الترحال مصطلح ارتبط غالبا بفئة من الرعاة المتنقلين بين الأودية والسهول والجبال والصحاري بحثا عن الكلأ لماشيتهم، كما يمكن الجزم أنه ارتبط بمجموعة من الرحالة الذين سرحوا في الأرض بحثا عن العلم والمعرفة، وبين الرحل العلماء والرحل الرعاة ظهر إلى الوجود رهط آخر من الرحل، إنه صنف الساسة المتنقلين بين أحزاب عدة وفي زمان قياسي، وربما حقق المغرب السبق في هذا المجال يستحق أن يسجل له هذا الإنجاز في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية. فإذا كان الرحالة الرعاة يتنقلون من حيز قل كلؤه وجف ماؤه إلى حيز يوفر حاجاتهم من المرعى، وذلك في دورة زمانية تحكمها قوانين الطبيعة وينضبط لها الرحل لأنهم يعرفون أن مخالفة هذه الضوابط يعرضهم لخطر انهمار مياه فصل الشتاء في الأودية والشعاب، لكن رهط الساسة لا يستقرون في مكان ولا يحترمون زمانا لترحالهم، فمع اقتراب كل استحقاقات تشريعية أو جماعية تسمع عن رحلة جماعية لنواب ومستشارين ورؤساء وأعضاء جماعات، ولا يخشون في ذلك قوانين ولا ضوابط، وإنما يخشون على مصالحهم فقط، فيختارون خيمة القائد التي لا يهزها ريح ولا يحرك أوتادها حتى الزلزال. إنها مفارقة غريبة أن يدخل مرشح غمار الانتخابات بجلد ولا يشعر بأي عقدة ذنب وهو يسلخ جلده مثل الثعبان ويغير لونه كالحرباء، والنتيجة المبررة لهذا السلوك هو أن السياسة لا تعشق الأخلاق وأن قاعدة الممارسة في الشأن العام هي "تشلاهبيت" بذاتها وأصولها وفروعها، أما الأخلاق فهي حجة البؤساء والضعفاء والفاشلين، مركزين على أن السياسي الناجح هو من يتقن فن المناورة والإيقاع بالإخوة قبل الأعداء، فلكي تكون سياسيا بارعا عليك أن تحفظ عن ظهر قلب "أمير ميكيافيلي". الترحال نوعان: الأول قبلي تفرضه التزكية، والثاني بعدي تفرضه المصلحة، فالتزكية غالبا ما تكون مثار صراع بين الفرقاء داخل التنظيم الواحد، خاصة حينما لجأت بعض الأحزاب السياسية إلى فرض الوافدين الجدد على قواعدها من أصحاب "الشكارة" والأعيان، مما يضطر معه بعض الزبناء، من هذا النوع الأخير البحث عن التزكية وبأي ثمن، وتكون تصدعات وتشققات في صفوف الأحزاب المتهالكة أصلا، وتتناسل الفرق وتتفرق مللا، و تحكي كل فرقة عن صواب اختيارها، لكن الوافد الذي فاز بالتزكية وإن تحقق مناه بالفوز بالمقعد المعلوم، هنا يأتي النوع الثاني من الترحال الذي هو المصلحة، فإما أغلبية مستوزرة أو أقلية ضاغطة تحمي الرحل. لقد عطلت القوانين التي تمنع الترحال بدعوى عدم دستوريتها، والتزمت الأحزاب الصمت، لن لكل منها رحالتها، ولا يعنيها إلا ما ستحصل عليه من مقاعد توازي بها كفة الاستوزار أو الرئاسة. هذا التواطؤ المريب لهذه التنظيمات هو ما يبرر النزوع الجماعي أو الترحال المضاد لكتلة الناخبين نحو العزوف، وهو ما جعل المشهد السياسي المغربي كاريكاتوريا ويثير الشفقة إلى حد دعوة بعض الأحزاب المحسوبة على اليسار إلى ممارسة ديكتاتورية التصويت كإجراء يحمي هذه الكائنات السياسية من الانقراض، فالسياسيون لا يعبئون بما يلحقونه من ضرر بالعمل السياسي، لكنهم يريدون أن يتحولوا إلى أصنام تذبح عند أقدامهم قرابين العازفين على سمفونية المقاطعة.