هل المغرب بلد ديمقراطي؟ سؤال يبدو بسيطا وساذجا وغريبا، وربما متجاوزا أيضا، إذا ما نظرنا إلى الأشكال والمظاهر وإلى الخطاب الرسمي السائد حول الحريات والتعددية السياسية والإعلامية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون.. إلى غير ذلك من مفردات الديمقراطية ومظاهرها. عندما تطرح سؤالا من هذا النوع، لا شك أنك ستجابه باستغراب، وربما استهزاء واستخفاف، من قبل بعض الجهات، وستواجه بالقول: كيف تسأل هذا السؤال وأنت ترى ما ترى من كثرة الأحزاب.. وكثرة النقابات.. وكثرة الجمعيات.. وكثرة الصحف والجرائد والمجلات.. والمتعددة التوجهات والمشارب؟ رد يبدو وجيها، إن لم أقل مفحما، إذا ما أخذ على ظاهره وسطحه، إذ الملاحظ أنه مؤسس على الشرط العددي والمعيار الكمي في النظر والتقييم، لا على الجدوى والفعالية والنوعية. فما الذي يدفع، إذن إلى طرح سؤال من هذا النوع؟ وما خلفياته وأبعاده؟ إن البلد الديمقراطي لا يقاس بعدد أحزابه ونقاباته وجمعياته وصحفه ومجلاته، فهذا المعطى، وإن كان له اعتباره وحضوره في التقدير من الناحية الظاهرية والشكلية، فإنه لا يعبر عن شيء من حيث الحقيقة والجوهر والماهية.. الوضع الديمقراطي يستلزم، أول ما يستلزم، ثقافة ديمقراطية، أي الإيمان بحتمية الاختلاف في النظر والرأي، والاقتناع بحق كل فرد وكل تشكيلة من تشكيلات المجتمع في التعبير عن آرائها ومواقفها، وقبول التواجد والتعايش مع الآخر، والاستعداد للاشتراك معه في بناء الوطن والأمة، وتقاسم المسؤوليات والأدوار، في جو من الاحترام والتقدير بين كل الأطراف والتيارات، والقابلية للدفاع عن هذه الوضعية بكل إخلاص وتجرد وقوة.. إنها ثقافة لا للفكر الواحد ولا للرأي الواحد ولا للون الواحد.. فهي مصدر قوة المجتمع الفكرية، ومكمن عافيته وصحته، وضامن حراكها الإنساني الإيجابي الفعال.. وهذه الثقافة لا تستنبت ولا تستورد ولا تفرض من فوق، وإنما تبنى وتؤسس وتتشكل عبر مسار طويل وشاق، وأنتلجانسيا المجتمع هي طليعة الشعوب في هذا الدرب، ومن يقودها ويحمل مشعلها في هذا الطريق، من خلال ثورة فكرية ومعرفية، تنطلق من التنشئة والتربية، وتمر عبر التعليم والتدريس والمؤسسات الثقافية المدنية وبرامج وسائل الإعلام... هذه الثورة الفكرية والمعرفية مشروعها القضاء على الفكر الخرافي والعقلية النكوصية ومحاربة الجمود والسلبية، وإشاعة الثقافة العقلانية والعلمية، وتنمية روح البحث والإبداع وحب المعرفة.. إن أوروبا، لولا الثورة الفكرية والمعرفية التي كانت في فرنسا وانكلترا بالخصوص والتي قادها فلاسفة الأنوار، ما كانت لتعرف شيئا عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والإدارة المنظمة والفعالة ودولة المؤسسات والحق والقانون... وغيرها من أجزاء ومكونات المجتمعات الحديثة والحية والمنتجة والمؤمنة بكرامة الإنسان والمواطن، والعاملة من أجل ضمان شروط الحياة الإنسانية الكريمة.. هذا هو الأساس والأصل في الحياة الديمقراطية، في نظري، وباقي المستلزمات التي سأوردها، والتي غالبا ما يتم الحديث عنها بهذا الصدد من قبل المحللين السياسيين، ليست سوى فرع عنه وتابعة له، وما لم يتوفر ويتحقق، فستبقى تلك الحياة الديمقراطية مشروخة ومخرومة، غير مؤسسة على أساس متين وصلب، سهل خرقها وتجاوزها، بل وحتى إسقاطها. لكن، ومع ذلك، فلهذه المستلزمات الفرعية والتبعية أهميتها وضرورتها من الناحية الإجرائية والتدبيرية .. ومن أهمها : - الفصل بين السلط : السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، إذ لا يمكن الحديث عن ديمقراطية في بلد ما وهذه المؤسسات الثلاث مرتبطة ومتداخلة فيما بينها، ولا تشتغل كل مؤسسة باستقلال وحرية تامين عن باقي المؤسسات الأخرى، رغم الخطابات التطمينية التي نسمعها بين الحين والآخر المؤكدة لوجود فصل كلي بين هذه السلط، فوقائع كثيرة وأحداث عديدة حصلت ولا زالت تحصل تكذب هذه التطمينات وهذه الادعاءات وتفندها.. والواقع لا يرتفع.. - استقلال القضاء: ورغم أن هذه المسألة متضمنة في النقطة السابقة، إلا أنني أحببت التنصيص عليها وإفرادها بالحديث لأهميتها القصوى والكبيرة حتى لا تتوارى بين الجهازين الآخرين ( التشريعي والتنفيذي ) ولا ينتبه إليها.. فمن أكبر إشكالات فساد القضاء في بلدنا هو عدم استقلاليته، وخضوع أحكامه للإملاءات والتعليمات، التي تمس مصداقيته ونزاهته وقيمة العدل التي هي أساس الحكم.. الشيء الذي يضرب في الصميم سعينا لبناء دولة الحق والقانون. - استقلال الإعلام: وهاهنا أيضا إحدى كبريات أمراض واقعنا الديمقراطي الذي يتشدق ويتبجح به البعض، ولا يمل من التغني به والتطبيل له.. عن أي ديمقراطية نتحدث وإعلامنا مؤمم، وخصوصا السمعي البصري منه، وجزء لا يتجزأ من الجهاز الحكومي.. له وزيره ووزارته ومدعوم وممول من الحكومة؟.. هل يمكن الحديث عن استقلالية الإعلام في وضع كهذا؟ وبأي معنى نستطيع أن نقول إن لدينا إعلاما حرا ومستقلا؟.. بل هل من المستساغ أن يوجد جهاز حكومي مكلف بالإعلام في بلد يدعي الديمقراطية؟ - حقوق الإنسان : بالرغم من التقدم الحاصل في منظومة حقوق الإنسان في بلدنا، إلا أن هناك جوانب أخرى هامة لازالت لم يطلها التغيير والإصلاح بهذا الشأن، ومن أبرزها مبدأ المساواة بين المواطنين في مواطنتهم.. فنحن عندنا درجات في المواطنة، ومستويات في المواطنين.. هناك مواطنون مراقبون مراقبة شديدة جدا، ويحاسبون حسابا عسيرا، وأحيانا ظالما، ويحاكمون ويعاقبون... وهناك من هو مواطن من الرجة الممتازة أو فوق العادة وفوق القانون، ولا تسري عليه قوانين البلد، وإذا نهب واختلس وسرق، أو ظلم وتجبر واعتدى، أو غش وزور وارتشى... فله حصانته ومن يتستر عليه ويحميه من السؤال والوقوف أمام العدالة لينال جزاءه.. وأخيرا، هل بعد ما قلنا يمكن أن نقول أو ندعي أن بلدنا/المغرب بلد ديمقراطي... [email protected]