الأغنية الملتزمة بالمغرب هي واحدة من الألوان المتنوعة التي تتميز بها المملكة في هذا الفن، إذ ظهرت في المغرب منذ بداية سبعينات القرن الماضي على أيدي عدد من المجموعات الغنائية، من بيمنها ناس الغيوان و جيل جيلالة وإزنزارن وآخرون.. وهذا اللون الموسيقي، الذي يتميز عن غيره بكونه حاملا رسالة ويدافع من خلاله الفنانون عن قضايا تروج داخل المجتمع، يدفع مجموعة من الشباب إلى تبني هذا اللون الموسيقي للتعبير عن مجموعة من المواقف. ويعتبر الجنوب الشرقي للمملكة، أو "أسامر" كما يحلو للأمازيغ تسميته، مسرحا ينشط فيه عدد كبير من المجموعات الشبابية التي اختارت الأغنية الأمازيغية الملتزمة طريقا للدفاع عن اللغة والهوية والأرض والثقافة الأمازيغية.. ومن أبرز ما يميز المنطقة يلوح الارتفاع الكبير لكمّ الشباب الذين يتعاطون مع الغناء الملتزم، بالرغم من اعتباره جديدا على ذات المنطقة، فاللون الموسيقي السائد بها يقترن بالموسيقى التقليدية. أسماء خالدة موحى ملال.. وهو إسم يعرفه كل الفنانين الشباب ب"أسامر".. يعد من المؤسسين لهذا الفن الجديد في ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ بكتابة عدد من القصائد أيام النضال من اجل الاعتراف بالثقافة الأمازيغية، قبل أن يصدر أول ألبوم له سنة 1989 بعنوان "اسيف ن دادس" أو "نهر دادس". موحى ملال تحدث لهسبريس عن بداياته قائلًا :"كنت أستمع كثيرًا للمغني القبائلي لوناس ايت منكلات، وكذلك أغاني جاك بريل، فقد تأثرت بهما كثيرا، وكان أبي اشترى لي قيثارة ولم أعرف كيف أعزف عليها، ما جعلني أبتكر أسلوبي الخاص في العزف، ولم يكن الجنوب الشرقي يتميز بنوع معين من الموسيقى عن باقي المناطق، وهذا ما جعلني أفكر في لون موسيقي مميز من خلال إدخال إيقاعات دولية ومزجها بالموسيقى المحلية". وتحدث موحى ملال عن المعاناة التي تواجه شباب المنطقة الذين يحترفون الموسيقى الملتزمة، قائلًا : "كلهم مثقفون وحاملون لشهادات جامعية، لكن الصعوبات التي تواجههم وتحول دون استمراريتهم تتمثل في غياب شركات إنتاج تهتم بالموسيقى الملتزمة.. حتى الدولة تدعم أغان لا تصل إلى المستوى المطلوب، وتهمل شباب الجنوب الشرقي الذي لم يأخذ نصيبه من الإعلام والمهرجانات رغم كل ما حققه خياره الغنائي الملتزم.. ورغب مني في مساعدة هؤلاء أنشأت استوديو مجهز أضعه رهن إشارتهم لتسجيل أعمالهم، وبالمجان لمن لا يستطيع اداء تكاليف الخدمة، ولو كانت لدي الاستطاعة المادية لتكلفت بإنتاج البوماتهم لأعوّض غياب شركات الإنتاج التي لا تهتم بهذا الفن." إلى جانب موحى ملال يلوح إسم آخر يعتبر رمزا للأغنية الأمازيغية الملتزمة، إنه نبارك أولعربي الذي يعرفه الجمهور بلقب "نبا".. مؤسس مجموعة "صاغرو باند" التي ذاع صيتها.. ونبارك أولعربي توفي سنة 2011 مخلفًا وراءه جملة من الألبومات، مساهما بالقسط الوافر في الدفع بالأغنية الأمازيغية الملتزمة إلى الأمام. وقال موحى ملال في حق موحى :" كل المخططات التي وضعتها للوصول بالأغنية الأمازيغية في ظرف ثلاثين سنة اختصرها نبارك أولعربي في سنوات قليلة، وذلك من خلال حبه لهذا الفن وتفانيه في العمل، وأخلاقه العالية"، نبارك أولعربي ترعرع في عائلة فنية، وقد توفي عن عمر يناهز 28 سنة، ممضيا حياة حصل خلالها على إجازتين في العلوم القانونية والأدب الفرنسي، وأنتج أربعة ألبومات مع مجموعة "صاغرو باند"، ودخل قلوب الملايين بأخلاقه التي يشهد له بها كل من عرفه. قصص فنانين مجموعة صاغرو باند تستعد لإطلاق ألبوم جديد هذه السنة، وهي التي اشتهرت بأغانيها الملتزمة وقوة الكلمات المصاحبة لأنغامها.. عرفت انطلاقتها الرسمية سنة 2007، وكانت تضم نبارك اولعربي واخاه خالد ألعربي الذي قال في حديث لهسبريس :" بداياتنا في صاغرو باند كانت خلال التسعينيات حين كنا نمارس الموسيقى بشكل هاو، إذ تأثرنا كثيرا بعدد من الفنانين، خصوصا المنتمون لمنطقة القبائل في الجزائر، ومعتوب لوناس بوجه خاص، وقد كنا نستمع لكل من كان يغني عن القضية الأمازيغية إلى أن قررنا سنة 2007 أن نصدر أول ألبوماتنا تحت عنوان موحا، وهو الذي لخصنا فيه معاناة الأمازيغي.. نتحدث في أغانينا عن جميع المواضيع، من الحب والحرية، إلى المرأة والتهميش، وكذا الغنى والفقر". من بين المجموعات الغنائية التي برزت في الجنوب الشرقي المغربي، في السنوات الخمس الأخيرة، تلوح مجموعة"tagrawla band" التي تأسست سنة 2007 واستطاعت أن تحقق نجاحا كبيرا في فترة قصيرة، حيث أصدرت أول ألبوم سنة 2010 بعنوان "إنكراف" أو "المعتقلون"، وكانت في البداية تتكون من شخصين، تمكنت بعد ذلك من استقطاب مجموعة من الشباب العاشق للأغنية الملتزمة حتى أصبحت المجموعة تتكون من ستة أفراد. أوعقا، واحد من مؤسسي مجموعة "tagrawla" ويبلغ من العمر 30 سنة، يقول في حديث لهسبريس :" تأثرنا بمجموعة من الفنانين الأمازيغ، مثل موحى ملال، وكذا معتوب لوناس.. والأغنية الملتزمة في الجنوب الشرقي عرفت تقدما ملموسا نظرا لتعاطي مجموعة من الشباب لها". ويضيف ذات الفنان: "نحاول في tagrawla أن نتحدث عن مواضيع تعلق بمعاناة الأمازيغ، ونحاول تغيير نظرة الناس إلى الثقافة الأمازيغية، وندافع عن معتقلي قضيتها من خلال الأغاني التي ننشدها، ونهدف لإيصال الموسيقى الأمازيغية الملتزمة إلى العالمية، لكن الهدف الأساس من أغانينا هو التعبير عن الواقع الصعب الذي نعيشه في منطقة الجنوب الشرقي". ومن بين الوجوه التي حملت مشعل الأغنية الملتزمة في الجنوب الشرقي يتواجد الشاب عبدالهادي إدريسي، المعروف فنيا ب "أمناي" التي تعني "الفارس" بلسان العرب.. وهو الذي قال في حديث لهسبريس:"وُلدت في أسرة محبة للفن، حيث وجدت أخي الأكبر يملك عدة آلات موسيقية، منها العود والبانجو والقيثار.. وكانت لدي فرصة للاحتكاك بهذا العتاد الإبداعي منذ الصغر، لكن القيثارة هي التي أثارت إعجابي أكثر من باقي الآلات، ولم أكن أعرف شيئا عن الكتابة الموسيقية أو حتى كيفية تسوية أوتار الآلة، لكن أذني كانت دائما مشحوذة". وأ شار "أمناي" إلى أن فضاء العيش بالجنوب الشرقي يتوفر على مجموعة من المبدعين والفنانين وسطه، في شتى مجالات الفن، وإبداعهم يقتبس من تداعيات العيش بهذا المجال الجغرافي والثقافي المتميز، معتبرا أن الكائن البشري يتأثر بالطبيعة والمحيط الذي يقترن به وجودا.. سواء أكان ذلك سلبا أو ايجابا. فن يطبع المنطقة "تيزليت إتناغن"، أو الأغنية الملتزمة، اختارها شباب الجنوب الشرقي وسيلة للحفاظ على ثقافتهم الأم، ومنظومة للتعبير عن همومهم، كما حملوا على عاتقهم مهمة الفعل الإيجابي في المجتمع باستعمال الكلمة الملتزمة، مع إيصال الموسيقى الأمازيغية إلى العالمية من خلال المزج بين مميزاتها المحلية التقليدية وبيقي الإيقاعات العصرية، باستعمال آلات موسيقية عالمية، والاستناد لكلمات من الشعر الامازيغي لها حمولة تعبيرية وازنة وقادرة على معالجة ما اختير لها من مواضيع بسلاسة ونجاعة. في حديث مع زايد أوشنا، بصفته باحثا في الثقافة الأمازيغية، قال :" الأغنية الملتزمة في الجنوب الشرقي هي نتيجة تطور عرفته الموسيقى المحلية، إذ إن الإرث الفني والموسيقي الذي تعرفه المنطقة، من أحيدوس وأحواش وأنواع متعددة من الرقصات، يعدّ مصدر إلهام لفناني الموسيقى الملتزمة أو الهادفة"، مشيدا بالمجهودات التي قام بها الفنان موحى ملال، الذي اعتبره المؤسس لهذا الفن الجديد المنتشر بشكل كبير في المنطقة، وأضاف: "لا يوجد منزل في الجنوب الشرقي تغيب عنه القيثارة، وهذا دليل على الانتشار الواسع والتأثير الكبير للأغنية الملتزمة على شباب المنطقة". تبقى الموسيقى الأمازيغية الملتزمة فنا يجسد التنوع الكبير الذي تعرفه الثقافة الأمازيغية التي هي مكون أساسي وأصليّ للهوية المغربية، كما يبقى ذات الفن الشامخ سلاحا لشباب منطقة اختاروا أن يعبروا بواسطته عن ما يخالجهم وسط صدورهم، وكذا ضمان استمرار للفن الامازيغي في مراكمة التجارب والخبرات سائرا في طريق التطور، ليتماشى مع متطلبات العصر وتحديث الأذواق، دون أن يفقد نواته التي تجعله مجالا خصبا للإبداع والإبتكار، ووسيلة للدفاع والحفاظ على الهوية. * صحافي متدرب