لا تخفى على أي باحث أو مؤرخ أهمية دراسة تاريخ المغرب، لاسيما في لحظته المفصلية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نظرا لما عرفته هذه الفترة من تحولات عميقة وتغييرات جذرية يجمع معها المؤرخون سواء مغاربة وأجانب على أنها كانت حافزا على ظهور حركات تمردية وثورات في سائر أنحاء البلاد. وبالرغم من أهمية دراسة طبيعة هذه الحركات، فإن التأريخ لها ما يزال في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد والعمل الجاد، لاكتشاف خصوصياتها وتحليل مسارها التاريخي سواء بالإيجاب أو السلب. وهذا المقال محاولة للتعرف على بعض الجوانب المرتبطة بهذه الحركات، خاصة الحركة الريسونية بالشمال. يتفق أغلب المؤرخين مغاربة وأجانب، على أن وضعية التفكك والانقسام والفوضى التي سادت البلاد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت حافزا على ظهور حركات تمردية في سائر أنحاء المغرب، من سوس في الجنوب إلى طنجةوتطوان في الشمال إلى درجة دفعت البعض إلى اعتبارها فوضى اجتاحت البلاد، أو مرحلة تعكس التردي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما هو الحال عند ابن الأعرج السليماني الذي رأى فيها "خراب العمران وهلاك الرجال، ونفاذ الأموال، وارتباك الأحوال". وما حركة أحمد الريسوني إلا جزء من هذه الحركات، التي ظهرت وسط قبائل جبالة شمال المغرب، استفادت من ضعف السلطة المركزية، فنصبت نفسها مدافعة عن استتباب الأمن والاستقرار في المنطقة، من خلال اعتبار أن ما تقوم به يدخل في نطاق المشروعية والضرورة، وهذا ما عبر عنه أحد الباحثين الذي رأى أن أحمد الريسوني "حينما شب هالته ما عليه أمته من ظلم وهوان ونهب و فراغ السلطة المخزنية، فالتجأ إلى لغة العصر وهي أخذه حقه بيده" في حين أشار آخرون "أن الأمراض الاجتماعية في ذلك العصر كان لا سبيل إلى التخلص منها إلا بانتهاج نفس الطريق الذي ينتهجه العتاة المتمردون الذين عاثوا في الأرض فسادا". وإلى حدود سنة 1894، سيصدر السلطان المولى الحسن أوامره إلى عامل طنجة عبد الرحمن بن عبد الصادق باعتقاله وإيداعه بسجن الصويرة حيث سيتعرض لمعاملة قاسية وصفها هاريس على الشكل التالي: "كان الريسوني في السجن مقيدا بالأغلال من عنقه ويديه ورجليه ويعاني من البرد والعمل الشاق هذه الوضعية ستدفعه إلى استعطاف الشرفاء الريسونيين من أجل التدخل لإطلاق سراحه ، لكن وبمجرد خروجه من السجن سيعود لسابق أفعاله، بل واستخدام أساليب ووسائل جديدة في المواجهة مع المخزن تتمثل في سياسة الاختطاف. 1- اختطاف والتر هاريس 16 يونيو 1903 هذا الحدث أثار ضجة في أوروبا باعتباره شكل تهديدا حقيقيا للأوروبيين بالمغرب، وخاصة بمنطقة طنجة، غير أن عملية الاختطاف لا تزال إلى اليوم تثير الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان هاريس قد دفع بنفسه عمدا إلى الاختطاف، حتى يكتسب المزيد من النجومية، خاصة أن المدينة في ذلك الوقت كانت عاصمة إعلامية بالإضافة إلى كونها عاصمة دبلوماسية. في هذا الصدد يشير تقرير اللجنة الإفريقية الفرنسية يوليوز 1903: "أن هاريس هو الذي عرض نفسه للاختطاف كي يزيد من تأزيم الوضعية السياسية للمغرب، أو كما توضح الوثائق المخزنية أن عملية الاختطاف كانت مدبرة بين هاريس والريسوني وقصة الاختطاف ما هي إلا وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية للطرفين معا". وبمجرد علم بريطانيا بالموضوع، سارعت إلى الدخول في مفاوضات مع الريسوني انتهت بتحرير هاريس 25 يونيو 1903 بعد قضائه 9 أيام، ليتم تسليمه إلى الدواس بقلبية الأنجرة حيث قضى 12 يوم قبل أن يطلق سراحه في 5 يوليوز 1903. 2- اختطاف بيرد يكاريس وفارلي 18 ماي 1904 اختطف الريسوني أمريكيا هو بيرد يكاريس وصهره فارلي، وطالب بتنفيذ عدة شروط من أجل تسريحهما من بينها فدية مالية قدرها350, 000 بسيطة، وعزل باشا طنجة، وتعينه هو نفسه عاملا عليها وعلى أحوازها، وإطلاق سراح الأسرى في صفوف حركته، والحماية البريطانية له ولعائلته هذه الحادثة كان لها تأثيرات سياسية خطيرة، دفعت بريطانيا إلى توجيه شكوى عبر وزيرها أرثور نيكولسن تحمل فيها المخزن المغربي المسؤولية الكاملة عن ما يمكن أن يقع للمختطف فارلي. ومن جهة أخرى أرسل روزفيلت رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية بارجة حربية الى السواحل المغربية كما وجه أمره إلى القنصل الأمريكي بطنجة صامويل ريني كومري ببعث رسالة إلى المولى عبد الحفيظ، يحذره فيها من مغبة أفعال الريسوني، ويخبره فيها بضرورة التعامل مع الشروط التي يفرضها الريسوني من أجل تحرير الرهائن". أمام هذا الوضع، سيضطر السلطان إلى قبول شروط الريسوني وهذا ما تحقق في 18 يونيو 1904، بإطلاق سراح المختطفين وتعيينه في منصب عامل طنجة. خاتمة من خلال كل ما تقدم يتبين أن ضعف السلطة المركزية، وتزايد الضغط الأجنبي بالبلاد أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فسحا المجال أمام ظهور حركات تمردية لصوصية، تميزت بصعود شخصيات كبرى جشعة لا تضع نصب أعينها إلا مصلحتها الخاصة، بقي بعضها مجرد لصوص، بينما اكتسب البعض الأخر الجاه والنفوذ،وما الحركة الريسونية إلا واحدة من هذه الحركات التي استطاعت تكديس الأموال عن طريق المساومة (الحصول على تعويضات مقابل إطلاق سراح الرهائن)، والارتقاء إلى تقلد مناصب سامية (عامل طنجة وأصيلة)،جعلتها تمارس سياسة عنيفة تجاه بعض القبائل الجبلية التي مازالت الشهادات الشفوية تقدم لنا صورا من العلاقات المتوترة بينها وبين الريسوني منها قبيلة بني يسف، بني مكوار، فحص الأنجرة،أهل سريف... وبحكم طموحها دخلت الحركة الريسونية في علاقات دبلوماسية مع الدول الأوروبية مما شكل فرصة سانحة أمام هذه الأخيرة للضغط على المخزن، وتهديده بالتدخل في شؤون البلاد (إرسال بوارج حربية- فرض تعويضات - محاولة تنظيم الشرطة..) وبالتالي استعمالها كورقة رابحة لانتزاع امتيازات مختلفة زادت من تأزيم وضعية البلاد... * باحث في التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عبد المالك السعدي تطوان