صباحٌ مشمس ككل الصباحات الصيفية هنا، في أكدز، البلدة الصغيرة النائمة بين أحضان الجبال في الجنوب الشرقي للمغرب. فنحن في آخر أيام الصيف. استيقظت قبل أن يرن المنبه الذي كان مبرمجا على الساعة السابعة صباحاً لأن علي أن أسافر إلى مدينة وارزازات قصد التأشير على ملف المنحة الدراسية لابنتي، التي تتابع دراستها بالمسلك الفرنسي للباكالوريا الدولية، من طرف مديرية الضرائب. استقبلني الموظف بابتسامة عريضة وأخبرني أن علي إحضار شهادة الأجرة. ومعنى ذلك أن علي أن أقطع حوالي 150 كيلومترا ذهابا وإيابا، مرة أخرى، رغم أن بياناتي المالية (كسائر الموظفين العموميين) موجودة مبدئيا لدى وزارة المالية. لم أجادل في الأمر وقررت العودة من حيث أتيت. وبعد استراحة قصيرة في المقهى عبرت الشارع إلى المحطة الطرقية وركبت سيارة أجرة للعودة، من جديد، إلى أكدز. وبعد أن اكتمل عدد الركاب جاء مُنظم سيارات الأجرة لاستخلاص ثمن الرحلة المحدد قانونيا في ثلاثين درهما. لكني فوجئت به يطلب مني أداء خمسين درهما عوض ثلاثين. وحين سألته عن سبب الزيادة كان الجواب بأنها فترة عيد الأضحى. وبالطبع، فقد كنت الراكب الوحيد الذي قرر عدم أداء الزيادة لأنها غير قانونية. أما باقي الركاب فقد دفعوا خمسين درهما ولم ينبس أي منهم ببنت شفة. سجلت ترقيم سيارة الأجرة، ثم عبرت الساحة في اتجاه مكتب الشرطة. وهناك استقبلني الشرطي، هو الآخر، مُرحباً ومبتسماً. وبعد أن أخبرته بما حصل قال لي بأن مصالح الشرطة وقفت على ما يجري وأنها أخبرت المصالح المعنية على مستوى العمالة بذلك. ثم أضاف بأن علي التوجه إلى القسم الاقتصادي بعمالة وارزازات لتسجيل شكايتي. ودعت الشرطي وغادرت المحطة لأستقل سيارة أجرة صغيرة في اتجاه العمالة. وعند مدخل هذه الأخيرة قال لي أحد عناصر القوات المساعدة بأن علي أن أحرر الشكاية كتابةً وأضعها في مكتب الضبط. أخبرتُه بأن الأمر مستعجل. وبعد دقائق سُمح لي بالدخول بعد حجز بطاقتي الوطنية وتسليمي شارة الزائر، ووجدت نفسي (أخيرا) في القسم الاقتصادي والاجتماعي. قال لي أحد الأعوان بأن المكلف بمراقبة سيارات الأجرة قد ذهب لتناول وجبة الغذاء وأنه لن يعود إلا على الساعة الثانية بعد الزوال. فأخبرته بأنني سأنتظره إلى أن يعود. ثم انتحيتُ مكاناً ظليلا في الممر واقتعدتُ كرسيا وجلستُ أنتظر. وما كادت تمر عشر دقائق حتى سمعت صوت أحد المسؤولين يصيح في الهاتف وهو يصدر التعليمات إلى شخص ما من أجل التوجه فورا إلى المحطة الطرقية و"تحسيس" سائقي سيارات الأجرة بأن الزيادة التي يعملون بها غير قانونية. وبعدها ظهر أحد الموظفين في الممر وطلب مني أن أتقدم إلى مكتبه. أخذ الرجل رقم هاتفي، وترقيم سيارة الأجرة التي كنت سأستقلها وغادرتُها بسبب الزيادة غير القانونية، وظل ينظر إلي باستغراب وأنا أقول له بأن القضية ليست قضية عشرين درهما وإنما هي قضية قانون، قبل أن يقول لي بأن التعليمات قد صدرت إلى المصالح المعنية على مستوى العمالة وكذا الشرطة قصد التوجه إلى عين المكان ووضع حد لتلك المضاربات غير القانونية. وحين طلبتُ منه تزويدي برقم هاتفي لأتصل به إذا ما ثبت أن الوضع لم يزل على ما هو عليه رفض بكل بساطة. وهكذا غادرتُ مقر العمالة وركبت سيارة أجرة صغيرة من جديد في اتجاه المحطة. هناك وجدتُ أن الأمر لم يتغير، وأن "القانون" الوحيد الذي كان، بالفعل، ساري المفعول هو "القانون" الذي سنه سائقو سيارات الأجرة. قلت مع نفسي بأن علي الانتظار. وظللت أنتظر طيلة ساعة وما يزيد دون أن يأتي أحد ل"تحسيس" سائقي سيارات الأجرة. وأخيرا، دفعتُ خمسين درهماً بعد أن أضعت أكثر من ساعتين بين مصلحة الشرطة ومصالح العمالة وانتظار الذي لا يأتي. في طريق العودة كنت أتأمل ما حصل. ووجدتُ أنني، ببساطة واختصار، إنسان شديد الغباء لأنني صدقتُ ما قيل ويُقال عن "المفهوم الجديد للسلطة" و"الحكامة الجيدة" و"دولة الحق والقانون". فقد كان واضحا أنني لم أستفد شيئا مما يناهز عشرين سنة من العمل السياسي وثمانية عشر عاما من العمل الإعلامي، ولم أستوعب بعد أن ما يحكم المغرب هو منطق "الهَمْزَة". فأنا ما أزال حتى الآن، على ما يبدو، أحمل رواسب أيام "الثوة الوطنية الديموقراطية" و"النضال من داخل المؤسسات". لم أفهم حتى الآن أن منطق سائق الطاكسي هو الذي يحكم كل شيء في البلاد وأن كل مؤسساتنا "المنتخبة" تتحول إلى "طاكسيات" في المواسم الانتخابية، يحدد تسعيرة الصعود إليها "سائقون" من طينة أخرى، وأن نفس الشيء يسري على أحزابنا ونقاباتنا أثناء مؤتمراتها الجهوية والإقليمية والوطنية حيث يصعد الصاعدون وينزل النازلون وفق "تسعيرة" تتغير تبعاً للمواسم، تماما مثل تسعيرة النقل في فترات الأعياد. لم أفهم بعد أن ديموقراطيتنا المغربية تتماهى تماما مع الطاكسي بحكم كونها، هي الأخرى، ما تزال قائمة على الريع السياسي وأن الأحزاب السياسية، والنقابات، والجمعيات "المذرة للدخل"، لا تختلف في شيء عن مأذونيات النقل، وأن "الزعماء" السياسيين والنقابيين و"شيوخ" المجتمع المدني ليسوا (في نهاية أي تحليل ممكن) سوى "طبعة مزيدة ومنقحة" من مالكي الطاكسيات. لم أفهم، بفعل غبائي الشديد، أن "مَغرب سَمَر لا يتبدل ولا يتغير" وأن الحواسيب والشبكات المعلوماتية في البلد مجرد أكسسوارات تُضفي على إداراتنا قشرةً من المُعاصرة، وصدقتُ أنه يكفي أن أدلي برقم تأجيري لمصلحة الضرائب لكي تستخرج بياناتي المالية، فإذا بها تطلب مني أن آتيها بتلك البيانات ضمن شهادة مسلمة من وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني رغم أن وزارة المالية، التي تتبع لها مصلحة الضرائب، هي مصدرُ تلك البيانات. فمن فرط غبائي صدقتُ أننا، بالفعل، قد ولجنا عصر الإدارة الإلكترونية وأن الحواسيب في الإدارات العمومية تصلح لشيء آخر غير ألعاب الفيديو. كانت تلك الأفكار تتداعى في هامتي بينما سيارة الأجرة تنهب الطريق في اتجاه أكدز. ولم يوقظني من تيه خيالي إلا صرير الفرامل في منعرجات أيت ساون الخطيرة، التي تقبض الأنفاس، لأكتشف أن السائق يسير في تلك المنعرجات بسرعة ثمانين كيلومترا في الساعة. فكرت في الاحتجاج على هذا السلوك المتهور على طريق بتلك الخطورة. لكني تذكرتُ أنني أمام سائق الطاكسي، أي أمام التجسيد الفعلي، الملموس، لواقع البلاد. وعندها رسمتُ على فمي ابتسامة عريضة وقلت للسائق بكل أدب واحترام: "ماذا لو كان معنا راكبٌ يعتريه الدوار أو يعاني من ضعف في القلب؟" نظر إلي نظرة ذات معنى قبل أن يسألني إن كنتُ أعاني شيئا من ذلك القبيل. أجبته بأنني لا أعاني أي شيء من ذلك ولستُ مصاباً برهاب الأماكن المرتفعة. ثم انخفضت سرعة السيارة تدريجيا. وبعد دقائق كنت في أكدز أكتب مقالي هذا كشهادة توثق لغبائي المشهود ليس إلا.