نجحت (الأحاديث المحتقرة للمرأة) في الرواج بين العلماء قبل العامة بسبب آثار الجاهلية وترسباتها، وتغلغل الإسرائيليات وتلقيها بالقبول أيام التابعين. ومن تلك الأحاديث المعتمدة في احتقار المرأة، حديث ينسب إلى رسول الله أنه جعل النساء أقل أهل الجنة، وهذا نصه: روى الإمام مسلم في صحيحه من طريق شُعْبَة بن الحجاج عَنْ أَبِى التَّيَّاحِ يزيد بن حميد قَالَ: كَانَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ امْرَأَتَانِ، فَجَاءَ مِنْ عِنْدِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتِ الأُخْرَى: جِئْتَ مِنْ عِنْدِ فُلاَنَةَ؟ فَقَالَ: جِئْتُ مِنْ عِنْدِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ». وهذا المتن محرّف من قبل أبي التياح الذي لم يفهم ولم يضبط ما سمع من شيخه التابعي مطرف بن الشخير، فأفسد كلام النبي عليه السلام، والثابت من حديث سيدنا عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا: " نظرت إلى الجنة فرأيت أكثر أهل الجنة الفقراء، ونظرت في النار فرأيت أكثر أهل النار النساء ". (مسند أحمد ح19852 وح19927 وح19982 وصحيح مسلم ح2738). وشتان بين الروايتين، الثابتة الصحيحة دالة على أن أكثر أهل الجنة هم الفقراء، دون تفرقة بين النساء والرجال، وأن النساء أكثر أهل النار، والرواية المحرفة دالة على أن النساء أقل من الرجال في الجنة. والتحريف سببه أبو التياح، وهو إمام ثقة، لكنه أساء فهم الحديث، فظن أن كثرة النساء في النار تستلزم قلتهن في الجنة، وهو فهم بعيد عن الواقع والصواب، فالنساء المؤمنات أكثر في الجنة من الرجال المؤمنين، والنساء الكافرات المشركات أكثر في النار من الرجال الكافرين. وأما الأدلة على تحريف أبي التياح لكلام رسول الله وتصرفه فيه بالتغيير، فهي: أولا: روى أَيُّوب السختياني وعوف وسلم بن زرير وحماد بن نجيح عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَظَرْتُ إِلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفُقَرَاءَ، وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ النِّسَاءَ» (مسند ابن الجعد ح3049، ومسند أحمد ح19852، وصحيح البخاري ح 3241 وح5198 وح6449 وح6546 وصحيح مسلم ح2737 وسنن النسائي الكبرى) في رواية تامة صحيحة السند: عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي، قَالَ: جَاءَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ إِلَى امْرَأَتِهِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ حِينُ حَدِيثٍ، فَلَمْ تَدَعْهُ أَوْ قَالَ: فَأَغْضَبَتْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَظَرْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، ثُمَّ نَظَرْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» (جامع معمر بن راشد11/305، ومسند أحمد ح19927 والمعجم الكبير للطبراني ح275) ولاحظ أن الذي أغضبته امرأته هو سيدنا عمران بن حصين، وأنه جاء من عند الرسول وليس من عند زوجة أخرى، وأن النبي لم يقل: "أقل ساكني الجنة النساء"، ولم يتحدث عن الجنس الغالب على أهل الجنة، وإنما أبان الجنس الأكثر في النار، ولا يقصد إلا النساء الكافرات. ورواية أبي رجاء عن مطرف متفق عليها، بينما رواية أبي التياح المحرفة فمن أفراد مسلم، ومعلوم أن المتفق عليه مقدم على ما انفرد به أحد الشيخين. ولم ينفرد التابعي الإمام أبو رجاء باللفظ الصحيح عن عمران، فقال الضَّحَّاكُ بْنُ يَسَارٍ: أخبرنا يَزِيدُ بْنُ الشِّخِّيرِ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الضُّعَفَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» رواه الطبراني في المعجمين الكبير (18/ 111) ح210 والأوسط (3/ 62) ح2485 والقطيعي في جزء الألف دينار ح213. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا الضحاك بن يسار البصري فمختلف فيه، ولم يفسر مجرحوه سبب جرحه، وموافقته رواية الجماعة شاهدة بضبطه، ويزيد هو أخ لمطرف، فيكون أعلم بحديثه. والنتيجة أن أبا التياح خالف رواية الجماعة عن أبي رجاء العطاردي عن عمران، ورواية يزيد بن عبد الله عن أخيه مطرف بن عبد الله عن عمران، فتأكد أنه لم يفهم الحديث ولم يضبطه، وأنه المسئول عن تحريفه، ونؤكد أن ذلك لم يكن إلا غلطا ووهما وسهوا منه رحمه الله. ثانيا: اللفظ المحرف لا وجود له إلا في رواية أبي التياح عن مطرف عن عمران، والرواية الثابتة عن عمران رواها جماعة من الصحابة غيره، منهم ابن عباس وأسامة بن زيد وحديثهما في الصحيحين كما سيأتي، وأبو هريرة عند أحمد ح7951 بإسناد حسن، وعبد الله بن عمرو عند أحمد ح6611 وموارد الظمآن لابن حبان ح2568 بإسناد صحيح. ثالثا: الأدلة المصرحة بكثرة النساء في الجنة، وهي صحيحة ناقضة لرواية التياح المحرفة، وسنذكرها في موضعها بحول الله قريبا. فتأكد لذي كل عاقل منصف أن رواية أبي التياح محرفة، ومن يقدم روايته ويدافع عنها بعد هذا البيان، فأمره إلى الله. مواقف السادة العلماء من رواية أبي التياح المحرفة: الفريق الأول: اغتر هذا الفريق بوجود الرواية المحرفة في صحيح مسلم "المعصوم من الخطأ"، فصدقوها رغم شذوذها ومخالفتها الواضحة لرواية أبي رجاء المتفق عليها وعن روايات غير سيدنا عمران بن حصين، ورغم معارضتها للأدلة المصرحة بكثرة النساء في الجنة. وبناء على تلك الرواية المحرفة زعموا أن النساء المؤمنات أقلية في الجنة، واستنتجوا أفضلية الرجال على الإناث، ومن هؤلاء المغترين: الإمام القرطبي في تفسيره سورة الرحمن، وفي كتابه "التذكرة في أحوال الموتى والآخرة"، فقال فيها: [ وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إن أقل ساكني الجنة النساء] فصل: قال علماؤنا: إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل زينة الدنيا لنقصان عقولهن أن تنفذن بصائرها إلى الأخرى، فيضعفن عن عمل الآخرة والتأهب لها، ولميلهن إلى الدنيا والتزين بها ولها، ثم مع ذلك هن أقوى أسباب الدنيا التي تصرف الرجال عن الأخرى لما لهم فيهن من الهوى والميل لهن، فأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الأخرى وأعمالها من المتقين. ه قلت: غفر الله للقرطبي ومن شايعه، وتأمل كلامه التافه المبني على رواية محرفة تدرك خطورة الأحاديث الموضوعة والمحرفة على الأمة، فأئمة كبار يتفوهون بالعظائم استنادا إليها، ولو تأملت ماضي المسلمين وحاضرهم، لوجدت غلبة الهوى للرجال وميلهم إلى شهوات الدنيا وضعفهم عن عمل الآخرة أظهر وأوضح من الشمس. ثم كيف يحمل هؤلاء السادة المرأة وزر غواية الرجال وضلالهم إذا كانوا أعقل وأكمل دينا من النساء؟ وقد قلنا قبل: فجور الرجال سابق على فجور النساء وسبب فيه، فالرجال يتحملون الوزر كاملا. الفريق الثاني: صدّق الرواية لورودها في صحيح مسلم، وادعى أن النساء أقل من الرجال في الجنة قبل الشفاعة، ومن هذا الفريق العلامة المناوي فإنه قال في "فيض القدير2/543": ( إن أقل ساكني الجنة النساء ) أي في أوّل الأمر قبل خروج عصاتهن من النار، فلا دلالة فيه على أن نساء الدنيا أقل من الرجال في الجنة، وقال بعض المحققين: القلة يجوز كونها باعتبار ذواتهن إذا أريد ساكني الجنة المتقدمين في دخولها، وكونها باعتبار سكناهن بأن يحبسن في النار كثيرا، فيكون سكناهن في الجنة قليلا بالنسبة لمن دخل قبلهن، وإنما قلنا ذلك لأن السكنى في الجنة غير متناهية فلا توصف بقلة ولا كثرة. ه ومنهم القرطبي المفسر في رأي آخر مخالف لما قاله سابقا، مما يدل على اضطراب سادتنا وتهيبهم من ردّ الروايات المكذوبة أو المحرفة، فقال في "التذكرة" أيضا: فصل: في حديث أبي هريرة: "لكل واحد منهم زوجتان"، وقد تقدم من حديث عمران بن حصين: [ أن أقل ساكني الجنة النساء ] . قال علماؤنا: لم يختلفوا في جنس النساء وإنما اختلفوا في نوع من الجنس، وهو نساء الدنيا ورجالها أيهما أكثر في الجنة، فإن كانوا اختلفوا في المعنى الأول، وهو جنس النساء مطلقا، فحديث أبي هريرة حجة، وإن كانوا اختلفوا في نوع من الجنس، وهم أهل الدنيا، فالنساء في الجنة أقل. قلت (القرطبي): يحتمل أن يكون هذا في وقت كون النساء في النار، وأما بعد خروجهن في الشفاعة ورحمة الله تعالى حتى لا يبقى فيها أحد ممن قال لا إله إلا الله، فالنساء في الجنة أكثر، وحينئذ يكون لكل واحد منهم زوجتان من نساء الدنيا، وأما الحور العين، فقد تكون لكل واحد منهم الكثير منهن... والأخبار دالة على هذا. ه قلت: يصر أئمتنا على أن غالب نساء المسلمين سيدخلن النار ثم يخرجن منها بناء على رواياتهم المحرفة، فلست أدري لماذا هذا الحقد كله؟ ولماذا تجاهل الحقيقة التاريخية وهي أن نساء المسلمين أصلح وأنبل وأطهر من الرجال؟ وانظر كيف يحرفون كلام النبي عليه السلام اغترارا برواية شاذة، فالنبي لم يذكر أن أكثرية النساء في النار تكون قبل الشفاعة، لكن العلماء يطوعون كلامه ويتعسفون في تأويله دون حجة أو قرينة. إن ادعاء خروج المسلمات من النار بعد الشفاعة، لا يشفع لعلمائنا ولا يستر تحقيرهم للمرأة التي هي الأم والزوجة والأخت والبنت... الفريق الثالث: تنبه أصحاب هذا الفريق إلى أن رواية أبي التياح المحرفة مخالفة للأحاديث الصحيحة الدالة على أن النساء أكثر في الجنة، فاحتملوا أن أحد الرواة لم يفهم حديث عمران جيدا، فأساء ترجمته، لكنهم لم يجزموا بذلك، ولم يحققوا للكشف عن الراوي المسئول عن التحريف، ومن هؤلاء الحافظان العراقي وابن حجر العسقلاني، وسيأتي كلامهما بتمامه، ونسجل هنا جزءا مما قاله العراقي رحمه الله، قال: (وَلَعَلَّ رَاوِيَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فِي فَهْمِهِ فَأَخْطَأَ، فَهِمَ مِنْ كَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ سَاكِنِي جَهَنَّمَ أَنَّهُنَّ أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ، وَأَنَّهُنَّ أَكْثَرُ سَاكِنِي الْجِهَتَيْنِ مَعًا لِكَثْرَتِهِنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). ه وما قاله هذا الفريق على وجه الاحتمال، حقيقة لا مرية فيها ولا جدال بعد البيان المتقدم، ومن زعم أن إماما كأبي التياح لا يمكن أن يسيء الفهم فهو يتهم جماعة المخالفين له، وعاجز عن التوفيق بين روايته وروايتهم. ثم إن النبي عليه السلام أشار بقوله في الحديث المتواتر: (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) إلى أن الصحابة قد يسيئون فهم كلامه فيحرفون معناه بتغيير الألفاظ، وهو ما حصل حقا، فهل ينجو أبو التياح مما لم ينج منه بعض الصحابة؟ أدلة كثرة النساء في الجنة: الدليل الأول: استقر لدى جميع المسلمين، أنه لكل رجل من أهل الجنة زوجة من بني آدم ولو مات عزبا، ولكل امرأة زوج من الرجال ولو ماتت عذراء، فالعزب سيزوج بالعذراء، والذي مات قبل الاحتلام سيزوج بالتي ماتت قبل المحيض. وتقرّر أيضا أن الزوجة المؤمنة تكون في الجنة مع زوجها المؤمن من لدن أبوينا آدم وحوّاء عليهما السلام إلى آخر زوجين مؤمنين في الدنيا. وهذان الأمران المتقرّران يستلزمان تساوي أعداد النساء والرجال، ويبطل مقولة كثرة الرجال في الجنة مقارنة بالنساء. وإذا أخذنا بالاعتبار زوجات الرجال المعدّدين في الدنيا، وأنهن مع أزواجهن في الجنة، خصوصا نساء الأنبياء كأمهات المؤمنين، فالنتيجة المنطقية أن عدد النساء في الجنة أكثر بكثير من الرجال. الدليل الثاني: الأحاديث الدالة على أن عامة أهل الجنة هم الضعفاء: عَنِ مولانا ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَظَرْتُ فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءُ، وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ» (مسند أحمد ح2086 وح3386 وصحيح البخاري ح3241 وح5198 و6449 وصحيح مسلم ح2737). وعن سيدنا عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نظرت إلى الجنة فرأيت أكثر أهل الجنة الفقراء، ونظرت في النار فرأيت أكثر أهل النار النساء. (مسند أحمد ح19852 وح19927 وح19982 وصحيح مسلم ح2738) وعَنْ سيدنا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْمَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإِذَا أَهْلُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ» (صحيح البخاري 5196 وح6547 وصحيح مسلم ح2736) وروى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ أهل النار كلُّ جَعْظرِيّ جَوّاظٍ مسْتكبر، جَمَّاع منَّاع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون". (رواه أحمد، والحاكم، والطبراني، وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي) وفي الصحيحين وغيرهما: « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ »؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ -صلى الله عليه وسلم- « كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ». ثُمَّ قَالَ: « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ »؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: « كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ». صرحت هذه الأحاديث الصحيحة أن أكثر أهل الجنة هم فقراء المؤمنين ومساكينهم وضعفاؤهم المغلوبون، ويشهد الماضي والحاضر والمستقبل أن نساء الأديان التوحيدية، هنّ طليعة الضعفاء المغلوبين والفقراء المساكين، وأن الطغيان والاستكبار والإجرام والعلو والفجور في الأرض سمة الرجال المسلمين والنصارى واليهود، فالحروب الداخلية أو الخارجية أبطالها الرجال، والمظالم الأهلية ضحاياها النساء. والنتيجة الحتمية أن أكثرية نساء المؤمنين سيدخلن الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأن غالب من سيدخل النار من المؤمنين الموحدين قبل الشفاعة هم الرجال، وأن معظم أهل الجنة هم النساء لأنهن من فئة الضعفاء والفقراء والمتواضعين عبر التاريخ. وماذا يضيرك ذلك إذا كانت أمك الرحيمة، وزوجك الحبيبة، وبنتك الغالية، وأختك... نساء؟ ولا تشوش عليك جملة: (وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ)، فالمقصود نساء المشركين والكافرين كما سلف بيانه في مقال: "المرأة ليست ناقصة العقل والدين"، لأن النساء الكافرات سيكنّ قبل القيامة أكثر من الرجال بخمسين مرة، لذلك سيكون عددهن في النار أكثر، كما أن عدد النساء في الجنة أكثر لأن عدد المؤمنات في الدنيا أكثر من الرجال. الدليل الثالث: أحاديث صريحة في أن نساء الجنة أغلبية: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: تَفَاخَرُوا يَوْمًا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالُوا: الرِّجَالُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ أَمِ النِّسَاءُ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وُجُوهُهُمْ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَاءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا عَزَبٌ» (مسند أحمد ح8542 و ح10601، وصحيح البخاري ح3081 و ح3245 وح3246 و3254 وصحيح مسلم ح 2834) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً يَبْدُو مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا. (مسند ابن الجعد ح2005 ومصنف ابن أبي شيبة7/37 ومسند أحمد ح11142 وسنن الترمذي ح2522 و ح2535 والعظمة لأبي الشيخ ح590 وصفة الجنة لأبي نعيم ح254 وشرح السنة للبغوي ح4375 ) وصححه الإمام الترمذي والألباني و الأرنؤوط. وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أول زمرة تدخل الجنة من أمتي وجوههم كالقمر ليلة البدر، والزمرة الثانية كأحسن كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهن من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء». (مسند البزار ح1855 والمعجم الكبير للطبراني (10 / 160) وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/759). فدل هذا الحديث المروي عن ثلاثة من كبار الصحابة، على أن الرجل من أهل الجنة له زوجتان على الأقل من نساء الدنيا، وذلك يعني أن عدد النساء الآدميات سيكون ضعف عدد الرجال، وأن الأصل في الجنة هو التعدد، فلا تكون للرجل في الجنة زوجة آدمية واحدة، بل اثنتان إذا مات عزبا أو تزوج امرأة واحدة. أما المؤمن الذي كان له أكثر من زوجتين مؤمنتين في الدنيا، فتكون نساؤه معه كلهن، إلا من تزوجت رجلين مؤمنين، فتكون مع أحسنهما خلقا ومعاشرة لها في الدنيا، فإن تساويا في الخلق، كانت مع آخرهما، وهذا التفصيل نجده في أحاديث أخر لا نطيل بذكرها لأنها ليست من شرط موضوعنا. وهذا الذي قلناه، سبق وعليه بعض العلماء: قال العلامة ابن تيمية في الفتاوى6/432: لِأَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ، إذْ قَدْ صَحَّ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ صَحَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ زَوْجَتَانِ مِنْ الْإِنْسِيَّاتِ سِوَى الْحُورِ الْعِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ فِي النَّارِ، فَيَكُونُ الْخَلْقُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ. وقال الحافظ العراقي في "طرح التثريب": اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ( إما تَفَاخَرُوا وإما تَذَاكَرُوا: الرِّجَالُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ أَمْ النِّسَاءِ ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ لَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَاَلَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يَرَى مُخَّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ} وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "اخْتَصَمَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ أَيُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ؟ فَسَأَلُوا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَهُ. فَإِذَا خَلت الْجَنَّةُ عَنْ الْعُزَّابِ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ زَوْجَتَانِ، كَانَ النِّسَاءُ مِثْلَيْ الرِّجَالِ، وَيُعَارِضُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: { إنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ }، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ} وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ لِكَثْرَتِهِنَّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَخْرُجُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ وَلَدِ آدَمَ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْآدَمِيَّاتِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ أَنَّ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْحورِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ. قُلْت: وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ عِنْدِ الزَّبِيدِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : "إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً". فإن قلت: كَيْفَ اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ زوجتين؟ قُلْت: الزَّوْجَتَانِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: بِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ نَوْعَ النِّسَاءِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْحُورِ وَالْآدَمِيَّاتِ فِي الْجَنَّةِ، أَكْثَرُ مِنْ نَوْعِ الرِّجَالِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَرِجَالُ بَنِي آدَمَ أَكْثَرُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: { أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ وَأَكْثَرُ سَاكِنِي جَهَنَّمَ النِّسَاءُ} يَعْنِي نِسَاءُ بَنِي آدَمَ هُنَّ أَقَلُّ فِي الْجَنَّةِ وَأَكْثَرُ فِي النَّارِ. قُلْت: وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ: إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا فَيُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: { أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ }، وَلَعَلَّ رَاوِيَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فِي فَهْمِهِ فَأَخْطَأَ، فَهِمَ مِنْ كَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ سَاكِنِي جَهَنَّمَ أَنَّهُنَّ أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ، وَأَنَّهُنَّ أَكْثَرُ سَاكِنِي الْجِهَتَيْنِ مَعًا لِكَثْرَتِهِنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ تَبَيَّنَّ بِبَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الزَّوْجَتَيْنِ أَقَلُّ مَا يَكُونُ لِسَاكِنِ الْجَنَّةِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحورِ الْعِينِ سَبْعُونَ زَوْجَةً، وَأَمَّا أَكْثَرُ ذَلِكَ فَلَا حَصْرَ لَهُ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { إنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا} وَفِي رِوَايَةٍ: {فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ لِلْمُؤْمِنِ لَا يَرَاهُمْ الْآخَرُونَ}. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ثُوَيْرٍ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً}. ه وفي "فتح الباري" لابن حجر (6 / 325): (ولكل واحد منهم زوجتان)، أي من نساء الدنيا، فقد روى أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا في صفة أدنى أهل الجنة منزلة: (وأن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا)، وفي سنده شهر بن حوشب وفيه مقال، ولأبي يعلى في حديث الصور الطويل من وجه آخر عن أبي هريرة في حديث مرفوع: (فيدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله، وزوجتين من ولد آدم)، وأخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد رفعه: (أن أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، وثنتان وسبعون زوجة)، وقال: غريب. ومن حديث المقدام بن معد يكرب عنده: (للشهيد ست خصال الحديث وفيه ويتزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين) ... واستدل أبو هريرة بهذا الحديث على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال كما أخرجه مسلم من طريق ابن سيرين عنه، وهو واضح، لكن يعارضه قوله صلى الله عليه و سلم في حديث الكسوف المتقدم: (رأيتكن أكثر أهل النار)، ويجاب بأنه لا يلزم من أكثريتهن في النار نفي أكثريتهن في الجنة، لكن يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الآخر: (اطلعت في الجنة فرأيت أقل ساكنها النساء)، ويحتمل أن يكون الراوي رواه بالمعنى الذي فهمه من أن كونهن أكثر ساكني النار يلزم منه أن يكن أقل ساكني الجنة، وليس ذلك بلازم لما قدمته، ويحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة والله أعلم. ه قلت: لا تعارض بين الأحاديث الدالة على أكثرية عدد النساء في الجنة، وبين حديث: (اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)، فقد تقدم أن النساء المؤمنات الموحدات لا علاقة لهن بحديث: (اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)، وأنه يقصد الكوافر المشركات، لكن علماءنا لم ينتبهوا لأنهم لم يحققوا ولم يدرسوا الأحاديث والروايات الواردة في الموضوع. والاحتمال الأخير مردود لأن أكثر من يدخل النار من الموحدين هم الرجال لأنهم رواد الفجور والإجرام والطغيان، والنساء من فئة الفقراء الضعفاء المغلوبين، وكل انحراف يصدر عن المرأة سببه الرجل، لأنه مهندس كل الانحرافات عبر التاريخ. وورد في بعض طرق حديث أبي هريرة: "لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين"، وكلمتا: "الحور العين" زيادة شاذة من كيس الرواة قطعا، للقرائن الآتية: القرينة الأولى: سيدنا أبو هريرة استدل بالحديث على أكثرية نساء بني آدم، وهو أعلم بما روى، وغالب الطرق عنه لا تذكر "الحور العين". القرينة الثانية: كلمة "النساء" خاصة في اللغة والشرع بالإناث الآدميات، و"الحور العين" إناث لكنهن لسن نساء لأنهن غير آدميات، كما أن إناث الجن لا يسمين نساء. القرينة الثالثة: ورد في أحاديث، ذكر بعضها الحافظان العراقي وابن حجر، أن الرجل من أهل الجنة تكون له أكثر من سبعين من الحور العين، وليس حوريتين فقط، فالزوجتان الآدميتان أميرات ملكات، والحور العين جوار ووصيفات، والآدميات في الجنة أجمل من الحور العين وأعلى رتبة، فكما أن الله سيعيد برمجة جسم الرجل ونفسيته، سيغير المرأة حتى يَرَى زوجها مُخَّ سُوقِهِا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، والمؤمن الصالح ملك في الجنة، له مملكة عريضة، وبعض الناس لا يروقهم هذا الاعتقاد، ولا عيب في التعدد دنيا وأخرى معشر العقلاء، إنما العيب أن يعدد الرجل ثم يظلم ماديا أو معنويا. الخلاصة: ثبت من مجموع ما سلف أن رواية "أقل ساكني الجنة النساء" لا تصح عن النبي عليه السلام، وأنها تحريف وإفساد لقوله: "رأيت أكثر أهل النار النساء"، أي الكافرات، وتأكد أن أبا التياح هو المحرف، فلعله كان تعبانا أو مغلوبا بالنوم عند سماعه من مطرف، أو طال به العهد فنسي. وتأكد لدينا بالأدلة الصحيحة أن النساء أكثرية في الجنة، وأن ما قرره بعض العلماء بالاستناد إلى رواية أبي التياح المحرفة باطل تافه، وتصرفهم دليل على أنهم لم يكونوا يحققون في كل الروايات، وأن صحيح مسلم يشتمل على روايات محرفة تنتج الكوارث والموبقات على مستوى الاعتقاد والأحكام. الاعتراض الأول وجوابه: قال حماد بن سلمة: حدثنا أبو جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: كنا مع عمرو بن العاص في حج أو عمرة، فلما كنا بمر الظهران، إذا نحن بامرأة في هودجها واضعة يدها على هودجها فيها خواتيم، فلما نزل الشعب، إذا نحن بغربان كثيرة، فيها غراب أعصم: أحمر المنقار و الرجلين، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب في هذه الغربان). في رواية: كنا مع عمرو بن العاص في حج أو عمرة، فإذا امرأة في يدها خواتيمها وقد وضعت يدها على هودجها، فدخل عمرو بن العاص شعبا ثم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشعب، فإذا غربان كثيرة، وإذا غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة من النساء إلا كقدر هذا الغراب في هذه الغرابان ). رواه أحمد في مسنده ح17770، وعبد بن حميد ح294، والنسائي في الكبرى ح9268، وعبد الله في زوائد مسند أبيه ح17805 وح17860، والحاكم في المستدرك4/645، وأبو يعلى الموصلي في المسند ح7343، وغيرهم. وصححه الحاكم، والذهبي، وحسين أسد، والألباني والأرنؤوط وغيرهم. وقال الأرنؤوط مرة: رجاله ثقات، لكن تفرد به حماد بن سلمة. ه وقد استدل به بعض العلماء كابن القيم في حادي الأرواح على ما دل عليه، وقووا به رواية أبي التياح المحرفة، فهل هو صحيح فعلا؟ وهل أخلص وتقصى الحق من صححوه؟ سجل معي بداية ملاحظتين اثنتين: الأولى: قال الراوي: (كنا مع عمرو بن العاص في حج أو عمرة)، أي أنه لم يضبط التاريخ والمناسبة وهما أسهل من المتن. الثانية: قال في رواية: (فلما نزل الشعب، إذا نحن بغربان كثيرة)، أي أن الغربان جاءت لما نزل عمرو بن العاص ومن معه مكانا يقال له "الشعب" ، وقال في الأخرى: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشعب، فإذا غربان كثيرة)، أي أن الغربان جاءت لما نزل رسول الله وصحابته "الشعب". الاستنتاج: الراوي مضطرب في التاريخ، مضطرب في اللحظة التي هجم الغربان فيها، فهل يدل ذلك على سوء حفظه لهذا الحديث؟ وهل نأمنه بعد ذلك على ما نسبه إلى رسول الله عليه السلام؟ اللهم لا، ولو كان الراوي المضطرب صحابيا لأنه أبان لنا عن عدم ضبطه وغلبة النسيان والوهم عليه. والسؤال: لماذا تحاشى المصححون هذه الأوجه من الاضطراب رغم شهادتها بسوء حفظ الراوي؟ الجواب: لأنهم لم يجمعوا الطرق، ولم يقارنوا بين الروايات، بمعنى أنهم مقصرون متساهلون في دين الله، أي أن الاطمئنان إلى أحكامهم حرام على الباحثين القادرين على التمحيص والتحقيق. وستتأكد من حرمة الوثوق بأحكامهم بعد أن تعرف الآتي: هذا الحديث التافه المنكر تفرد به حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو إمام حافظ كبير، لكنه اختلط في آخر حياته فصار يخطئ كثيرا، لذلك لم يجعله البخاري من رجاله في الصحيح، ولم يخرج له مسلم في الأصول إلا روايته عن ثابت، وهذا ليس منها. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وقال البيهقي: هو أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثا أخرجها في الشواهد. وفي الكاشف للذهبي: ثقة صدوق يغلط. وفي تقريب التهذيب: ثقه عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخرة. قلت: وحذف النسائي حديثه هذا من السنن المجتبى، فدل ذلك على أنه ضعيف عنده لتفرد حماد بن سلمة به. والحكم في مرويات حماد رحمه الله أن يقبل ما رواه قبل تغيره وسوء حفظه، ويعرف بمقارنته بروايات غيره من الثقات وأصول الدين وثوابت العقل، وأن يضعف كل ما لم نتأكد من تاريخ تحديثه به سيما إذا اقترن بما يدل على عدم الضبط كالاضطراب أو مخالفة الأحاديث الصحيحة. وحديثه هذا عن الغراب الأعصم مما حدث به بعد الاختلاط جزما، لأنه اضطرب في موضعين منه كما تقدم، ولأنه يعارض الأدلة الصحيحة على أكثرية النساء في الجنة. والخلاصة أنه من جملة أحاديث حماد المنكرة الضعيفة جدا، وأنه لا يصححه إلا مقلد أو مقصر في البحث، ولا يحتج به إلا مجازف بدينه لأنه يحكم بالهلاك على غالب نساء الأمة بناء على حديث منكر. الاعتراض الثاني وجوابه: روى مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُذَيْنَةَ الصَّدَفِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ، إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِلَّاتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مِثْلُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ " ( المنتخب من الذيل للطبري1/84، والسنن الكبرى للبيهقي 7/131، وعزاه ابن حجر لابن السكن ) صححه السيوطي مرسلا، والألباني في صحيح الجامع والصحيحة متصلا. والحديث لا دلالة فيه على أكثرية الرجال في الجنة، فلا يشهد لرواية أبي التياح ولا يقوي رواية حماد بن سلمة، وهو توصيف لنساء المنافقين في زمن النبوة على فرض صحته وثبوته، والحق أنه ضعيف جدا، ومتنه منكر قبيح لهذه العلل: أولا: موسى بن علي بن رباح وثقه الجمهور، وفي تهذيب التهذيب: قال ابن معين: لم يكن بالقوي. وقال ابن عبد البر: ما انفرد به فليس بالقوي. ه قلت: روى موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عندنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب". فقال ابن عبد البر في "التمهيد"21/163: هذا حديث انفرد به موسى بن علي عن أبيه، وما انفرد به فليس بالقوي، وذكر يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ، وإنما المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه: "يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب" وانفرد موسى أيضا عن أبيه بحديث تنفي فيه سيدتنا أم سلمة تقبيل النبي نساءه وهو صائم، فقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد"5/124: هذا حديث متصل، ولكنه ليس يجيء إلا بهذا الإسناد، وليس بالقوي، وهو منكر على أصل ما ذكرنا عن أم سلمة، وقد رواه عن موسى بن علي عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن يزيد المقري كما رواه عبد الله بن صالح سواء، وما انفرد به موسى بن علي فليس بحجة، والأحاديث المذكورة عن أبي سلمة معارضة له، وهي أحسن مجيئا وأظهر تواترا وأثبت نقلا منه. ه فظهر أن موسى بن علي كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، فهو ليس بالقوي كما قال ابن عبد البر، وقد انفرد برواية حديث "الغراب الأعصم"، والأحاديث الصحيحة في كثرة النساء بالجنة معارضة له، فحديثه منكر بنفس منطق الحافظ ابن عبد البر، بل هو أولى بالنكارة. وهل وقف مصححو حديثه على ما قاله ابن عبد البر مؤيدا بالأدلة؟ أم قصروا وتكاسلوا واغتروا بمن أطلقوا توثيق موسى بن علي؟ ثانيا: أبو أذينة الصدفي لا تثبت صحبته، فليس له إلا هذا الحديث المنكر، ولم يصرح فيه بالسماع من رسول الله، ولم يشهد له أحد من الصحابة بالصحبة، ولم يشهد له بها تابعيان ثقتان، بل لم يرو عنه إلا علي بن رباح، فهو مجهول العين والحال، وإنما ترجموه في الصحابة استنادا إلى حديثه هذا، ولا دلالة فيه على صحبته. fوفي الإصابة لابن حجر: أبو أذينة بمعجمة ونون مصغرا، قال البغوي: من أهل مصر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا، ولا أدري له صحبة أم لا، وقال ابن السكن: أبو أذينة الصدفي له صحبة، وحديثه في أهل مصر. ه قلت: يقصد بقوله: (حديثه في أهل مصر)، حديثه المنكر عن النساء. وقد تنازل الألباني رحمه الله، عن علميته وتحقيقه المعهود فعاند في إثبات صحبة الرجل، فقال في صحيحته4/464: وأبو أذينة الصدفي مختلف في صحبته، فقال البغوي: " لا أدري له صحبة أم لا " . وقال ابن السكن: " له صحبة ". قلت: والمثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم. و علي بن رباح روى عن جمع من الصحابة وسمع منهم، مثل عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان و فضالة بن عبيد و غيرهم. ه قلت: وا أسفاه على الدين والعلم، وا غوثاه كيف يتلاعب رموز الأمة بقواعد الشريعة. الشيخ الألباني يرجح قول ابن السكن على البغوي معتمدا قاعدة "المثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من جهل"، متجاهلا أن هذه القاعدة لا قيمة لها إذا كان مثبت الصحبة بعيدا عن عصر الشخص المبحوث في صحبته، أو كان كلام المثبت منقوضا بالقرائن الصحيحة. ابن السكن جاء بعد أبي أذينة بقرون، فكيف نقبل شهادته بصحبة رجل دون حجة ومستند علمي؟ إن حجة ابن السكن هي رواية أبي أذينة لحديثه الوحيد في تحقير النساء، وليست روايته له بحجة عند العقلاء، لأنه لم يصرح فيه بصحبة رسول الله ورؤيته، حيث رواه "بالأنأنة"، وهي رديفة "العنعنة" المحمولة على الانقطاع في حق المجاهيل. ونسي الألباني قاعدة استند إليها في كتبه كثيرا عند ردّ أحاديث تؤيد خصومه، وهي قاعدة: "الاحتمال يبطل الاستدلال"، وما دامت صحبة أبي أذينة محتملة، أي يحتمل أنه صحابي بناء على موقف ابن السكن، ويحتمل أنه ليس كذلك كما صرح البغوي، فالقاعدة تبطل صحبة الرجل وترجح انتفاءها لانعدام الدليل الشرعي عليها. ومن عجائب الأمور وبدائع الدهور أن يحتج الألباني على صحبة أبي أذينة برواية علي بن رباح عن بعض الصحابة كعمرو بن العاص، متجاهلا عن عمد وسبق إصرار أن ذلك ليس قرينة ولا دليلا على صحبة كل مشايخه، لأن التابعين يروون عن الصحابة وعن أتباعهم وعن أتباع التابعين، فلماذا لا يرجح أنه من الطبقة الأخيرة؟ وبالجملة: فأبو أذينة حسب قواعد الشريعة المقررة، ليس صحابيا لأن شروط الصحبة منتفية عنه، بل وليس تابعيا لأنه لم يسمع أي واحد من الصحابة، والمستيقن أنه من أتباع التابعين، لأنه كان معاصرا لعلي بن رباح التابعي. فالسند منقطع، وهو معضل سقط منه راويان على الأقل بناء على اليقين، وهو أن أبا أذينة من أتباع التابعين. يضاف إلى ذلك أنه مجهول العين/الشخص لتفرد علي بن رباح بالرواية عنه، ومجهول الحال/العدالة والضبط لانعدام الجرح والتعديل في حقه. ونزيد أنه انفرد بمتن منكر، فالنتيجة لمن يحترم القواعد والمبادئ: سند هذا الحديث ضعيف جدا مظلم، لا يصلح في الشواهد، ولا يقبل الاعتضاد، ولا يحتج به إلا متهاون في دينه. هذا، وقد رجح بعض الأئمة عدم صحبة أبي أذينة، ونصوا على أن حديثه مرسل، فنحن لم نأت بجديد: قال الحافظ السيوطي في "الجامع الصغير" بعد عزوه لسنن البيهقي: عن ابن أبي أذينة الصدفي مرسلا، وعن سلمان بن يسار مرسلا. ثم رمز لصحته. وتبعه الحافظ المناوي في "التنوير شرح الجامع الصغير" ، والمتقي الهندي في "كنز العمال" ح 44569. ونحن لا نقرهم على تصحيحه مرسلا، لأن أبا أذينة لم يثبت أنه تابعي، ولأنه مجهول، والسيوطي رحمه الله أو من قلدوه لم يناقشوا حال أبي أذينة، بل تعاملوا معه على أنه تابعي ثقة، فيكون حديثه صحيحا مرسلا، وليس كذلك لما تقدم عن جهالته. وربما صححه السيوطي بشاهد سليمان بن يسار، وقد أثبتنا عدم صلاحيته للتقوية والتعضيد لضعفه الشديد وظلمة سنده. ثالثا: قال البيهقي بعدما أسند رواية أبي أذينة: وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا إِلَى قَوْلِهِ: "إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ". ه قلت: لم يذكر البيهقي إسناده إلى سليمان بن يسار، ولم يسنده غيره، فنشك في صحة قوله لأننا وجدناه يصحح في كتاب السنن أحاديث ضعيفة وأخرى موضوعة. وإذا قبلنا تصحيحه لمرسل سليمان بن يسار، فهو منقطع لإرساله، والمرسل قد يكون الساقط منه الصحابي فقط، أو الصحابي والتابعي، فيحتمل أن ابن يسار أسقط منه تابعيا مجهولا أو كذابا، ويحتمل أنه أسقط منه منافقا زنديقا يدس الباطل على رسول الله، وإلا فما الداعي لعدم تسميته الصحابي الذي حدثه بتلك الخرافة؟ ومن حقنا أن نضيف الآتي: يحتمل أن ابن يسار نسي اسم الصحابي الذي حدثه، فرواه عن النبي مرسلا، وإذا كان كذلك، فمن نسي اسم شيخه، لا يؤمن على كلام رسول الله. ونحن نشدد في المراسيل إذا روت متونا منكرة كهذا الذي يتضمن الفحش والبذاءة كما سنذكر في العلة الرابعة. ولنتنازل مؤقتا، ونقبل أن رواية ابن يسار صحيحة ومتصلة لا مرسلة، فما هي النتيجة؟ إن رواية ابن يسار، المصححة، تقف عند عبارة: "إذا اتقين الله" بشهادة البيهقي المتفرد بذكرها دون غيره من الحفاظ، أي أن جملة: (وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِلَّاتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مِثْلُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ) الواردة في رواية أبي أذينة زائدة. وقد تقدم أن أبا أذينة مجهول العين والحال، فتكون زيادته منكرة جدا جدا لمخالفته رواية التابعي الإمام الثقة سليمان بن يسار المدني أحد الفقهاء السبعة، بل ودليلا على أن أبا أذينة المجهول كان دجالا كذابا يزيد في كلام رسول الله ما ليس منه، أو أنه سيئ الحفظ ومغفل جدا يقبل التلقين من الدجالين الوضاعين. فتأكد بالأدلة العقلية والقواعد الحديثية، أن زيادة أبي أذينة المفيدة بقلة النساء الصالحات موضوعة أو منكرة، فهي من قسم الباطل جزما، ومن احتج بها فليغفر الله له. رابعا: الكلام المنسوب إلى رسول الله في هذه الرواية الموضوعة/المنكرة، موجه إلى أصحابه الكرام، وقد كانت أزواجهم وبناتهم وأخواتهم مؤمنات تقيات محجبات، فهل نصدق هذه الحقيقة التاريخية المتواترة؟ أم نصدق رواية أبي أذينة الفاجرة؟ وهل يقبل عقلك أيها المسلم أن يقسو رسولنا الكريم الرحيم الخلوق على أصحابه، فيوجه لهم هذا الكلام القبيح القاسي المحرض على العنف في الدعوة والموعظة، حتى ولو كانت نساؤهم متبرجات منافقات حقا؟ وهل يعقل أن يسمي النبي المتبرجة منافقة حتى ولو آمنت بالله ورسوله والكتاب؟ اللهم إنا نبرأ إليك من دسائس الدجالين، ونستمطرك الرحمة والمغفرة للعلماء المقصرين، ونستمدك الهداية والتبصرة لطلبة العلم المغفلين. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]