن النظام المصرى فى إصراره على عدم فهم الرسالة قرأ سطورها مستخدما منظار ما قبل 25 يناير. أو هكذا بدا فى خطابه السياسى والإعلامى على الأقل. من ثم فإنه اعتبر أن الشباب الذين خرجوا إلى ميدان التحرير فى ذلك اليوم فى تظاهرة سلمية أطهارا ومخلصين وأبرياء، وأن خروجهم يومذاك كان مشروعا ومرحبا به من جانب النظام. وادعى بعد ذلك أن جماعات لها أجنداتها الخاصة اختطفت الثورة منهم واستولت على الميدان، وراحت توجه التظاهرة وجهة أخرى مشبوهة وغير وطنية (مسئول كبير فى الدولة قال هذا الكلام) وأريد بهذه الخلاصة الإيحاء بأن السلطة التى رحبت بالمتظاهرين فى البداية، كان عليها أن تتصدى لعملية الاختطاف لإجهاض المخططات المشبوهة وغير الوطنية التى حملها الخاطفون الوافدون. (2) بهذا التصور الساذج والمبتذل تعامل النظام مع المتظاهرين، وحاول أن يبرر أمام الرأى العام حملة تشويههم . وكانت رسالته أن الحملة لا تستهدف الأبرياء والمخلصين الذين خرجوا فى البداية، ولكنها موجهة ضد أولئك الأشرار الذين اختطفوا التظاهرة واستغلوا البراءة لتحقيق أهدافهم المشبوهة. إن منظار ما قبل 25 يناير لا يرى فى مصر وطنيين محبين لبلدهم وغيورين على كرامته ومتشبثين بحلمه، ولكنه يقسم الناس قسمين، أخيار موالون للنظام وأشرار يعارضونه. وهؤلاء الأخيرون ليسوا مواطنين شرفاء أصحاب قضية، ولكنهم قلة مندسة وعملاء لجهات أجنبية وكائنات غريبة يخفى كل منهم فى طيات ثيابه أجندة سرية . نفس المنظار لم يمكن أهل السلطة من رؤية الحشود المليونية التى اجتمعت تحت راية الدعوة إلى الرحيل، كما أنهم صمُّوا آذانهم عن سماع شىء من هتافات الجماهير الهادرة. ولكنهم لم يروا غير عمليات النهب والسلب والحرائق التى اشتعلت والخراب الذى حل على أيدى المليشيات المحسوبة على النظام. بالتالى فإن شاشات التليفزيون وصفحات الصحف الحكومية حفلت إما بالحديث عن الذين «اختطفوا ثورة الشباب البرىء» وعن «العملاء» الذين تسللوا إلى البلد لإشعال الحرائق فيه. وصرنا نقرأ كل يوم أخبارا مسرَّبة عن إلقاء القبض على فلسطينيين تابعين لحماس وإيرانيين وعناصر من حزب الله ووجوه لها سمات أفغانية، وأجانب آخرين من أصول مختلفة. وظل هدف البث هو إقناع المصريين بأن ما حدث فى ميدان التحرير ليس ثورة شعب ولكنه مؤامرة دبرها أجانب، استهدفت أمن مصر واستقرارها. هذا السيناريو الهابط الذى ينكر على المصريين وطنيتهم ويستكثر عليهم استعادتهم لكرامتهم لجأ أيضا إلى استخدام فزاعة الإخوان، التى ما برحت تلوح بها أبواق النظام فى حديثها عن واقعة «الاختطاف». وهى ذات الفزاعة التى أصبح يتكىء عليها فى تبرير استمراره رغم سوءاته، بحجة أن البديل عنه (المتمثل فى الإخوان) أسوأ وأخطر. وقد سبق له استخدام الفزاعة ذاتها فى تبرير عمليات القمع التى تعرض لها المعارضون عامة والإخوان خاصة، أثناء ما سمى بالحرب على الإرهاب. ورغم أن أعدادا غير قليلة من المراقبين والصحفيين الغربيين أدركوا أن الإخوان موجودون حقا، ولكن الوجود الأكبر ظل للجماهير العريضة الموزعة على مختلف الاتجاهات، فضلا عن أن بينهم أعدادا كبيرة من الوطنيين العاديين الذين لا يصنفون ضمن أى فصيل سياسى. أقول رغم ذلك فإن بعض كبار المسئولين فى السلطة وإلى جوارهم عدد من كتاب النظام وما لا حصر له من البرامج والحوارات التليفزيونية. لا يملون من ترديد الموال، ويتصورون أن الجمهور بدوره لا يزال مغيب الإدراك. كما كان فيما قبل 25 يناير، استخفافا بإدراكه وتهوينا من شأنه. إن الذين وضعوا على أعينهم منظار ما قبل 25 يناير لم يروا وعيا مصريا ناضجا فى مسيرات ميدان التحرير المليونية بالقاهرة. كما لم يروا الحماس الجارف فى عيون مئات الألوف الذين رفعوا لافتات الرحيل فى الإسكندرية والسويس وبورسعيد والزقازيق والمحلة والمنيا وغيرها من محافظات مصر، ولا رأوا الشوق إلى الخلاص فى هتافات جموع المصريين الذين تجمعوا أمام السفارات المصرية فى العواصمالغربية. ذلك كله لم يكن مرصودا من جانب رجال السلطة لسبب جوهرى هو أنهم لم يعتادوا قراءة الواقع المصرى إلا من خلال التقارير الأمنية والوشايات المخابراتية، التى باتت تستسهل اعتبار الإخوان المسلمين مصدرا لكل الشرور فى داخل مصر وخارجها. (3) لاتزال عقلية ما قبل 25 يناير ترفض الاعتراف بسقوط شرعية النظام الذى هيمن قبل ذلك التاريخ. ومن المفارقات أن أهل تلك المرحلة الذين دأبوا على العبث بالدستور والتلاعب بنصوصه حتى جعلوه محل سخرية القاصى والدانى، ولم يكفوا عن الازدراء بالقانون والدوس بأحذيتهم على أحكام القضاء، هؤلاء هم أنفسهم الذين يتحدثون الآن بجرأة مدهشة عن ضرورة احترام الشرعية الدستورية ويتعلقون بأهداب نصوص أعدها «الترزية» المشهورون لكى تكون مضبوطة على القد والقياس. لقد لجأوا أكثر من مرة إلى تعديل الدستور استجابة لهوى السلطان، ونجحوا فى تمرير التعديل من خلال مجلس مزور، ورئاسة متواطئة، ثم قالوا لنا إن هذه الشرعية، هو ما كان من قبيل الاستغفال الذى جسد ازدراء الرأى العام والاستخفاف به. على مدار عدة سنوات كان الدستور يتحدث عن النظام الاشتراكى وقوى الشعب العاملة. وفى ظل ذلك الدستور تم الانفتاح وجرى الانتقال إلى النظام الرأسمالى الذى توحشت فيه الرأسمالية الجديدة. وفى ظل الدستور الذى يمنع المسئولين من البيع والشراء والاستئجار من الدولة، تم البيع والشراء وتم نهب الدولة. وفى ظله أيضا صدرت قائمة طويلة من الأحكام واجبة النفاذ، ولكن السلطة تجاهلتها وأهدرتها طول الوقت. إذا كان ذلك قد حدث فى الماضى، فلماذا الوقوف الآن أمام المطالب الشعبية تعللا بنصوص الدستور، إلا إذا كان ذلك لغرض مشكوك فى براءته. إن نية التفاعل مع المطلب الشعبى إذا توفرت، فإن لها سندا فى المادة الثالثة من الدستور ذاته الذى يجرى التلويح به الآن، وهى التى تنص على أن «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها...» وفى المادة ما يكفى للاستجابة لتلك الإرادة الشعبية الجامعة التى عبرت عنها الجماهير فى وقفاتها المليونية. من ناحية ثانية، فإن المشكلة الحقيقية تكمن فى تكييف ما جرى فى 25 يناير، ذلك أننا إذا اعتبرنا ذلك ثورة فإنها بذلك تكون قد اكتسبت شرعيتها منذ أعلنت سقوط النظام الذى سعت إلى تغييره. ولها فى هذه الحالة أن تصوغ شرعيتها المؤقتة فى مرحلتها الجديدة، إلى أن ترتب أوضاع الشرعية الدائمة بناء على الدستور الذى تتوافق على إصداره أما إذا لم تعترف بأنها ثورة فإن ذلك له ترتيب آخر يخضع للأوضاع الراهنة، ويقودنا إلى المناقشات العقيمة الجارية. ومن الواضح أن المحتشدين فى ميدان التحرير، والملايين الذين أيدوهم وتضامنوا معهم يعتبرون أن ما حققوه ثورة تسعى إلى تنحية النظام القائم وإحلال نظام جديد مكانه، يستجيب لتطلعات الشعب المصرى ويعيد إليه كرامته وكبرياءه. بالمقابل فإن النظام القائم وبعض القوى السياسية المتحالفة أو المتواطئة معه لا ترى فيما جرى سوى أن غضبة شعبية أو انتفاضة مؤقتة أحدثت بعض الضجيج وقدرا من التنفيس، وبعدما أدت غرضها فإن كل شىء ينبغى أن يعود إلى سابق عهده، بعد إطلاق بعض الوعود الجذابة واتخاذ بعض الخطوات التجميلية. ويبدو أن الجهود التى تبدل خارج ميدان التحرير الآن منصبة على تثبيت الفكرة الأخيرة. (4) لأن ما جرى يوم 25 يناير مبهر للغاية، فإن ميدان التحرير خطف أبصارنا بقدر ما أن قلوبنا تعلقت به. وهو حدث مستحق لا ريب. لكن أحدا لم يلاحظ الروح الجديدة التى سرت نتيجة له فى أنحاء مصر، ولا أقول فى العالم العربى بأسره. ولست أبالغ إذا قلت أن المواطن المصرى يومذاك لم يسترد وعيه فقط، ولكنه استرد كرامته أيضا. وقد تلقيت رسالة بهذا المعنى من أحد الباحثين المصريين المقيمين فى الولاياتالمتحدة عبر فيها عن ملاحظته أن زملاءه الأمريكيين أصبحوا ينظرون إليه باحترام أثار انتباهه. وإذا كان ذلك قد حدث فى أقصى الأرض. فلك أن تتصور وضع المصرى فى العالم العربى، الذى ظل ينظر إليه طوال السنوات الماضية نظرة إشفاق ورثاء، بعد أن صغر حجمه وتراجعت مكانته بذات القدر الذى صغرت به مصر وتراجعت مكانتها. حين عادت الروح إلى الشارع المصرى، أصبح الناس أكثر تماسكا وسرت فى أوساطهم ريح عطرة اجتاحت المرارات والإحن، وارست أسس المودة والمحبة بينهم. وحين خرج الشباب فى مختلف الأحياء، فإنهم اكتشفوا أنفسهم وأقاموا فيما بينهم أواصر مودة لم يعرفوها من قبل. إذ أدركوا أنهم لا يحرسون بيوتهم وأهاليهم فقط، ولكنهم يحرسون أيضا وطنا عزيزا يستحق أن يذودوا عنه. أدرك الجميع أنهم استعادوا وطنهم ممن خطفوه ونهبوه فنسوا كل ما فرقهم واحتضنوه. فقد ذابت الخلافات السياسية والعصبيات الدينية وصار الحفاظ على ذلك الانجاز الرائع هو شاغلهم الأوحد. لم نر اشتباكا بين مسلمين وأقباط ولا بين إسلاميين وعلمانيين، ولا بين الشرطة والأهالى. حتى التحرش الذى تحول إلى ظاهرة فى شوارع القاهرة وغيرها من المدن الكبرى اختفى ولم يعد له أثر. واكتشفنا أن كل هؤلاء اجتمعوا فى ميدان التحرير فى تلاحم مدهش. لم يرتبه أحد ولا فضل فيه لأحد، وإنما كان احتضان الحلم هو الذى جمعهم، وظل أملهم فى الانتقال إلى عصر ما بعد 25 يناير شاغلهم الأوحد وهدفهم الأسمى. وتلك هى الرسالة التى رفض القائمون على الأمر أن يفهموا مغزاها وعجزوا عن إدراك معناها. لذلك كان من الضرورى أن يرحل ذلك العصر بكل رموزه، لكى يتحول الحلم المستعار إلى حقيقة.