إذا انتشرت الإباحية في المجتمع وفشا في أفراده انحراف السلوك وانحلال الأخلاق، صارت البلاد سوقا حرة مفتوحة للعارضين والطالبين، ينادي فيها كل بما عنده، ويدعو فيها كل من يشاء إلى ما شاء، لا يمنعه من دعوته رقيب، ولا يحول بينه وبين مراده خلق ولا دين، الإباحية هوة سحيقة ومنزلق عميق من انحدر فيه انتهى به إلى الهلاك، فلا يخرج منه إلا ميتا أو شبيها بالأموات، لا هو حي فيرجى ولا ميتا فينسى، ومن أجل ذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الخطر المحدق فقال: >مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فلا نوذي من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخدوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" (رواه البخاري) (وخرق السفينة) كناية عن ظهور شرارة المنكر في الأمة ومنطلق الإباحية في أفرادها، فإذا تصدى أولوا الأمر لمحاربتها وقاموا بمحاصرتها والقضاء عليها، نجت الأمة كلها من شرور الفاحشة وآفاتها، وإن تركوا أهل المنكر على هواهم شاع الفسق في عامة الناس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم، وكان في ذلك هلاك المجتمع كله، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بعدة أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم..." الحديث (رواه الحاكم وابن ماجة) وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" (رواه أحمد) وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله"(رواه الحاكم والطبراني) وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم >أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث" (رواه الترمذي) ولقد هاجت على المغرب في السنوات الأخيرة موجة من الإباحية لم يعهدها المجتمع المغربي من قبل رغم ما كان ظاهرا فيه من فسوق ومنكرات إذ أن ما كان شائعا بين الناس من فواحش وآثام لم يكن مقبولا عندهم ولا كان أكثرهم راضيا بفعله، فحتى الذي يتعاطى شيئا من ذلك كان يتوارى من الصالحين، وكان غير سعيد بما هو مقيم عليه من الذنب، فهو يرجو كل يوم أن يصلح الله حاله ويهديه إلى سبيل الاستقامة. أما إباحية اليوم فإنها مجون سافر وخلاعة فاضحة وفاحشة عارية، تتحدى دين الأمة وخلقها، وتتمرد على أعرافها وفضائلها، وتسعى إلى فرض واقعها على البلاد، حتى يألفها الناس ويعتادوا على معايشة مساوئها ومكارهها، فلا تنكر حينئذ ولا تهجر، وقد تجلت هذه الإباحية في عدة مظاهر لم تعد خافية على أحد. منها الإغراء بالزنا والتحريض عليه (وتطبيعه) لمتعاطيه، وذلك بإشاعة كتب الجنس في الأسواق والمعارض الثقافية، وبين التلاميذ والطلبة في المدارس والمعاهد وبتوزيع العازل الطبي والإشهار له، ورفع المنع عن تعاطي موانع الحمل، وتسمية الفتاة المنحرفة أما عازبا وتسمية أولادها من الفاحشة أولادا طبيعيين، لتحسين موقعها في المجتمع وإضفاء (الشرعية) عليها وعلى ولدها، حتى لا ينكر عليها صنيعها ولا يرفض لها ولدها. ومن ذلك عرض أفلام الرفث والفاحشة في دور السينما ونشر صورها ومشاهدها على أبوابها للإشهار والإثارة على مرأى ومسمع من الشارع، بمن فيه من أطفال ونساء وشباب وشيوخ، وصالح وطالح، وكان المعهود أن مثل هذه الأفلام إنما تستورد من بلاد الفسق والدعارة في الدول الغربية، وما عهدنا قط أن تنتج مثلها دول إسلامية، حتى سمعنا وقرأنا أخيرا أن بعض المخرجين المغاربة ثارت فيهم (الغيرة) على وطنهم أن يبقى نقي السمعة طيب الذكر، فأنتجوا فيلما (مغربيا) أسموه (لحظة ظلام) وهو فيلم فاحشة ومجون كما ينبئ عنه عنوانه، وكما ذكر عما فيه من مشاهد الدعارة والرذيلة وذلك لتلتحق السينما المغربية بصنيع هذا المخرج (المغوار) بركب المفسدين ودعاة الرذيلة من السينمائيين في مختلف بلاد العالم. ومن المخجل والمخزي حقا أن ينتصر لهذا الفيلم ويدافع عنه (وزير) في الحكومة المغربية التي هي واجهة للدولة التي ينص دستورها أن دينها هو الإسلام وأن الملك فيها هو أمير المؤمنين، فلا يحترم هذا (الوزير) "المتنور" منصب أمير المؤمنين، ولا يحترم دستور البلاد ولا يحترم الشعب المسلم ولا يحترم موقعه في الحكومة، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، وإن الإيمان والحياء قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . إن مثل هذا الفيلم لحظة ظلام وأمثاله لا ينصره ويسانده إلا عشاق الظلام الذين يكرهون النور ويحبون الظلمات، لأنهم لا يجدون سعادتهم إلا وراء الشمس، ولا يقضون حاجات في أنفسهم إلا خلف الأضواء، (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) فهمهم وغايتهم أن تشيع الفاحشة في أفراد المجتمع، وفي كل مرافقه ومجالاته، ليصير الناس جميعا في "الهوى سوا"، فيكون لهم الحق في تعاطي رغباتهم الخبيثة والتجاهر بانحرافاتهم المقيتة دون أن يواجهوا بنكير أو تغيير، (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما). والتلفاز أيضا بقناتيه وإحداهما شر من الأخرى، لا يألو جهدا في توسيع رقعة الإباحية في البلاد، ولا يقصر في الإغراء بالفواحش والآثام، وذلك بما يعرضه من أفلام خليعة ومسلسلات ماجنة وإشهار شائن، وبرامج أجنبية فاجرة. وفي مجال الصحف والإعلام المكتوب برزت صحف اتسمت بالشذوذ والانحراف عن أصالة الأمة وهويتها، ونذرت جهدها لنشر الرذيلة والإباحية في الحياة العامة، وتخصصت في البحوث والدراسات في فقه السوأتين والجنس وما يجري في مجراه، فصارت بذلك (كات لوكا) إشهاريا يطلبه كل منحل ميال إلى الإثم، ويقتنيه كل ذي حاجة خبيثة في نفسه يريد قضاءها، (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون). ومن هذا القبيل سعي بعض المتفحشين إلى تنظيم (مباراة لاختيار ملكة الجمال) ليستخرجوا بهذا الأسلوب من بقي من الفتيات في موقع العفة والحياء فيغروهم بالشهرة وإبراز جمالهن في سوق العرض والطلب، حيث لا يشتري أهل السوق إلا أجود السلع وأفضلها، وهكذا تنخدع الفتيات (الناقصات عقل ودين) بهذا الإغراء وترضى لنفسها ولعرضها أن تكون لحما طريا مطروحا في معرض تجاري يختار منه الراغبون ما يطيب لهم، ويذرون ما لا يرقى منه إلى (رفيع أذواقهم)، ولا يليق (بجلال وقارهم)، وفي المثل السائر: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها). ومن آخر ما نبت في بيئة الإباحية والتفحش هذه، ما يشاع عن الإعداد لمؤتمر الشواذ لتنظيمه في مدينة مراكش، حيث سيحضره المنحرفون بالجنس الذين تداوعوا لهذا المؤتمر من جهات شتى من العالم، وإن انعقاد هذا المؤتمر لا قدر الله وقوعه سيحمل دلالات شر، وأمارات سوء، لاينبغي أن تلصق بالمغرب ولا يليق بموقعه من الأمة الإسلامية أن يعرف بها، فالمغرب يمتاز من بين الدول الإسلامية بمنصب أمير المؤمنين، وهو رمز جليل، ومقام عظيم، وملكه من سلالة بيت النبوة، وهم يحظون من أهل الإسلام بإكبار واحترام ولو كانوا عامة فكيف إذا كانوا ملوكا، والمغرب من المؤسسين لمنظمة المؤتمر الإسلامي إذا انعقد أول مؤتمر للقادة المسلمين على أرضه، ويرأس اليوم لجنة القدس، وهو قطب وقبلة لكثير من الدول الإفريقية التي ينتشر فيها الإسلام، وهو أيضا معروف في كافة البلاد الإسلامية وغيرها من بلاد العالم بالدروس الرمضانية التي يرأسها ملك البلاد داخل أيام رمضان من كل سنة، وهذه المحاسن والمحامد تربأ بالمغرب أن ينعقد على أرضه مؤتمر لحثالة الناس وأراذل البشر الذين تمردوا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا أحقر من البهائم، وأخزى من الحشرات المستقذرة، ففي تنظيم هذا المؤتمر كفر بواح وتنكر لشرع الله، ورد لحكمه واستباحة لما حرم الله ورسوله، وقد جعل الله عز وجل من موجبات الكفر استباحة الحرام فقال سبحانه: (قاتلوا الذين لا يومنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله..) الآية. وفي السماح بتنظيم هذا المؤتمر رضى بالكفر وتشجيع له وإعانة على إظهاره، إذ أن الإعلان بالذنب والتنكر لمعرفته شر من إتيانه وتعاطيه، فإتيانه إثم ومعصية، واستباحته والإعلان عنه كفر وردة. وفي تنظيم هذا المؤتمر المشؤوم بالمغرب عار الدهر ووصمة خزي ستعلق بالوطن، فلا تنسى ولا تغيب عن الأذهان مهما تعاقبت الشهور والأعوام، فتصير سمعة المغرب ملوثة بهذا الحدث المنتن في جميع بقاع العالم، لا يذكر إلا به، ولا يعذر لتقبله واحتضانه. وفي انعقاد هذا المؤتمر ببلادنا إغراء للفسقة والشواذ في شتى بلاد العالم بالقدوم إلى المغرب والاختلاط بشبابه لقضاء أوطارهم النجسة ولافشاء فاحشتهم بين أفراد المجتمع، لاسيما وأن أوضاع البطالة والفقر والخصاصة بيئة سريعة الاستجابة للجراثيم والطفيليات المفسدة، وهكذا تنتشر الرذيلة بين الشباب وينتشر معها في كافة أرجاء البلاد ما تستتبعه من أمراض فتاكة وأوبئة قاتلة. وفي تنظيم هذا المؤتمر تشريع للإباحية وترخيص لكل ذي رغبة منحرفة أن يعلن بانحرافه ويطالب بالاعتراف بسلوكه واختياره، (وللناس فيما يعشقوه مذاهب) (والجنون فنون) ومن يدري فلعلنا نسمع غدا أو بعد غد من يطالب من النساء بالترخيص لهن بالزواج من الكلاب، فما لا يخفى على أحد أن من النساء في الغرب من يمارسن الجنس مع الكلاب، ولا ريب أن في بلادنا من يقتدين بهن في هذا السلوك (الحضاري الرفيع) كما يقتدين بهن في كل رذيلة ومقيتة فليس من المستبعد والحال هذه أن يطالب هذا الصنف من النساء الكلابيات بحقهن في تكوين أسرة من المرأة وزوجها الكلب الذي تحبه وتحترمه وهو أيضا يبادلها الشعور نفسه، وأن يكون لها الحق أيضا في الاعتراف بأولادهما من الاستنساخ الذي يمكن أن يتوصل العلماء عن طريقه بأخد جينة من المرأة وجينة من كلبها الذي هو (زوجها) ويمزجون إحداهما بالأخرى ليخرج منهما ولد من عجائب المخلوقات، فلا هو من بني آدم ولا هو من بني الكلاب، وليس هذا من قبيل الخيال ولا من التوهمات المستحيلة، ولكنه واقع قد يراه أولو الفضل والاستقامة بعيدا، ويراه الجاهليون والمسرفون قريبا، وهو على كل حال أقرب إلى الفهم وأطوع للتقبل من مسلك الذين سموا أنفسهم عبدة الشيطان، وأعلنوا أنهم اتخدوه ربا يعبدونه ويدينون له بالطاعة والخضوع، وقد ظهرت هذه الفئة هي الأخرى في المغرب بعد مصر واتخذت لها أوكارا وبؤرا في مختلف الجهات لتستميل إليها كل معتد أثيم، حتى إذا كثر تابعوها وانتشرت دعوتها خرجت على الناس أيضا لتطالب (بحقوقها) وتنادي بالاعتراف بحزبها ومنهجها. إنها الإباحية والفوضى التي لا تؤمن بدين ولا تخضع لقانون ولا تعترف بفضيلة ولا تتقيد بعرض ولا مروءة، أما نحن المؤمنين بفضل الله عز وجل فلنا في مظاهر هذه الإباحية آية للإسلام ومعجزة من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام، إذ أخبر صلى الله عليه وسلم أن الإعلان بالفاحشة والإسراف في الفسق سيكون من أمارات الساعة وأشراطها، فقال صلى الله عليه وسلم: >إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا ويشرب الخمر، ويذهب الرجال ويبقى النساء< (الحديث رواه البخاري ومسلم). وقال صلى الله عليه وسلم "من أشراط الساعة الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وائتمان الخائن وتخوين الأمين" (صحيح الجامع الصغير). عبد الباري الزمزمي