بعد انتهاء جلسات الإستماع، وقرب الإنتهاء من البحوث الميدانية التي أطلقت منذ شهور، وبعد جلسات تيماتية متخصصة محددة، التي عرفها الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، الذي انطلق بمبادرة من فرق برلمانية مغربية (الفرق البرلمانية لأحزاب الإستقلال، الأتحاد الإشتراكي، الأصالة والمعاصرة، التقدم والإشتراكية، الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار).. ومع قرب صدور «الكتاب الأبيض»، الذي سيكون نوعا من خارطة الطريق لتحديد مسؤوليات الإعلاميين ومسؤوليات باقي الأطراف المتدخلة في إنتاج الخبر بشكل مهني.. حملنا أسئلتنا إلى المنسق العام لهذا الحوار الوطني غير المسبوق في كل العالمين العربي والإسلامي، الخبير الإعلامي جمال الدين الناجي، أستاذ كرسي باليونيسكو، من أجل استجلاء مراحل ذلك الحوار، مضامينه، خلاصاته ومدى إمكانية النجاح في تطبيق تلك الخلاصات. فكان هذا الحوار الجدالي، الصريح، الذي نشكر الصديق الأستاذ جمال الدين الناجي على جرأته في الجواب على كافة أسئلته، وذهابه رأسا، بشجاعة لتسمية العديد من الأمور بمسمياتها، مما أعطى لهذا الحوار بعدا خاصا، له معانيه المهنية والسياسية والأكاديمية..{ لنبدأ بسؤال عام، يفرض نفسه، وينتظر الجميع (مجتمعا وإعلاميين) جوابا عنه، حول الحصيلة الأولية للحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، الذي تتحمل أنت مسؤولية منسقه العام. ماهي ملامح هذه الحصيلة من وجهة نظرك؟ بداية، لا بد من تحديد أمر هام. هو أن طبيعة الحوار، كونه بين الإعلام والمجتمع، قد سمح لكل معني بالموضوع، المشاركة في التعبير عن رأيه، وميزته أنه كان تعبيرا ناضجا وبمسؤولية. كان الأمر عبارة عن هيئة للإنصات من خلال عدد من الجلسات، المتبوعة بأوراق مكتوبة. أي أن المشاركين عبروا عن رأي مسؤول ومهيكل. ولقد نظمنا 21 جلسة، ضمنها 7 جلسات مع المنظمات ذات الصلة بحقوق الإنسان. وهذا يبرز أهمية الإتفاق بداية على مرجعية الإشتغال، من منطلق حرية التعبير أولا. ثم نظمنا لقاءات مع الجهات المسؤولة على مستوى الدولة ( وزارة الإتصال، الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون، الهاكا). ثم مع مؤسسات استشارية ذات وزن مؤسساتي، مثل المجلس الوطني للمنافسة، والهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة.. والغاية من كل ذلك، توجيه رسالة واضحة حول مرجعية الإشتغال المعتمدة، والغاية هي توجيه رسالة أن هناك شفافية، واستحضارا لمبدأ حقوق الإنسان ولحماية المنافسة. وفي موضوعة المنافسة، فقد أدخلنا المقاربة الإقتصادية في تناول سؤال الإعلام، وهو أمر بديهي - على كل حال - عالميا. بالتالي، لم يكن سهلا ترسيخ هذه المقاربة الإقتصادية، لأنه تاريخيا في المغرب، كانت طاغية فقط المقاربة الإيديولوجية، وهي التي تنمي الحدث اليومي في العلاقة بين الدولة والإعلام. بينما الشق الإقتصادي محوري، ويترجم البعد الديمقراطي لطرح قضايا الإعلام بشكل عادي وسلس. طرح ينسب الأشياء ويسمح بالرؤية للمسألة على أنها تنظيم للعرض والطلب. بالتالي، فإنه كلما تعدد العرض كلما كان التنظيم المؤسساتي ضروريا. بينما في ما سبق لم يكن هناك تعدد للعرض، بقدر ما كان هناك اختيار للعرض، وأحيانا يتم فرضه. علما أن دخول الإقتصاد في المعادلة، لا يعزز فقط من شروط التنافسية والديمقراطية، بل إنه يدخل أيضا بشكل سلبي. لأن التجارب التي سجلت في عدد من الدول، منذ ما حدث في اليونان سنة 1992، وفي عدد من دول إفريقيا السوداء، هو البحث عن آلية لتثبيت المراقبة الأخلاقية للعمل المهني، ضدا على الإنزلاقات المسيئة للمهنة، التي تفرزها اللوبيات التي ترى في الإعلام أداة للضغط. بحيث يصبح الإنتباه للإعلام على أنه قوة ضغط، انطلاقا من ما ينشر وليس انطلاقا من التعاقد السياسي على مستوى هرم الدولة مثلما عشناه نحن في المغرب خلال العقود الماضية. فهذا التحول، من حيث التحليل لم يكن واضحا أو حتى مطروحا. وأعتقد أن هذا واحد من الخلاصات الكبرى للحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع. النتيجة، هي أن مسألة المقاولة الإعلامية، أصبحت قضية محورية. وهذا يستوجب ميكانيزمات عدة جديدة، على ضوئها ستتم إعادة النظر في الدعم الذي تقدمه الدولة، وقانون الشغل بصفة عامة والحقوق الوظيفية داخل المؤسسة الإعلامية. بل سنصل حتى إلى المحتوى. لأنه حين تطرح قضية العمل المؤسساتي تطرح قضية الثقافة السائدة داخلها، والحكامة، والعصرنة. ولعل نموذج جريدة «لوموند» اليوم في فرنسا واضح، حيث العمق الإقتصادي للقضية هو الطاغي، ويطرح أسئلة عميقة على المجتمع الفرنسي وعلى الدولة أمام اللوبيات المالية التي يسيل لعابها للدخول إلى مؤسسة «لوموند» والتحكم فيها. ما يطرح اليوم في باريس، أن هذه الجريدة هي رأسمال وطني للفرنسيين لا يمكن المتاجرة به. بالتالي، فالمقاربة الإقتصادية اليوم واجبة وضرورية. { في لقاء مؤخرا بمقر سابريس قلت ملاحظة مهمة، ترتبط بالبيداغوجيا الجديدة في التعامل مع موضوعة الإعلام بالمغرب. الحقيقة، أن هذا يدفعني كي أعود معك إلى مسألة المرجعية. هل المرجعية المعتمدة، هي مرجعية كونية، أم أنها مرجعية محلية محضة؟.. والمقصود بالمرجعية المغربية، أننا بلد نامي، بمخلفات الصراع السياسي الحقوقي الذي كان، أننا بالكاد نجرب ممكنات حرية التعبير والتعدد..إلخ. بصراحة، في ما يخصني، على مستوى تحرير الأرضية، واختيار المحاور والجهات التي لابد من الجلوس معها، فالمرجعية المتحكمة هي المرجعية الكونية. لأنه تأسيسا على مبدأ تحقق حرية التعبير، فإن الأمر يقتضي الإحتكام لهذه المرجعية الكونية. اعتبارا، لأن المواطن المغربي أصبح مصدر خبر وصانع خبر أيضا ومستهلك خبر. في ما يرتبط بقضية «الخصوصية»، فإن حضورها يجب أن يكون في سياق محدد هو تحقيق التوازن مع الإكراهات المحلية، دون أن يكون ذلك على حساب ما هو كوني. علما أن أي مشكل طرحته في علاقة الإعلام بالمجتمع، ضمن نظام ديمقراطي، تجد أنه قد طرح أمس أو اليوم أو قد يطرح غدا، في كل الديمقراطيات عبر العالم. مما يعني أن التحديات كونيا واحدة ومتشابهة... { عفوا، هل هذا يعني أنك كنت مرتاحا أكثر في تدبير الحوار بمرجعية كونية، أم على العكس أنك كنت غارقا في محاولة الإقناع بهذا الإختيار؟! الحقيقة، تعبت على المستوى البيداغوجي. أي أن الناس تنطلق من واقع أن هناك فقط 350 ألف نسخة ل 30 مليون مغربي، وأن الجريدة تكون فيها فقط ثماني صفحات ، ضمنها أربع صفحات للإعلانات الإدارية ،ثم صفحتان خبريتان، وحتى هذه المواد الخبرية تناقش، بالتالي، فإنهم يقولون، إننا لا يمكن في واقع متخلف مثل هذا أن تكون عندنا نفس أسئلة وطموحات وشروط المهنية الكونية، المطروحة في فرنسا أو ألمانيا. والحقيقة، تقنيا، أنها نفس الأسئلة، ويجب أن تكون لنا الجرأة لقول ذلك والإقتناع به، وأن يكون لنا الطموح المشروع للإنتماء لزمننا. في ما قبل، كان لابد لنا من انتظار فترة زمنية لاقتناء مطبعة حديثة، بينما اليوم، بإمكانك الحصول على مطبعة متقدمة مثل التي تتوفر عند الجرائد السويدية أو الفرنسية أو غيرها. ونفس الأمر ينسحب على الإذاعة وعلى التلفزيون. بل أكثر من ذلك، أنك حتى على مستوى النص القانوني، فأنت تسبق المشرع، الذي لا يتوفر مغربيا على الإجتهاد القانوني بعد. إذ، بإمكانك إدخال إذاعتك إلى الأنترنيت بحرية كاملة، لأنه ليس هناك نص يقنن ذلك أو يمنعك من ذلك. بالتالي، فالمشكل المطروح، هو هل جهزت نفسك لهذا التحدي الكوني أم لا؟. هل أثتث بيتك كما يجب أم لا؟.. هل استحضرت من أين ستأتيك التيارات الهوائية الفاسدة وأن لا تصاب بالزكام؟!.. المسألة في الخلاصة، هي قضية إبداع. هنا تدخل خصوصية، كثيرا ما يتم التغافل عنها بيداغوجيا. وهي أن الإبداع مرتبط وملتصق بالشباب، ونحن كبلد هذا هو رأسمالنا الكبير. فنحن الذين نتوفر على الرأسمال الحقيقي في المعادلة، فليس من حقنا التفريط فيها. ونحن مؤهلون لحرق المراحل، بفضل هذا الجيش الواسع من شريحة الشباب. وإذا ما تم إدماج هذه الوسائل في التعليم وتحفيز الشباب على البحث، والتعامل مع التقنيات الجديدة، فإن المعركة مربوحة. فالمدرسة والجامعة لها دور كبير، لابد أن تلعبه كاملا في هذا الباب. { إذن، هنا نخلص إلى أن الأمر مرتبط بمشروع مجتمعي متكامل.. بمعنى أي مشروع مجتمعي نريده اليوم للمغاربة، وماهو دور الإعلام فيه؟.. ألا ترى معي أستاذ الناجي، أن عمق المسألة مرتبط بمشروع مجتمع؟!.. حين تطرح مسألة المرجعية، حين تطرح قضية حرية التعبير، ليس فقط على أساس أن تمنحني ترخيصا أنا المعارض وأنك تمنعني من الكلام، لكن بمعنى حرية التعبير في ارتباطها بالمواطنة وحقوق المواطنة، أي أن يتم التعامل مع الصحفي كصحفي وليس كمنخرط في حزب سياسي أعطي له الحق للتحدث إعلاميا. حين نطرح مثل هذه القضايا، فنحن في العمق نتحدث عن مشروع مجتمعي. وحين نتحدث عن الإعلام، أنه ليس قضية «زاوية» أو فقط «انخراط في رسالة»، بل إنه مؤسسة اقتصادية متكاملة، فيها الحق والواجب والأخلاق (الفاتورة والرشوة وحقوق الصحفيين والعمال... إلخ)، فأنت حينها تناقش مشروعا مجتمعيا. حين تناقش مسألة القطب العمومي في التلفزيون، الذي يجب أن يقوم بواجبه المهني في الإخبار والتربية والترفيه، وأن يكون ذلك محققا لرضى المشاهدين. وإذا طرحت معنى القطب العمومي، كما هو محدد دوليا، الذي يؤكد أنه يجب أن يكون له ارتباط عضوي مع حقوق الإنسان، وأن ينمي قيم تلك الحقوق على مستوى التعدد وغيرها،، فأنت حينها تتحدث عن الدولة ذات المشاريع الإستراتيجية، التي ليست غايتها الربح المادي، بل دعم القطاع العام، بما يحقق التنمية وإشراك الناس في قضاياهم العامة.. هذا أيضا عنوان من عناوين المشروع المجتمعي. لقد كنا نقول، في مجال القطب العمومي، أن الأساس هو أن لا تحتكره الدولة، نعم، ولكن ماذا عن احتكار عدم الجودة، احتكار الكمي على حساب الكيفي، فبالتالي، حينها لن نكون قد ربحنا شيئا. فهذه هي البيداغوجيا التي أحب التحدث عنها، أي إعادة التحليل بمنطق آخر، من زوايا نظر أخرى مغايرة. { أليس ما تفضلت به، هو نوع من الجواب الضمني، على نقاش طرح بعدد من الصحف المغربية (الذي قد نتفق معه وقد نختلف معه)، يقول بضرورة أن يكون الحوار حول الإعلام مع الدولة وليس مع المجتمع؟!.. والحال، في رأيي، ربما، أن المجتمع أشمل من الناحية السياسية، لأن الدولة آلية تدبيرية في خدمة المجتمع ومتضمنة فيه؟!.. وهذا مهم من الناحية السياسية والمهنية.. سأذهب بعيدا، وأؤكد لك أن غايتنا هي جعل الحوار جزء من نقاش عام حول مشروع مجتمعي. ثانيا، هناك أمر لم تفرزه لنا بعد العلوم السياسية في المغرب، ويتعلق الأمر، بسؤال: متى سنتحرر من يقيننا أننا رعايا ولسنا مواطنين؟!. لأنه حين نتحدث عن دولة الحق والقانون، فيجب أن نكون متشبعين بفكرة أننا مواطنون. أي أن علاقتنا بالدولة هي علاقة من نوع خاص، تتحدد في أن الدولة ملك لك. لأنه للأسف، عشنا تاريخيا، في شعور عام أن الدولة ليست ملكا لنا، كأننا لا نسكن معها نفس البيت ونتقاسم نفس السقف. وبالمفهوم الديمقراطي، فنحن نسكن نفس البيت. فالدولة ملك لنا جميعا، لأنها منبثقة من صندوق الإقتراع، الذي يفرز حكومة، قد نتفق مع سياستها أو نختلف معها، فنسقطها في ما بعد عبر صندوق الإقتراع. بالتالي، ما زلنا كجيل، سجناء هذه الفكرة أننا في خصومة مع الدولة، وهي الفكرة التي تعززت أيضا بسبب أن الدولة نفسها رسخت هذا الجفاء، وكان الإعلام آلية من الآليات لتعميق ذلك، من خلال احتكار التلفزيون وتوزيع فرص البروز فيه تبعا لحساب خاص. إذن، حين يقول لي البعض، إن الحوار يجب أن يكون مع الدولة، فإني أتساءل معه: طيب ما هي الدولة، أليست أداة تدبيرية للمجتمع، وأنها جزء منه. وبالتالي فالحوار يجب أن يكون مع الأعم والأشمل، الذي هو المجتمع. وإلا فإننا سنبقى سجناء نفس المنطق السابق، الذي يعمق الفجوة بين الطرفين وكل يغني لليلاه. وهذا المنطق هو الذي يجب تجاوزه، أي منطق الرعية، الذي هو منطق منفعي. { لو قمنا، الأستاذ الناجي، برسم خطاطة لنتائج الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، حسب معرفتي، فهناك أبواب كبرى أربعة، هي: الشق القانوني، الشق المقاولاتي، الشق السياسي، ثم الشق المرتبط بالجسم الصحفي نفسه وأشكال تنظيمه وتكوينه. أين وجدت، من موقعك كمنسق عام لهذا الحوار، أن هناك نضجا في المقاربة في هذه الأبواب الأربعة الكبرى؟. الوعي الذي برز كبيرا، لمسناه في الشق المقاولاتي. كما أن الشق المرتبط بالجسم الصحفي، في شقه التنظيمي، كان الوعي فيه عاليا بالموضوع وبالحلول. بالنسبة للشق السياسي، كانت المرحلة مرحلة بيداغوجية، حيث تم التأسيس لوعي جديد في التعامل سياسيا مع موضوعة الإعلام. وهذا أمر اعترف به الجميع، الذين أكدوا لنا أنهم يعيدون اكتشاف الإعلام المغربي وآليات إنتاجه وتنظيمه بشكل جديد... { مثل ما حدث في البرلمان؟! تماما.. فالإقتناع بأن العملية كلها هي عملية اقتصادية، لم تكن واضحة في ذهن البرلمانيين. فقد كان هناك اعتقاد أن الصحفي كاتب مقالات فقط، وأن المحاسبة يجب أن تطال ما يكتبه، أما عمق المسألة من أن الأمر يرتبط بسوق وإنتاجية اقتصادية وتدبيرية كاملة، ومنطق العرض والطلب، والرشوة والضرائب والتنافسية إلخ، فهذا لم يكن واردا وواضحا عندهم. أما بخصوص الشق القانوني، فإن اللقاءات التي جمعتنا بعدد من النقباء ورجال القانون، قد جعلتنا نتخلص من ذلك الخندق الذي يحاول سجننا في منطق العقوبات أو عدم العقوبات، وانصب النقاش حول أننا في حاجة إلى ترسانة كبيرة من القوانين التنظيمية المنطلقة من حرية التعبير بالنسبة للمواطن، المتصالحة مع التطور التكنولوجي للقرن 21 ( مثل استعجالية إيجاد النص القانوني المنظم للولوج إلى الأنترنيت، لأنه لا يجب قمع الإبداع عند الشباب في هذا الباب ). مثلما أن هناك وعيا حول معنى المنفعة العامة في التلفزيون المغربي، التي تعنى حق المشاهد المغربي في الجودة في ما يقدم له من منتوج إعلامي، من أجل إقناعه بعدم الهروب إلى قنوات أخرى تقدم له الجودة. علما أن كل الدراسات تؤكد أن ذلك الهروب يتم دوما على مضض، وبالتالي، إذا ما حققت المنفعة العامة مبدأ الجودة، فإن المشاهد المغربي سيتصالح مع تلفزيونه المحلي. والجودة هي الإبداع على كافة المستويات، المضمونية والتقنية. وهذا يجعلنا في عمق المشروع المجتمعي الذي تحدثنا عنه من قبل. الصعوبة، حقيقة، كانت في المجال الذي اخترناه لانطلاق الحوار منه وهو البرلمان. وللأسف الصورة العامة للمؤسسة التشريعية عند الرأي العام ليست إيجابية، بسبب كثرة الغيابات للبرلمانيين، بسبب مستوى بعض البرلمانيين التكويني، بسبب سلوكيات أخرى تصل أخبارها إلى الناس. بالتالي، كانت البداية من مجال عليه انتقاد، هنا كانت المعركة البيداغوجية الأكبر، لإفهام الجميع أن العمل المؤسساتي، حين يكون جديا، مع أناس واعين وجديين تكون النتيجة باهرة. وهذا ما حصل لنا مع العشرات من البرلمانيين الذين تأكدوا من جديتنا، فكانوا محاورا فعالا، بل وسندا كبيرا لنا. هذا أمر ينسحب على أعضاء برلمانيين من كل الفرق صراحة، وهذا مكسب ربحناه كإعلاميين. سياسيا، لابد أن أسجل واقعة مؤسفة، وهي أنه منذ 28 مارس، وجهنا رسالة إلى كل الأحزاب السياسية المغربية الممثلة في البرلمان، سواء التي كانت وراء مبادرة الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، أو التي لم تكن وراءها، نطلب فيها منهم تقديم وجهة نظرهم مكتوبة حول معضلة الإعلام ببلادنا، وللأسف لم نتوصل بأي جواب لحد الآن من أي حزب مغربي، علما أننا حددنا لهم مسبقا 12 نقطة ننتظر جوابهم حولها. وهذا أمر مقلق حقيقة. بينما طموحنا جميعا هو أن نجد آلية للحوار دائمة بين الجسمين السياسي والصحفي، تسمح بإيجاد الحلول لكل المشاكل التي قد تقع في طريق العلاقة بينهما. هذا هو طموحنا. { أستطيع أن أتوهم أن هناك هيكلة للأطراف المتدخلة في العملية الإعلامية. أليس العطب الأكبر، هو في الجسم الصحفي نفسه؟!.. هل بإمكانك تشريح هذا العطب ولو بعجالة؟!.. فعلا هناك عطب.. هناك الإرث التاريخي لطبيعة عمل النقابة الوطنية للصحافة المغربية، التي كانت مجالا لصراع سياسي حقوقي. مثلما أن عقد ازدياد الإعتراف بالصحفي كمهنة وكوجود حديث العهد، بحيث إنه لا يتجاوز 15 سنة. وأن ذلك الإعتراف، لحسن الحظ، قد تعزز أكثر منذ حكومة التناوب سنة 1998، وتقوى أكثر منذ سنة 2000. أي أن الصحفي أصبح يتفاوض مع الدولة، ويوقع معها العقدة الإطار، مثلما حصلت النقابة على صفة المنفعة العامة، ومنح لها مقر... إلخ. لكن العطب، كامن في عدم تثبيت الذات داخل الحقل الإعلامي. لأن ما لم يتم الإنتباه إليه، هو أن تطور الحقل الإعلامي، بفضل الحرية في التعبير وبفضل دخول الرأسمال والإقتصاد إليه، أصبح مجالا للتنافس، لم يعد الأمر مقتصرا على الإنتماء السياسي، بل أصبح الشرط هو المهنية. بالتالي، فإن تاريخ النقابة كان دوما تاريخا سياسيا نضاليا، ولم يكن مهنيا صرفا. الحل، هو أن نصل إلى ترسيخ التعددية، وأن يتوفر على شرط الإستقلالية كمحاور للآخرين. لابد من الإنفتاح النقابي، لترسيخ التعددية، بالشكل الذي يحمي الجسم الصحفي وإطاره النقابي ويقويه ويعززه كمحاور مستقل لا محيد عنه. { هل «الكتاب الأبيض»، المنتظر صدوره في الأشهر القادمة، سيكون أداة قوية للجسم الصحفي كي يكتسب هذه الهوية المرتجاة؟! ما تقدمه هو الإستنتاج المنطقي للعقل. أي هذا ما يجب أن يكون. لأنه إذا لم تتدخل نيات سيئة للنسف، فالآلية جد مفيدة. علما أن مبادرة النقابة، في العديد من القضايا، مثل مطلب الشفافية في المقاولة الصحفية، هي مبادرات جد متقدمة. وقضية الشفافية الإقتصادية أمر ليس سهلا، وسوف تستل الخناجر لمحاربتها من قبل الكثيرين. فإذا لم تكن قويا كصف صحفي متراص، فإن الآخرين سينتصرون بمنطقهم عليك. هذا يتطلب نضجا معينا، يعكس أمرا حاسما، هو أن المشكلة، نقابيا، ليست مشكلة مواقع، بقدر ما هي مشكلة وجود وحقوق يجب الدفاع عنها بصف موحد منسق ومتراص، وليس مثل ما يقع للأسف مع المركزيات النقابية العمالية بالمغرب. فالتعدد مهم، ولكن التنسيق أهم. { « الكتاب الأبيض»، هل اخترتم له تاريخا محددا؟! ليس هناك أحسن من تاريخ 15 نونبر، الذي هو اليوم الوطني للإعلام، الذي أعتز أنني أنا من اقترحته منذ البداية كيوم وطني للإعلام. ونحن في انتظار إنهاء البحوث التي أطلقناها وتحيينها، وهي أربعة بحوث (الشباب، التكوين، المقاولة، التكنولوجيات الجديدة). ثم هناك، أيضا، بحث تقني قانوني. وأهم هذه البحوث هو حول الشباب الذي ينجزه الباحث السوسيولوجي المغربي الهراس، بتعاون مع باحثين شباب من الدراسات العليا بكلية الآداب بالرباط. وهو بحث ميداني كبير وهام جدا. وبخصوص الشق القانوني، فنحن بصدد تجميع العديد من الإجتهادات والدراسات في هذا الباب. ثم هناك عملية تفريغ 104 ساعات من التسجيلات التي تمت من خلال اللقاءات التي نظمناها على مدى الشهور الماضية، التي سنستخرج منها تقارير قطاعية ثم تركيب ختامي، و«الكتاب الأبيض» سيتضمن الإختيارات الإستراتيجية وآليات الإشتغال المقترحة ومشاريع النصوص القانونية المقترحة.. { هذه البنية الهائلة، غير المسبوقة في المغرب، بل غير المسبوقة حتى في العالمين العربي والإسلامي.. هذا العمل الجبار، الذي يحسب للمجتمع المغربي في أبعاده المهنية والقانونية والسياسية الإقتصادية المقاولاتية، هو يبعث على التفاؤل. لكن تمة سؤال يفرض نفسه علي: هل جمال الدين الناجي متفائل أن هذا الجهد سيفضى إلى شئ ملموس فعلا؟! أم أنه سيبقى مشروعا جميلا وهائلا على الرف؟!.. عندي رهان واحد. هو الطريقة. فهذا العمل الذي انطلق من البرلمان أشرك فيه الجميع، بما فيه المجتمع بشرائحه المتعددة من خلال البحوث الميدانية. إننا سنقوم بعمل بيداغوجي يُشهد الجميع على الجميع. هذا هو رهاني. ف «الكتاب الأبيض» لم تقم به جهة مختصة كي تقدمه لجهة محددة. بل إنه عمل جماعي لأهل المهنة والمجتمع، من أجل الجميع (إعلاما ومجتمعا ودولة). سيكون «الكتاب الأبيض» معززا أيضا بإضاءات من الخارج، من أروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا السوداء، وضمنها إضاءات من العالم العربي الذي سنزور بعض عواصمه قريبا (القاهرة، الخليج، الأردن، لبنان) كي نحمل إليه خلاصات عملنا والإنصات لجوابهم المحدد حول نقط محددة. علما أننا وحدنا في العالم العربي الذين انخرطنا في سؤال الحوار حول الإعلام والمجتمع ونحاول تقديم جواب عن ذلك، في أفق ترسيخ قيم المواطنة كمشروع مجتمعي هائل.