كلما اقتربت محطة انتخابية في المغرب، إلا وأخرجت الألسن إلى مجال التداول عبارة " السياسيون الرحل "، " النواب الرحل " و " المرشحون الرحل ". ويقصد بذلك الأشخاص الذين يغيرون انتماءاتهم السياسية، ويبذلون مبادئهن المذهبية ويغيرون ألوانهم الحزبية. فهؤلاء ينعتون مجازا واستعارة ب' الرحل "، فهم يشبهون بالفرد المتنقل من مكان إلى آخر، أي الذي يتنقل ولا يتوطن، ولا يدوم استقراه في مكان. أي لا يتمكن في مكان. يمكن أن يبدو للمخاطب، في الظاهر، أن هذه المسكوكات اللغوية الشائعة عادية من حيث كونها تناسب المقام التداولي، كما أن التشبيه المعتمد فيها محمود. لهذا أصبحت العبارة دليل قدح، إن لم يكن نعث تجريح، يسند لكل فرد أو جماعة تجنح إلى تغيير جلدتها وقميصها السياسي، هويتها. لكن، يمكن للإسناد الدلالي أن يفيد العكس، فقد يسيء لفظ " الرحل " في استخدامه الأصلي إلى جماعات بشؤية لها نمط عيش خاص، بل ويمكن أن يولد إيحاءا بالذم للرحل الواقعيين من خلال إسناد الصفة الحربائية سياسيا للرحل في المشهد السياسي. هذا طبعا إذا لم يرفع، هذا الاستخدام، من قيمة ظاهرة الترحال السياسوي، هذا السلوك الإنتخابوي البئيشس والكبيس –يظهر كل أربع سنوات -، الذي يستبد بالمشهد السياسي المغربي في المواسم الإنتخابية. وبالفعل، لا يجوز نعت الشخص أو الجماعة التي تتنقل بين الأحزاب وتغير علاماتها وحتى قناعاتها أو أقنعتها، طوعا أو كرها، بالرحل. فمصوغات التشبيه غير ممكنة ومبررات التجوز في اللفظ غير قائمة. وهذا ما أدلل عليه في اللاحق من هذا القول. نقل لفظ " الرحل "من مجال الإعمال الأصلي إلى الاستخدام الفرعي، أي المجاز، من المعنى الحقيقي المطابق إلى مجال السياسة، في الفضاء العمومي المغربي، يقصد به الإساءة لممارسيه. فالباعث إلى نقله هو التقليص من حجم الشخص المتنقل بين الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والتنقيص من قيمته، بل وتجريحه. كوصفه بالغش أو على الأقل عدم الانضباط، أو جنوحه عن الفضائل المتعارفة والمفترضة في التحزب والانتماء للجماعة النظامية، ومنها الأحزاب والنقابات. فعبارة " السياسيون الرحل " أو ما يكافئه من الألفاظ يحيل إلى محور دلالي سلبي، عند الذي يستخدم المفهوم ويستعيره. لفظ " الرحل " في معناه اللغوي الحقيقي يفيد دلالات تخالف ما يقصد به في الاستعارة السياسية. فرغم كون الأول يقترن بالمجال الجغرافي، حيث يحيل إلى تغيير الموطن والتوطن في المكان، لظروف مناخية، اقتصادية واجتماعية ... فإنها يتضمن معاني تترب على سلم حجاجي يفيد الانتصار لمعاني إيجابية، وحضارية. فالرحل يعرفون بعدة خصائص إيجابية، تميزهم عن الحضر. فرغم خشونة بداوتهم مقارنة برقة أهل المدن، حسب التعبير الخلدوني، فإن العارف بشأنهم والمطلع على أحوالهم ليدرك بالملموس شيما وفضائل بعيدة ومضادة لما يعتقده أهل السياسة من الحضر. وأول فكرة يجب كشفها هي أن " الرحل " مفهوم واسع الدلالة غني المعنى. فهو إحالة على ثقافة راقية، من معالمها : الثبات على الموقف، والتشبث بالمبدأ، بل والارتباط بالأصل والتضحية لأجله. وهذه هي أهم ملامح الشخصية الأساسية للرحل . وهي ما ينعدم عند أهل السياسة الذين يوصفون بالرحل. فهؤلاء يغيرون كل شيء في العالم الجديد، فهم الوافدون الجدد الذين لا بد لهم من حفظ ألواح جديدة، بعد غسل معدنهم ومحو ماضيهم أو على الأقل مسح سبورة ذاكرتهم. عدم تغيير الجلد، بمعنى يستحيل تغيير القبلية والعشيرة مهما كانت الظروف والأحوال. وحتى في حالة الهجران، يبقى المهاجر أو المهجور مشدودا إلى جذوره القبلية ومفتخرا بالانتماء إليها. والرحل يحافظون على هذا الانتماء الجماعي وعقلهم الجمعي لزمن طويل. والتاريخ المغربي للرحل في الفضاء المغاربي يشهد على الظاهرة. وهذا ما لا يصح على " رحل الانتخابات " الذين يؤاخذون بالتخلي عن جماعة الأصل والارتماء في أحضان الفرع الجديد، مع الاستعداد لتركه وإعادة ولوج أسرة حزب جديد. الرجولة والشجاعة والوضوح في القول والعمل و الوفاء بالعهد، والصدق في الوعد والوعيد. وعدم التنازل عند الوعد مهما كانت المبررات. إنها عملة يوسم بها الرحل. طبعا هذا ما يخالف "الرحل " في السياسة، الذين ينعتهم الخصوم بعدم الوعد وعدم الوفاء بالعهد. فهم إلى الحيلة والتحايل يميلون، وإلى الكذب والنفاق يسكنون. فالمصلحة أولا وأخيرا. عدم منح حق الانتماء للوافد الجديد، حنى في علاقة القرابة والدم، كالمصاهرة مثلا. إذ المعلوم من أخبار الرحل أنهم يحافظون على نقاء الهوية. فلا يمكن أن يمنح للوافد الجديد جنسية قبلية جديدة. وحتى في حالات التقارب عن طريق التبادل، كالزوج مثلا، يحتفظ للوافد بنسبه، فخذه، وجذوره. لكن هذا لا يعني أن الرحل يرفضون القادم إليهم. بل بالعكس، فهم يقدمون الدعم لهذا الزائر، يساعدونه حتى يشتد ساعده. ويمنحونه كل ما يحتاجه. وهذا ليس غريبا مادام الرحل أهل كرم، فهم المعروفون بكثرة رماد القدر، كثرة الضيوف. وهذا ما يجعل الرحل الحقيقيون بعيدون عن رحل السياسة أو من يستقبلهم من الأحزاب. وتفسير هذه المسألة يجد مثاله في ثنائية العرض والطلب في المجال التجاري. فمادام هناك من يستقبل بترحاب ويقبل كل وافد، دون مسائلته عن تاريخه، فمن الطبيعي أن تنتعش ظاهرة الترحال السياسي. هنا يظهر الفرق مع عالم الرحل. كل يبقى في قبيلته، وحتى إن كتب عليه أن يبقى في حضن قبيلة مدى حياته، فلن تكون عنده إلا وضعية الإلحاق. وضعية أشبه بتلك التي للموظف العمومي الملحق في إدارة غير إدارته الأصلية. يظهر من خلال هذه المقدمات أن ثمة فرق واضح، وبون شاسع بين " الترحال السياسي " و" الرحل "، فاللفظ الأول يضاد الثاني ويتباين معه. ولذلك لا يجوز اعتماد التشبيه ولا إسناد المستعار منه – المشبه به - " الرحل " للمستعار له – المشبه – " رحل السياسة ". فدروس البلاغة في تقعيدها، للبيان ولعلم المعاني، لا تجيز ذلك ولا تمنحنا تلك الإمكانية، فالاستخدام يخرق المقام، كما أن شروط الإسناد ومصوغات الإلحاق غير قائمة. ف" الترحال السياسي " يريد به مروجوه التعبير عن التجريح والإساءة للخصم، والحال أن " الرحل " في أصله اللغوي، يدل على الخصائص الفعالة. لذلك وجب فقط استخدامه في الحقول الإيجابية. ولهذا نجد استخدامات مناسبة ورافعة للفظ " الرحل " في حقول معرفية شتى، ك" المفهوم الرحال " عند الابستمولوجي Granger ، أو " الفكر الرحال " مع فيلسوف الاختلاف Deleuze ، أو " الفلسفة الرحالة " عند الفيلسوف التونسي عبد العزيز العيادي ، أو على الأقل " رحال " باعتباره أسم علم، كما هو اسم السوسيولوجي " المغربي بوبريك رحال "، دون نسيان " الرحالة " ابن بطوطة.