منذ اعتلائه العرش يوم 30 يوليوز من عام 1999، ما يزال الملك محمد السادس يحتفظ، وسَيْراً على نهج أجداده من الحكام العلويين، بصفته كأمير للمؤمنين وحام لحمى الملة والدين، إلى جانب اعتباره الضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، وهوما زكاه دستور 2011.. فيما أعلن الملك التزامه ب"الحفاظ على الأمن الروحي للمغرب، ووحدة المذهب المالكي، وفق نموذج مغربي"، بينما ما زالت هذه التجربة المغربية تحظى بالاهتمام القاري والدولي. ورغم أن تحدي تطوير الشأن الديني بالمغرب كان من أولويات الملك محمد السادس، منذ وصوله للحكم، إذ يظهر ذلك في مجمل ما أعلن عنه من إنشاء لمؤسسات رسمية جديدة وإحياء لأخرى، وإعادة ترتيب البيت الداخلي للبعض الآخر.. إلّا أن تفجيرات 16 ماي 2003، التي طالت الدارالبيضاء، كانت المحدد الأساسي في التسريع من وتيرة التأهيل الديني، وظهور بوادر استراتيجية دينية جديدة. تدعيم مؤسسات بعد أشهر من خلافة الملك محمد السادس لوالده الراحل الحسن الثاني، سارع العاهل المغربي إلى تعيين محمد يسف كاتباً عاما للمجلس العلمي الأعلى سنة 2000، وهي المؤسسة الدينية التي يرأسها الملك بمقتضى الدستور، كما تعد الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى الدينية من خلال "الهيئة العلمية للإفتاء". أعلن الملك توجهه إلى إعادة تنظيم وتجديد تركيبة المجالس العلمية وتوسيع شبكاتها، لتشمل معظم أنحاء البلاد وفقا لمضمون ظهير 22 أبريل 2004 القاضي بتعيين أعضائها المكونين من علماء الدين والمكلفين من طرف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية؛ فيما همّ التطوير أيضا إحياء "رابطة علماء المغرب" التي أضحت مقترنة بالملك وهي تحمل اسم "الرابطة المحمدية للعلماء"، وتعيين أحمد بعادي، على رأسها، قبل أن تعرف المؤسسة تطورا نوعيا عبر أنشطتها الوطنية والدولية وإصدارتها، وفاعلية مراكزها العلمية المتعددة. "التوفيق" دائما ورغم أن الدستور الجديد لا ينص على وزارة سيادة ضمن التركيبة الحكومية إلا أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ظلت بارزة بهذه الصورة، ويظهر ذلك جليّاً في استمرار حمل أحمد التوفيق للحقيبة ذاتها وسط السلطة التنفيذية منذ أن عينه الملك محمد السادس، سنة 2002، خلفاً لعبد الكبير العلوي المدغري، قبل أن يتم إصدار ظهير 4 دجنبر 2003 في شأن اختصاصات وتَنظيم الوزارة، الذي ركز على "إعادة هيكلتها". وشملت هذه العملية، التي انطلقت منذ أزيد من 12 سنة، إحداث مديرية للتعليم العتيق وأخرى مختصة بالمساجد، وإعادة النظر في التشريع المتعلق بأماكن العبادات، "بما يكفل ملاءمتها للمتطلبات المعمارية، لأداء الشعائر الدينية في جو من الطمأنينة"، إلى جانب ضبط مصادر تمويلها وشفافيتها وشرعيتها واستمراريتها، فيما جهزت بيوت الله أيضا بأجهزة التلفاز والبارابول، لغرض تدعيم الحضور الإعلامي للمؤسسة الدينية وشغل الفراغ الحاصل في الدعاة داخلها. تعليم عالي ديني وعلاقة بالمؤسسات الدينية ذات الصلة بالتعليم العالي، أصدرت المؤسسة الملكية في غشت 2005 ظهيرا يهم إعادة تنظيم "مؤسسة دار الحديث الحسنية"، التي كانت تعد معهدا تحت السلطة المباشرة لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، قبل أن تلتحق، إثر ظهير 24 يونيو 2015، بتدبير مسؤولي جامعة القرويين، فيما هم ذلك مؤسسات أخرى مثل "معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية" و"معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات". تحصين المساجد وفي سياق تأهيل الأئمة، وفق خطة استراتجية ل"المرحلة الجديدة من الإصلاح الديني"، أعلن في يونيو 2009 عن انطلاق "خطة ميثاق العلماء" التي تهم بالأساس تنفيذ برنامج لتأهيل الأئمة، ورصدت لها اعتمادات سنوية تبلغ 125 مليون درهم، إذ تشمل جميع أئمة مساجد المملكة البالغ عددهم 44.600، يقوم بتأطيرهم أزيد من 1400 مختص. زيادة على ذلك، شمل الاعتناء بالأطر الدينية منح مكافأة شهرية للمؤذنين، وتمتيع الخطباء ومراقبي المساجد والمؤذنين بالتأمين الصحي الأساسي والتكميلي منذ فبراير 2014، إلى جانب الإعلان عن "خطة دعم" الهادفة إلى "تحصين المساجد من أي استغلال، والرفع من مستوى التأهيل لخدمة قيم الدين" إلى جانب توسيع تأطير الشأن الديني على المستوى المحلي، بجهاز تأطيري يتكون من 1300 إمام مرشد. أئمة المغرب والخارج وتوجت الاستراتجية الملكية في تأهيل المرشدين والمرشدات الدينيات بالمغرب، بتأسيس "معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات"، وهي المؤسسة التي كلفت المغرب 224 مليون درهم، وأعلن تأسيسها كأداة من أدوات التحصين من نزعات التطرف والحفاظ على هويته الدينية، المرتكزة على "إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي وطريقة الجنيد في التصوف". وفيما يستقبل المعهد، إلى حدود اليوم، العشرات من الأئمة والمرشدين والمرشدات المغاربة، يتم تكوين أئمة أجانب من دول إفريقية وأوروبية، من دول مالي وغينيا كوناكري وكوت ديفوار وتونس وجمعية اتحاد مساجد فرنسا، خلال دورات تمتد لسنتين، بناء على طلب من تلك الدول، قبل أن يعلن في يوليوز الماضي عن إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. إعلام ديني رغم المنافسة الشديدة التي تفرضها منذ سنوات القنوات الفضائية الدينية العربية والمواقع الالكترونية الإسلامية الخارجة عن النطاق الافتراضي المغربي، إلا أن تأسيس ذراعين إعلاميين اثنين، تابعين للمؤسسة الدينية الرسمية، عُدَّ تطورا ملموسا في سياق إصلاح الحقل الديني، فبعد أن كان المغاربة مرتبطين ببرنامج "ركن المفتي" الشهير الذي يبث كل جمعة على القناة الأولى، تم إطلاق إذاعة "محمد السادس للقرآن الكريم" (2004) وقناة "محمد السادس للقرآن الكريم" أو "السادسة" (2005). إلى جانب ذلك، تتيح البوابات الالكترونية والصفحات الرسمية لمواقع التواصل الاجتماعي، لعدد من المؤسسات الرسمية، فرصة تواصليا مع المتلقي المغربي، بغرض الحصول على معلومات وأجوبة عن استفسارات ذات صلة تعبدية وروحية، إلى جانب التعرف على آخر الإنتاجات والإصدارات العلمية والدينية، كما هو حاصل مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وكذا الرابطة المحمدية للعلماء. حالة دينية شبه فريدة الباحث المغربي في الشأن الديني، منتصر حمادة، اعتبر كل تلك الإنجازات الدينية الرسمية طيلة 16 سنة من حكم الملك، خاصية جعلت المغرب "حالةً شبه فريدة في المجال التداولي الإسلامي"، متمثلة في علاقة الدولة بالدين، موضحا أنها تكاد لخصوصية عربية وإسلامية في "التوفيق" بين "المشروعية السياسية" و"الشرعية الدينية"، "المغرب هو البلد الإسلامي الذي يتميز بوجود مؤسسة إمارة المؤمنين". ويرى المتحدث ضمن تصريح لهسبرس، أن الإنجازات التي تم تحقيقها خلال حكم الملك السادس، جعلت المغرب البلد المسلم الوحيد "الذي طلبت منه دولا عربية وإسلامية وغربية تقديم خدمة نظرية وعملية في تدبير الشأن الديني في حقبة ما بعد اندلاع الحراك العربي"، فيما نبه إلى وجود انتظارات لصيقة بالحقل الديني وذات صلة بالحقل السياسي والثقافي والإعلامي.. من ضمنها "مفارقات تتطلب إعادة النظر في مجموعة قرارات واتخاذ إجراءات نعتبرها عاجلة". وبما أن التديّن المغربي كان طيلة قرون تديّنا وسطيا ومعتدلا، بحسب حمادة، "لكن نعاين خلال العقود الأخيرة أنماطاً شاذة من التديّن، تنافس أو تزايد على تديّن المغاربة، سواء كانت مشرقية أو غربية الفكر والعقيدة"، فيما انتبه الباحث المغربي إلى وجود مساحات فارغة في الحضور الميداني للمؤسسات الدينية وللمنتسبين إليها في مواقع التواصل الاجتماعي، "تملأه تيارات محلية ومشرقية وغربية تناهض أو تقزم من التديّن المغربي". واعتبر حمادة صناع القرار الانتباه إلى غياب التنسيق بين أداء أهم المؤسسات الدينية، "بسبب ثقل صراعات شخصية هنا وهناك"، مُشيراً إلى "أهميّة ضخّ دماء علمية جديدة في المؤسسات الدينية، في مجمل التراب الوطني، من باب مسايرة التطورات القائمة في المضامين والخطاب والتواصل، والتفاعل بالتالي مع تطلعات ونوازل الساحة"، إلى جانب "فسح مجالات أكبر من الحرية المسؤولة والاستقلالية النافعة أمام علماء وفقهاء المؤسسات الدينية.. وهي فسحة لا يمكن إلا أن تكون إيجابية على صورة وأداء هذه المؤسسات وبالتالي تنتصر لطبائع التديّن المغربي الأصيل والمنفتح".