الإنسان كائن مصلحي بطبعه.. يحب مصلحته..أحيانا يوثر على نفسه.. وحتى حين يوثر على نفسه ففي ذلك مصدر للمتعة بالنسبة له..إرضاء الأنا، والشعور بالزهو.. عندما يمد أحدنا يده بالصدقة إلى متشرد في الشارع فإنه لا يملك إلا أن لا يشعر بنوع من الزهو لأنه "كائن طيب" و"إنسان حنون"..نحن مصلحيون بطبعنا حتى لو كنا في لحظة عطاء وطيبوبة اتجاه الآخرين..نحن نحب المال، ونحب أن نمتلك شيئا من النفوذ والنقود، ونحب أن نكون الأجمل والأذكى والأقوى والأغنى..يجب على كل واحد منا أن يملك على الأقل واحدة من السلط الست التالية: "المال"، "النفوذ"، "القوة"، "الجمال"، "العقل"، و"الأخلاق".. المال والنفوذ يأتيان في المرتبة الأولى طبعا فمن يملك المال يملك الطريق إلى أشياء كثيرة بعيدا عن "دونكيشوطيات الفانتازيا وكلام العاطفة"..عادة يتحالف صاحب المال مع صاحب النفوذ، وغالبا ما يحتاج كل منهما إلى الجمال من أجل المتعة، والقوة من أجل الحماية..وهناك طبعا سلطة العقل التي تقع أسفل السلم في مجتمعاتنا المتخلفة، عكس المجتمعات المتقدمة التي تعطي مكانة هامة جدا لأصحاب العقول الفاعلة في المجتمع، أما "سلطة الأخلاق" فهي سلطة من لا سلطة له..يمارسها كل من افتقد إلى السلط الخمس الأخرى أو معظمها..وتمارس بين مختلف أطياف المجتمع حسب القدرة والاستطاعة، فمن يملك المال لن ينتظر النصيحة ولا الوصاية من صاحب الأخلاق لأن صاحب الأخلاق (أو بالأحرى، مدعي الأخلاق) غالبا ما يتركها جانبا إذا ما هل عليه المال من مكان ما أو شخص ما حتى لو كان هذا الشخص من أصحاب "الأخلاق السيئة"، كما أن صاحب السلطة الأخلاقية لا يستطيع ممارستها على أصحاب النفوذ، ولا على أصحاب الجمال فالمرأة الجميلة يستمتع بها عوض تضييع الوقت في إسداء النصح لها، وحين يتم النصح فهو يتم على العموم كأن يتباكى هذا الشيخ أو ذاك على "عري نساء اليوم" في نفس الوقت الذي يشتهي فيه عريهن بعيدا عن الأعين..أما المجرم الخطير الذي يحمل سيفا بيده ويبيع المخدرات ويفطر نهارا برمضان فحتما لا يملك أكثرنا تقوى القدرة على التقدم نحوه ونصيحته فما بالك بمحاولة تغيير المنكر باليد كما يفعلونها مع من لا حول لهم ولا قوة في مجتمعنا.. إن شئتم ترتيب هذه السلط في مجتمعنا فلا بد أنها تأتي على الشكل التالي "المال ثم النفوذ، وبعدها الجمال، ثم القوة، ثم الأخلاق، ثم العقل" اما في المجتمعات المتقدمة فهي على الشكل التالي "المال، والنفوذ والعقل، وبعدها الجمال والقوة والأخلاق"... هكذا هو ترتيب السلط الست ومهما حاولنا دفن رؤوسنا في الرمال فإن أمرا لن يتغير.. سنظل على حبنا للمال والنفوذ ومتع الدنيا وهذه سنة كونية..وتطور البشرية وتراكم تجاربها على ممر مئات السنين من نشوء وارتقاء المجتمعات البشرية حتم عليها تطوير نظرتها لقوانين الجماعة ومراجعة الحيز الممنوح للفرد في إطار احترام الأنا الأعلى الجمعي..كان على البشرية بعد تمردها على سلطة رجال الدين أن تراجع الفروق الواضحة بين الخطايا بحمولتها الدينية والمخالفات بحمولتها القانونية الوضعية.. فأن تكون هناك عقوبة قطعية ضد الزاني يعني شيئا واحدا...جلد البشرية جمعاء فردا فردا وحالة حالة، وحتى أولئك الذين سيصدرون أحكام العقوبة سيجدون أنفسهم في إطار مجتمع مثالي ضحايا لتلك العقوبة فالجنس مسألة حتمية وأحاسيس فوق طاقة البشر والتحكم في الغريزة أثبت أنه يدخل في باب المستحيلات وكلنا نعلم هذا الكلام ولا داعي للمزايدة فيه وممارسة شيء من العنترية الفارغة بخصوصه.. فقط من لا يملك القدرة على الجنس لسبب من الأسباب، يزهد فيه، ويا ليته يقدر...فإن فرضنا اعتماد قانون وضعي ما على شريعة دينية ما تقول بالجلد في هذه الحالة فستكون النتيجة كارثية حتما وعلى كافة الأصعدة، وإن أردتم دليلا كافيا على هذه المسألة فلكم أن تتذكروا أن أكبر نسب المثلية الجنسية تسجل في المجتمعات والتجمعات التي تحرم الاختلاط، أما المجتمعات التي تعاني من الكبت الجنسي فهي نفسها المجتمعات التي تعاني من أكبر قدر من المشاكل النفسية المرتبطة بالحرمان من الجنس أو سوء تصريفه، ومن يمارس العادة السرية طوال حياته لا يمكن أن يكون سويا نفسيا مقارنة مع شخص يمارس حياته الجنسية بشكل طبيعي.. عندما تحدثهم عن العلمانية يتخيلون أن المجتمع سيتحول إلى بورديل كبير وأن الجنس سيمارس في الشارع العام ويقولون بأن أحكام الشريعة هي التي يجب أن تستمر مع العلم أن القانون الجنائي المغربي لا يطبق الشريعة في أحكام "الجنس خارج مؤسسة الزواج".. الإسلام واضح.. أربعة شهود كما أسلفنا ولكن القانون المغربي قد يأخذك إلى السجن بمجرد تحقق الخلوة "غير الشرعية"..ووفق هذه الرؤية يمكن القول بكل اطمئنان إلى كون الإسلام أكثر تقدمية من القانون الوضعي المغربي بهذا الخصوص فتحقق شرط أربع شهود يبقى صعبا إلى درجة الاستحالة، بيد أن حلا كهذا لن يكون مقبولا من عامة الناس وهناك من سيعتبرون تساهلا كهذا مهددا للشرف والعفة في المجتمع وكالعادة يكمن السبب في "ذكورية المجتمع" لأن الزنا تكون أفظع وأكثر حرمة حين يتعلق الأمر بالأنثى... الإسلاميون والمتعاطفون معهم ممن يسيئون فهم العلمانية يعتقدون أنه في ظل حكم علماني ستصبح الخمر أنهارا في الشوارع وسيتحول المجتمع المغربي إلى حانة كبيرة تمارس فيها كل أنواع الرذائل فيما الحقيقة أن العلمانية في الغرب تعاملت بشكل براغماتي من خلال قوانين وضعية مع معضلة حب بعض الناس للخمر وإدمان البعض عليه.. عمليا لا يمكن منع الخمر عن الناس وحين تفعل فإن سوقا سوداء كبيرة تنشأ ومن يذهب إلى المملكة العربية السعودية نفسها سيكتشف أن هناك أحياء بكاملها تباع فيها الخمور والمخدرات وكافة أنواع الموبقات.. حين تمنع الخمر من المجتمع فإن أفراد المجتمع يصنعونها ذاتيا ولكم أن تزوروا أي منطقة في المغرب لا يوجد فيها بائع مرخص للخمور لتكتشفوا أن "ثقافة صنع الماحيا" تشهد ازدهارا كبيرا...الغرب استوعب هذه المسألة وفهم أن حرمة الخمور لن تمنع الناس من السكر، وأن أفضل ما يمكن القيام به هو تقنين المسألة ومنع شرورها ما أمكن.. ولهذا السبب حدد كمية معينة يجب أن يلتزم بها السائقون حتى لا يؤذوا الآخرين وأنفسهم، ولهذا أيضا منع شرب الخمر في الأماكن العامة لأنها فضاء عام...ولنفس الأسباب جعل من السن القانوني أمرا ملزما قبل التعاطي وشدد العقوبات في ذلك على البائع، ولنفس تلك الأسباب أيضا أنشأوا مراكز معالجة الإدمان لمساعدة الراغبين في الإقلاع وبدأوا في التعامل مع المدمنين على أساس كونهم مرضى وليسوا مجرمين... نحن نعلم جيدا كم يستهلك المغاربة من الخمور سنويا ونعلم أن معدل استهلاك الخمر يفوق معدل استهلاك الحليب في المغرب ونعلم أنه عمليا يستحيل منع من يريد أن يشرب من أن يشرب وعوض دفن رؤوسنا في الرمل ورفض القوانين المقننة للموضوع يجب توقيف ذلك القانون المهزلة الذي يقول بأن الخمر في المغرب لا يجب أن تباع لغير المسلمين..عوض رفض تلك القوانين بدعوى رفض التطبيع مع الحرام علينا أن نكون واقعيين وأن نسعى إلى الحد من أضرار ظاهرة لا يمكن التخلص منها وفي هذا الصدد كنت قد أوردت في مقال سابق أن "الغرب اخترع الواقي الذكري للتعامل مع الجنس عوض تحريمه من الأساس وترك الأمراض تنخر في أجساد الناس" فأخذ مني أحد الكتاب الإسلاميين هذا الكلام واتهمنا بما نحن بصدد توضيحه.. ولهذا أعيد نفس الكلام وأقول أن الغرب حين اختار اختراع الواقي الذكري كان يود التعامل مع "متعة الجنس عند البشر" بواقعية أكبر..سيمارس الناس الجنس شاءت الأخلاق الحسنة ذلك أم أبت.. وعوض دفن الرؤوس في الرمال وترك الكوارث والأمراض تقع وتنتشر وتنخر المجتمع يجب توعية الناس إلى أهمية الوقاية قبل الممارسة وهذه ليست دعوة للانحلال الأخلاقي لأن الانحلال منتشر "واللي عطا الله عطاه" بل هي تعامل واقعي مع وضع قائم لا سبيل لزواله... هذه كانت مجرد أمثلة أفردتها لتوضيح قدرة الغرب على تحقيق المصالحة بين "رغبات الفرد" وقوانين المجتمع، وتحيين الذنب والخطيئة حسب القراءة القانونية وفصل المخالفات عن بعضها البعض حسب قانون "الممكن و"الغير ممكن"... بالنهاية فهم الغرب عبر تطوره الاجتماعي أن الأخلاق لا تفرض على أحد وأن ما لا يمارس في العلن يمارس في السر وأن الممارسة في السر تحمل معها كوارث كبرى كما فهم أن الصرامة القانونية يجب أن تتخذ كل أشكالها في ممارسات لا أخلاقية أخرى يكون محورها الجماعة وليس الفرد، فأن تزني ذاك أمر يخصك وشريكك، أما أن تختلس أو ترتشي أو تستغل نفوذك فذاك أمر يمس بالآخرين ويضر مصالحهم ولهذا وجب التعامل معه بكل صرامة على المستوى القانوني ولهذه الأسباب أنتم ترون مستوى التعامل في الإدارات العمومية في الدول الغربية، ومستوى عمل أجهزة الشرطة، وثقافة حقوق الإنسان التي سادت في كل مناحي الحياة ومن زار منكم أوربا الكافرة يعلم هذا الكلام جيدا... وحتى من يتشدد في كره الغرب لا يتكلم إلا عن أمور تتعلق بالجنس والخمر وما شابه من "المتع"..ولا أحد يعيب على الغرب أمرا من أمور الرشوة أو المحسوبية أو الزبونية أو الفساد الإداري بكل أنواعه وأصنافه... في الجزء القادم والأخير نقفل هذه الدائرة في الأدهان...