أثارت آراء أو"فتاوي" الشيخ عبد الباري الزمزمي، المتعلقة بجواز استعمال المرأة أو الرجل لبعض الوسائل الجنسية، موجة من الانتقادات في أغلب الأوساط واتخذت ردود الأفعال أشكالا تراوحت بين السب والشتم والإخراج من الملة حتى، وبين التنكيت والسخرية اللاذعة، التي تجاوزت الموضوع إلى الشخص، وتمادى أصحابها إلى ما لا يليق. ورغم تحفظي على الطريقة والأسلوب الذي يتناول بهما الشيخ الزمزمي مثل هذه المواضيع، والتي هي أقرب إلى الإثارة المجانية والبحث عن النجومية، منها إلى الفتوى الرصينة المتزنة المطلوبة في من ينتسب إلى العلم وأهله. غير أني أسجل أن حجم الاهتمام الذي حظي به الموضوع وبغض النظر عن طريقة المعالجة يشير إلى أمرين هامين: 1-أهمية موضوع "الجنس" وحساسيته في حياة الناس. رغم أن جزء كبيرا من مشاكل الأزواج المسببة للطلاق أو التي تعكر صفو العلاقة بين الزوجين تبدأ من غرف النوم، نتيجة عدم إدراك أحد الزوجين أو كليهما لأهمية العلاقة الجنسية إما جهلا أو تجاهلا أو بسبب سوء التربية، فإن الجهل بالدين والحياء الزائف والنفاق الاجتماعي وثقافة "حشومة" جعل من موضوع الجنس "طابوا" لا يمكن الاقتراب منه، وكأنه عيب أو حرام. وللأسف اختار حتى الكثير من العلماء ممن يعيشون مرفهين في أبراجهم العاجية أن يجتنبوا الخوض فيه، والإجابة عن أسئلة الناس وحاجاتهم، رغم أن الإسلام تعامل مع الموضوع بقمة الواقعية باعتباره أحد الشهوات والغرائز التي وضعها الله في الإنسان، ورغم أننا نجده حاضرا بشكله الطبيعي –دون تقزيم ولا تضخيم- في حياة الصحابة يتحدثون عنه ويستفسرون عن بعض قضاياه لا يمنعهم الحياء لأنهم اعتبروه من الدين وأطروه بالدين، لذا فمن المؤكد أن الإسلام هو دين الواقعية بامتياز وأنه لم يكبت الغرائز أو يقبرها ولم يدع إلى رهبانية تخالف سنة الله في خلقه، لذلك تعامل مع "شهوة الفرج" أو الجنس بمنتهى الوضوح، فكان طبيعيا أن يشغل الموضوع أبوابا طويلة عريضة في كتب الفقه، كما أن علماء المسلمين ألفوا تآليف في سعادة الجسد، وفصلوا في الإمتاع والإشباع بغاية الإحصان للزوجين، لكونه أحد أسباب الاستقرار النفسي والعاطفي، وقد يتعجب البعض من مثل ما روته السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلَاقَهَا فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ فَجَاءَتْ النَّبِيَّ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا قَالَ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ وَابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى التَّبَسُّمِ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ".وملخص الحديث أن امرأة صحابية تريد التطليق لصغر حجم عضو زوجها، والصحابة يسمعون والرسول يتبسم ويصدر حكما في النازلة ولا يزجرها. فالإسلام وضع قواعد عامة للحياة الجنسية، وارتقى بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة إلى مرتبة الحقوق المتبادلة ووضع لها إلى جانب القواعد آدابا ذوقية راقية تفوق ما راكمه الغرب بآلاف السنوات الضوئية، كما سما بالجنس من مجرد علاقة بدنية بهيمية دوابية إلى علاقة روحية وقلبية، تصل إلى مرتبة العبادة التي ينبغي لكل من الزوجين أن يؤديها على أحسن وأكمل وجه، وسمى الاتصال الجنسي بين الزوجين جماعا ومعاشرة كناية على أن هذه العلاقة يراد لها جمعا بين جسدين وروحين وقلبين دنيا وأخرى. وإلى جانب التقعيد الفقهي والشرعي والتأطير الأخلاقي لم يغلق الإسلام باب التعلم من الغرب أو من الحكمة الإنسانية المشتركة، وما راكمته من خلاصات في مجالي الثقافة الجنسية والطب الجنسي عن طريق التجربة والبحث الطبي الإكلينيكي حول فزيولوجية الجنس وخارطة الإثارة في الجسم ودور الهرمونات والغدد في الإثارة، لكن بدون انحلال أو إباحية لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. فالحديث عن التربية الجنسية ليس دعوة إلى الإباحية أو لإشاعة الفاحشة بين الناس أو تشجيع على الزنى والخنا أو تشجيع على الفساد، فمعرفة الصبي والفتاة لعلامات البلوغ وتعرفهم لأعضائهم الحميمية "عوراتهم" وتعيلمهم الطهارة والغسل من دم الحيض ومن الجنابة وأسس النظافة الأولية كحلق شعر الإبطين والعانة، من أوجب الواجبات على الآباء والأمهات، وهي المقدمة لتربية جنسية سليمة هي من الدين، تربية ينبغي أن تساهم فيها المدرسة في برامجها التعليمية والمسجد والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني بشكل متكامل يقدمون المعلومة الصحيحة مع التوجيه الأخلاقي اللازم، فالتربية والتثقيف الجنسي لا يعني توزيع العوازل الطبية مجانا في المدارس والثانويات على القاصرين، وانظر كيف علم النبي صلى الله عليه سلم أسماء وقد كانت طفلة وبلغت سن البلوغ " يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم تصلح أن يري منها إلا هذا وهذا " ، فعلمها الفرق بين مرحلتين عمريتين، ولم يقل هي صبية لم تزل. 2استغلال مثل هذه الفتاوي للجرأة على الدين ومهاجمة أحكام الإسلام. الهجوم الذي تعرض له الزمزمي يكشف أن خصومة بعض الناس ليست مع الأشخاص أو مع مواقفهم، بل هي خصومة مع الدين كل دين ومع الإسلام خاصة، فهم يستغلون كل فرصة تسنح لمهاجمة الدين، والدليل على هذا أن لا أحد يسلم من جرأتهم وانتقاداتهم لا العلماء المتشددون ولا المعتدلون ولا المنفتحون، فبقدر ما نعتقد أنه لا إكليروس في الدين وأن لا أحد له حق الوصاية على معتقدات الناس ولا احتكار الدين، فبنفس القدر أومن أن هناك تخصصات ينبغي احترامها فالأطباء النفسيون والعضويون يستشارون في مجالاتهم، والفقهاء والعلماء يستفسرون في الحلال والحرام وبيان الأحكام، لهذا فكان من المفروض أن يرد على الزمزمي العلماء، لا كل من هب ودب، ممن لا يحسن حتى الوضوء أو الغسل من الجنابة، وكل من لا يقيم لسانه حتى بآي من القرآن الكريم، وهنا لابد من الحديث عن مؤسسة العلماء في المغرب التي ينبغي أن تكشف عن ساق الجد، وأن تنزل من منابرها لتعايش الناس في واقعهم، وأن تجتهد في إيجاد اجتهادات فقهية مختلفة فيما عمت به البلوى. فأمام هذا الطوفان الإعلامي والقصف الإباحي من الفضائيات والانترنيت، وأمام هذه الظروف الاقتصادية الصعبة كالبطالة وغلاء المعيشة وانعدام السكن وارتفاع تكاليف الزواج، وطول مدة الدراسة وضعف الوازع الديني وعدم وجود التوجيه التربوي نحتاج إلى اجتهاد علمي وتحرك تربوي وأخلاقي يعصم الشباب من هذا الطوفان الجنسي الهائل، فلا تكفي مواعظ العالم والفقيه الباردة ولا تكفي أساليب الوقاية كالمطالبة ب: غض البصر ومنع الاختلاط والصيام والعفة، بل نحتاج حلولا واقعية بلغة عصرية ونحتاج كذلك إلى حملة عارمة في المدارس والإعلام والشوارع والمنتديات والمساجد للتشجيع على العفة، واحتضانا للشباب وشغلهم بأنشطة متنوعة تنقذهم من طاعوني المخدرات والجنس، وأن يملك الجميع الجرأة ليسموا الأشياء بمسمياتها فالتطبيع الاصطلاحي إعلاميا مع الفاحشة والزنا واللواط بأسماء كالدعارة والفساد والمثلية هو تطبيع مرفوض، كما أن التطبيع المتعمد من جهات مشبوهة مع بعض الظواهر الغريبة على مجتمعاتنا كأبناء الزنا والسفاح والحرام والزانيات والعاهرات، تحت مسميات الأمهات العازبات أو الأطفال المتخلى عنهم أو "عاملات الجنس" مرفوض، لأنه تدمير لقيم المجتمع وتشجيع على الزنا والفاحشة وجرأة على الدين، حتى صرنا للأسف نجد من يطالب بحقه في اللواط جهارا نهارا، ويؤسس جمعيات للدفاع عن اللوطيين والسحاقيات وسط صمت مطبق لمؤسسات الدولة العلمية والقضائية والأمنية في دولة إسلامية حكومة وشعبا ودستورا. والخلاصة أن الشيخ الزمزمي لم يخطئ في التطرق إلى هذا الموضوع المسكوت عنه، بل يشكر على هذه الجرأة، لكن ما يعاب عليه هو عدم التأسيس لفتاويه بشكل علمي واضح، وكذا الإسفاف والابتذال في التناول، وسذاجة السقوط في فخاخ صحافة الإثارة والفضائح. فما صدم ويصدم الناس أكثر في مثل هذه التصريحات حول الجنس هو أسلوب الإسفاف والسوقية في التناول، فالواقعية والتبسيط للوصول إلى الناس لا يعني الإغراق في التفاصيل والابتذال، فالقرآن الكريم وهو المعلم، تطرق لمواضيع حساسة للغاية في موضوع الجنس بمنتهى البلاغ مع منتهى الوقار والحشمة، في سياق تربوي عبادي توجيهي عام،" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين"، كما أن كثيرا من البرامج1 والكتب تطرقت إلى موضوع الجنس وإلى قضايا غاية في الحساسية كالاستمناء، والبرود الجنسي، والشبق والجنس الشرجي والفموي، والتوافق الجنسي، والاستيهامات والخيالات الجنسية، والوضعيات الجنسية، وغيرها من القضايا، لكن بدون إثارة وفضائحية ودون ابتذال ونجحت في نشر الأحكام الفقهية والمعلومات العلمية الطبية الصحيحة، بشكل لا يتحرج منه الآباء والأبناء حتى ولو جمعتهم المجالس. 1 برامج الدكتورة هبة قطب مثلا. [email protected]