شبهات حول العلمانية كنت أبلغ من العمر سبعة عشر سنة لما قرأت في مكان ما من كتب الفقه أنه كلما مارس "لوطيان الجنس المحرم اهتز عرش السماء من شدة فضاحة الفعل المرتكب"، وكنت في حقيقة الأمر أترك كل شيء وأتوقف عند مسألة اهتزاز عرش الرحمان حين يحدث كل لقاء محرم بين اثنين ينتميان إلي نفس الجنس، وكنت أتساءل بمنطق مقبول عن وثيرة اهتزاز عرش الرحمان كل يوم ونحن نعلم جميعا أن العلاقات الجنسية بين منتمين لنفس الجنس لا تكاد تتوقف بطول الأرض وعرضها خصوصا ونحن نبلغ تعداد السبعة ملايير مخلوق فوق البسيطة...ذلك أن حصر تعداد المثليين في مليون أو مليونيين يكفي لكي يضمن اهتزازا لا ينقطع لعرش الرحمان، وهو ما لا يصح بالمطلق..فالزلازل من صنع الله وليست عاملا طارئا أو ممكنا في حق الربوبية، وبهذا المعن لا يسقط قول السلف : "إذا ركب الذكر الذكر اهتز عرش الرحمان خوفا من غضب الله وكادت السماوات أن تقع عل الأرض فتمسك الملائكة بأطرافها وتقرأ قل هو الله أحد إلى خرها حت يسكن غضب الله عز وجل"، وحسب، بل تسقط أشياء كثيرة أخرى محورها مفهوم الأخلاق نفسه، ومفهوم الأخلاق في الدين، ومدى قدرة الدين عل تطويع الطبيعة البشرية وتحويلها إل ذات متخلقة كما يتخيلها في نصوصه... في الحقيقة... أود في هذه الرباعية مقاربة موضوع أخطر مما سبق لأنه موضوع يمس كل واحد منكم...أتكلم عن الأخلاق... الأخلاق في علاقتها بالدين، وبي وبكم وبنا جميعا، وبالعلمانية... والعلمانية المضادة...انتهت التوطئة.. نمر إل الموضوع: من المثير جدا أن تخرج ناشطة محسوبة عل التيار العلماني المناضل في المغرب وتصرح عل متن فيديو نشر عل نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي لكي تقول أنها ترفض الزواج، ليس لشيء سوى كون المغرب لا يتوفر قانونيا عل تشريعات تسمح بالزواج المدني حيث لا عدول ولا عقد نكاح ولا مهر ولا عرس، فاسيا كان أم رباطيا أم عل طريقة "أحيدوس"...ومن المثير أيضا أن تصرح نفس الناشطة أنها ستشجع أبناءها عل المثلية إن شاءت طبيعتها المثلية منهاجا في الحياة باعتبار حقهما المطلق في اختيار هويتهما الجنسية... هنا تكمن شبهة كنت أنتوي التعريج عليها في رباعيتي الأخيرة حول "لماذا العلمانية هي الحل؟" ولكن لأنها موضوع مرتبط بموضوعة الأخلاق بما لها من أهمية خطيرة في بناء الأمم والحضارات والوعي الإنساني بذاته ومجتمعه (بصفة عامة) قررت تأجيلها لأتناولها ضمن هذه الرباعية الجديدة والتي سأحاول من خلالها، كما استهللت في المقدمة، تبيان دور "المنظومة الأخلاقية" كما نتمثلها واقعا واستيهاما في حالة النفاق الاجتماعي الكبير الذي نعيشه والذي له علاقة مباشرة بموضوعنا الرئيس والثابت والمتواصل حول العلاقة بين التقدم والعلمانية كفكر إنساني... عموما...أضع هذه الفقرة بين قوسين، توضيحا، وأواصل ما قبل قوس الاستطراد... هنا شبهة تحوم حول العلمانية والحداثة... فالعلمانية، حتى وإن كانت لا تعادي الدين (لأنها ترفض فقط استغلال السياسيين للدين المقدس بطبعه وطبيعته ولأنها تطالب بعودة الإسلام الأول المرفق بأسباب النزول ونبذ الإسلام الثاني الذي صنعه الفقهاء من أجل بلاطات أموية تلتها ما تلتها،) (حتى وإن كانت العلمانية لا تعادي الدين ) فالثابت عنها أنها تدعو إلى الفجور الأخلاقي وإلى العري والزنى واللواط والسحاق وانتشار ثقافة الغرب الكافرة وسواد أبناء الحرام وهوان المجتمع الإسلامي الملائكي وانهياره من فوق أبراجه الأخلاقية العالية، والدليل كل الدليل أيها السادة الكرام المبجلون ما نسمعه كل يوم من العلمانيين من الدعوة إلى إفطار رمضان علنا جهارا، والحق في التعري، وممارسة الجنس، والجنس بين السحاقيات واللوطيين وزواج المثليين وغيرها من الحقوق الجنسية على طريقة البهائم والعياذ بالله..."... نعم.. أعترف، إنها شبهات تحوم حول العلمانية والحداثة... إنها شبهات تكاد تنفر عموم الناس من العلمانية بصفتها الأب، أو بالأحرى، الأم الشرعية للفجور والفسق والفساد الجنسي..إنها شبهات خطيرة... وشبهات من المفكر فيها... ولست أنكر أني حين كنت كارها للعلمانية كنت أنظر إليها وفق هذا المنظور والعيب بالنهاية لم يكن أبدا عل عاتقي.. بل عل عاتق "المراهقة العلمانية"، أو "علمانية ما تحت الحزام"، أو "علمانية ما بعد منتصف الليل"، أو علمانية "مال امك مسلم؟"... ليس فقهاء السياسة وحدهم من شوهوا مفهوم العلمانية في الأدهان، بل هناك محسوبون عليها كانت لهم عصا السبق في ذلك لما أرادوا إنزال التغيير بالباراشوت عل أدهان الناس.. لما أرادوا أن يفرضوا قناعاتهم على الأخرين بنفس الطريقة التي يعتمدها خصومهم في نشر الكهنوت الديني المجانب لطرق الإقناع العقلي بالحجة والمنطق...لما أرادوا أن يلخص الناس سنوات عيشهم وسط الكتب والمباحث في مجرد منشور يكتبونه هم على الفايسبوك أو تصريح يدلون به على هذه القناة أو تلك، أو رسم يلخصون فيه كل شيء، أو مقال يمر في جريدة، أو لقطة عابرة عل اليوتوب... حين يحصر بعض العلمانيين النقاش في الحريات الجنسية، وحين يكون حديثهم سو عن الحق في المثلية واستهلاك المخدرات والكحول وإفطار رمضان، فهذا يعطي كامل الحق لكل من يتهم العلمانية بكونها خلقت عل غرار الحداثة لتسهيل أمور النكاح وما يقع أسفل الحزام، فيما الحقيقة أن العلمانية لا تعنى بما يقع أسفل الحزام، بل بما يقع أسفل الجمجمة.. الدماغ... لستُ أنكر أني الأن أتوجه إل تيارات معينة من داخل من يحسبون أنفسهم علمانيين دون أن يفهموا أن أول أبجديات العلمانية احترام معتقدات الأخرين وعدم سبهم أو الهزء منهم (خارج النقاش العلمي الرصين) وهم الذين لا هم لهم طوال اليوم في الفايسبوك وغيره سوى الحديث عن المؤخرات والشهوات وطرق الاستمناء، والمثلية الجنسية، وسب المسلمين والسخرية منهم واتهامهم بالغباء والتعبير أحيانا عن رغبة في إبادة الطرف الأخر عن بكرة أبيه"... نعم.. إلى هؤلاء أتوجه أولا لعلنا حين نناقش مفهوم الأخلاق من داخل المنظومة العلمانية نفهم أنه جزء من كل، وأنه ليس بهذه الطريقة المبتذلة نستطيع إفهام العامة من الناس أن العلمانية لا تعني التحلل الأخلاقي بل تعني القراءة البراغماتية لواقع متحلل أصلا.... العلمانية لا تهزأ من أحد، بل تعاقب من يستهزا من معتقدات الأخرين ولا يناقشها بشكل علمي رصين...العلمانية ضد العنصرية كيفما كان نوعها، والعلمانية لا تختصر أبدا في قضايا ما أسفل الحزام خصوصا في خضم مجتمعات لازالت تبحث عن هويتها وسط عولمة تكنولوجية لقيم تتناطح كل يوم داخل بيوتنا بين تقبيل يد الوالدة في الصباح الباكر وتقبيل يد "عاملة جنس" أخر الليل... لهذا اخترت أن أبدأت بهذه التوطئة ولهذا تكلمت عن شبهة دعوة العلمانية إلى الانحلال الأخلاقي كما هو الحال في الغرب (كما نعتقد جميعا)، ولهذا أردت أن أقول لكم بصريح العبارة في هذا الجزء الأول أن العلمانية ليس دعوة إلى انحلال في الأخلاق، بل دعوة إل القيام بقراءة موضوعية براغماتية وواقعية للانحلال الأخلاقي الموجود أساسا عبر الزمان والجغرافيا طوال حياة البشر عل أرض البسيطة، وإن شئنا الدقة فالعلمانية تدعوكم إل معاودة قراءة ثانية في السلطة الأخلاقية التي يلبسها معظمنا في كل مكان بدعوى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، أي إلى معاودة مناقشة توزيع الأدوار في المجتمع بين ملاك السلطة الأخلاقية ومعها السلط الخمس الأخر المتبقية والمتمثلة في كل من "المال" و"النفوذ" و"الجمال" والقوة" و"العقل"... في الجزء الثاني من هذا المقال سأشرع في مناقشة ما يلي: أولا: نسبية الأخلاق...ثانيا: نسبية قدرة الدين عل تطويع السلوكيات بما مفاده أن التعاليم الأخلاقية الدينية في عمومها مناقضة للطبيعة البشرية..ثالثا: موقع السلطة الأخلاقية التي يمارسها بعضنا عل البعض منا بالتناوب من السلط الخمس الأخر الأكثر أهمية كما سنرى... (السلطة الأخلاقية تقع في أسفل الترتيب كما سيتبين ذكره في الأجزاء الموالية)..رابعا: علاقة العلمانية بضرورة إعادة توزيع السلط الست، وتحيين السلطة الأخلاقية بصفتها سلطة نسبية قابلة للتغير...وفي خضم كل هذا سوف أكون حريصا حتما عل أن أكون واحدا منكم لأني أرى ما ترون وأسمع ما تسمعون وأعرف ما تعرفون عن "خروب بلادنا الأخلاقي" عن جدارة واستحقاق وسبق معرفة وتفكُّر... ألقاكم في الجزء الثاني لكي نتكلم عن تلك الأمريكية التي قاطعتني أسبوعين لا تكلمني فيها، تحتقرني فيها، وتلعنني طيلة أيامها، لمجرد أني تهورت حينها (سنة 2001) وقلت لها أني أفكر في الزواج من ابنة عمي... (التفاصيل في الجزء الثاني)...إلى الملتقى...