ضمن الجزء الرابع من "القصة الكاملة" ل"الرحلة إلى غزة وأسطول الحرية"، ينقل الصحافي المغربي في قناة الجزيرة القطرية، محمد البقالي، التفاصيل التي سبقت التدخل الإسرائيلي في الليلتين الأخيرتين قبل اعتراض سفينة "ماريان" السويدية، إحدى السفن التابعة لأسطول "الحرية 3"، التي كانت في طريقها إلى قطاع غزة، من أجل كسر الحصار المفروض عليها منذ عام 2007. ويروي البقالي، ضمن السلسلة التي خصّ بها هسبريس، قصة "بوب" الأستاذ الكندي في مجال "المقاومة السلمية" وقواعدها العشرة، وعن التدرايب التي كانت تتم على ظهر السفينة للتعامل مع أي هجوم إسرائيلي محتمل. ويقودنا في سرده الى الليلة الأخيرة بل إلى اللحظات التي سبقت الهجوم على السفينة. وفيما يلي الجزء الرابع من "الرحلة إلى غزة"، كما خطه الصحافي محمد البقالي: في الليلة الرابعة، ومع اقتراب السفينة من غزة ... بدأت الاستعدادات لكل الاحتمالات... كنا شبه متأكدين من البحرية الإسرائيلية ستعترضنا. أخبار الوعيد القادمة من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو كانت تصلنا عبر هاتف الثريا المرتبط بالأقمار الصناعية الذي كان بحوزتي. مالم نكن متأكدين منه هو كيف سيتم الاعتراض: بعنف كما حصل في السفينة التركية مرمرة قبل ثلاثة أعوام حين قتلت إسرائيل ثمانية من ركاب أسطول الحرية، أم بدون دماء؟ رجحنا أن إسرائيل لن تكرر الحماقة ذاتها، فقد دفعت ثمنا غاليا نظير دماء الأتراك التي سالت، وليس من مصلحتها تكرار الجنون ذاته. لكن من يضمن رد فعل "دولة" تعتبر نفسها فوق القوانين والشرائع؟ كان الاهتمام الإسرائيلي الكبير بالسفينة، والوعيد المتكرر من قبل نتانياهو ووزرائه وقائد جيشه يثير سخرية "درور فايلر" الرجل الذي لا يتخلى عن مرحه حتى وهو يوشك أن يغمى عليه بسبب دوار البحر. وفي سخريته كان يذكرنا بمفارقة عجيبة: كيف ل"أقوى جيش في المنطقة"، أن ينشغل طيلة الوقت بأمر سفينة صغيرة توشك أمواج البحر إذا علت أن تغرقها؟ المقاومة السلمية: كن سلميا لكن لا تسمح لهم بالإساءة لكرامتك على خلاف مرح "فايلر" وسخريته اللاذعة، كان "بوب لوفلاس" جادا في كل حركاته وأقواله. "بوب" كندي عجوز في السبعين من عمره. أستاذ سابق في الجامعة يدرس المحاسبة والتنمية. تفرغ منذ تقاعده للعمل الإنساني. كانت مهمته توفير أكثر الشروط الممكنة لضمان سلمية الرحلة وأمن النشطاء. ولديه في ذلك وصفة لا يفتأ يكررها : "المقاومة السلمية Pacific resistance". تجمع هذه الوصفة بين الحفاظ على سلمية الرحلة من خلال عدم الدخول في مواجهة مع الجيش الإسرائليلي، عدم الاستسلام له أيضا. وفي حالتنا كانت تقوم المقاومة السلمية على بضعة توجيهات واضحة تلخصها عبارة " كن إنسانيا "Be Human وتشمل التوجيهات التالية: حافظ على كرامتك... لا تتصرف بعنف أبدا... لا تظهر خوفك... لا تستجب للمطالب المذلة مثل الانحناء لا تتحدث كثيرا .. لا تجب على الأسئلة غير المقبولة.. لا توقع أي ورقة يطلب منك توقيعها... عند الهجوم ابق ساكنا في مكانك.. لا تقدم على أي حركة مفاجئة قد تدفع الى رد فعل عنيف من الجيش. والأهم... البس سترة النجاة لأن هناك تخوفا من أن تصدم سفينة حربية إسرائيلية القارب فتقلبه... "بوب" وبحكم أنه أستاذ في الجامعة كان يطيل في دروسه. أحيانا كان يستغرق الأمر نصف ساعة. وبسبب التعب الشديد كان بعضنا ينامون أثناء الدروس. كان يراهم بوب وهم نيام فلا يأبه. يواصل درسه لمن بقوا قيد الصحو. تذكرت فقيه "المسيد" في قريتي. كان النوم في حضرته جريمة لا يكفرها سوى ضربة من عصاه الطويلة تقضي على أي رغبة في النوم. تصورت بوب وهو يحمل عصا يضرب "النشطاء الكسالى". ضحكت في سري. بعد انتهاء الدروس النظرية. علينا المرور الى التطبيق. في مناسبتين أطلقت صفارة الإنذار كما لو أن هجوما حقيقيا قد وقع. كان على كل شخص أن يأخذ موقعه المحدد سلفا ويتعامل بالطريقة المتفق عليها. كان علينا التصرف كما لو أن الهجوم قد وقع فعلا. الليلة الأخيرة: توقعوا الهجوم في كل لحظة في الليلة الخامسة..لم يكن يفصلنا عن غزة سوى نحو 120 كيلومترا. علمت أن طائرة دون طيار قد حلقت فوق السفينة، وأن باخرتين تقتفيان أثرها منذ الليلة الماضية. تناولنا "العشاء الأخير". بعده دعانا كابتن السفينة إلى اجتماع لم نكن بحاجة لتخمين موضوعه.. كان الكابتن واضحا وحاسما في قوله: من هذه اللحظة يمكنكم توقع الهجوم في أي لحظة. ساد صمت مطبق. والكابتن يقدم مزيدا من الشروح. أخبرنا أن المسافة المتبقية يمكن قطعها في بضع ساعات، لكنه قرر خفض سرعة السفينة إلى حدها الأدنى ليتمكن من الوصول إلى المياه الإقليمية لغزة صباحا. حتى إذا تدخلت البحرية الإسرائيلية يكون ذلك وشمس الصباح مشرقة ... أكد مرة أخرى: صحيح نحن في المياه الدولية. لكن يمكنكم توقع الهجوم الإسرائيلي في كل لحظة. عندما تسمعون صفارة الإنذار التي سأطلقها يستيقظ الجميع ويلبس سترة النجاة ويلتحق بموقعه المحدد سلفا... قام الجميع الى النوم. فيما كان لدي حوار مباشر مع الرئيس المرزوقي على قناة الجزيرة في نشرة الحصاد التي تصادف الساعة الحادية عشرة ليلا بتوقيت اليونان... لم يكن إجراء حوار مباشر في تلك الظروف أمرا سهلا. فالسفينة تتحرك بقوة. والحفاظ على التوازن مهمة عسيرة بالنسبة لنا كما بالنسبة للرئيس المرزوقي. من شاهد الحوار سينتبه لذلك. ما لم أنتبه إليه لحظتها أن الإشارة كانت مشوشة، والصورة لا تصل إلى المشاهدين واضحة تماما. كان ذلك بأن التدخل الإسرائيلي قد غدا وشيكا. فمن علامات قرب تدخلهم التشويش على كل الإشارات أما حين يصلون فيتم قطعها بالكامل. علمت بذلك بعد نهاية اللقاء. لكن تصرفنا كأن شيئا لم يكن. كأن الليلة هي ليلة أخرى مثل بقية الليالي.. لاشيء استثنائيا فيها ننتظره. آوى كل منا الى فراشه وسمعه على صفارة الإنذار التي لم تتأخر كثيرا.. فبعد ساعة ونصف فقط شقت ظلام الليل... معلنة أن الاسرائليين قد وصلوا... يتبع...