"العلمانية ضد الدين".."العلمانية معول عميل للغرب يريد انتزاع التدين من قلوب الناس".."العلمانية مؤامرة ماسونية للسيطرة على العالم الإسلامي".."العلمانية مؤامرة صهيونية".."العلمانية مؤامرة لنشر الفساد والقضاء على الأخلاق".."العلمانية تهدف إلى القضاء على القيم والهوية الإسلاميين".."العلمانية مؤامرة كبرى ضد الإسلام يساهم فيها الإنس والجن والشياطين الحمر".."العلمانية مارست الكثير من الجرائم ضد الإنسانية"..."العلمانية هي الشر المطلق"... كمواطن بسيط لم أنل من الثقافة (وليس التعليم) نصيبا سيبدو هذا الكلام حقيقة مطلقة مادام الذي ينطق بها صاحب لحية مديدة أو مظاهر تقوى عديدة، أو صاحب كرامات في الحديث عن الدين، والدين، والتمثل بالأخلاق الحسنة..قد يقولها لي صديقي الذي استمر في المرحلة الإعدادية من بعدي بضع سنوات..صديقي الذي ينظر كثيرا في الدين وكلما تكلم في شيء قال لي "إنه في القرآن" فأصدقه..المهم أن كل من تكلم في الدين طويلا وكثيرا وكان مقنعا لي صدقته إن هو قال لي هذا الكلام عن هذا الشيء الذي يسمونه "العلمانية، والعياذ بالله"..."قالوا لي أن العلمانية ضد الإسلام فانتهى كل الكلام"..لو قالوا لي أن "العلمانية هي السبب في ذوبان الجليد عن القطب الشمالي" لأمنت على كلامهم لأن "القديسين لا يكذبون"...ما هي "العلمانية؟".. قالوا لي أنها "فصل الدين عن الدولة والعياذ بالله"، أي "حسب قولهم "عدم الحكم بشريعة الله"..إنها مؤامرة ماسونية... ماهي الماسونية؟.. لا أعلم.. المهم أنهم يقولون بأنها أخطر الشرور في العالم.. "جماعة من الكفرة بالله".. "الكفرة بالله؟".. أعوذ بالله.. انتهى الكلام.. دعونا نوضح تهافت كل هذا الهراء.. تلك الهرطقات التي تحولت إلى مسلمات في أذهان الناس حول العلمانية..تلك الشبهات التي جعلت العلمانيين في المغرب هدفا لكل الهجومات وهدفا للتكفير أحيانا والإخراج من الملة.. ولنبدأ من العنوان الرئيسي للأزمة.. ولنقلها على شاكلة عنوان شامل يكون منطلقا لما سيلي من فقرات تحليلية.."العلمانية ضد رجال الدين وليست ضد الدين".."رجال الدين" هنا ليسوا أولئك الذين يعلمون المسلمين أمور دينهم ويعلمونهم اعتمادا على روح الإسلام القرآنية..رجال الدين هم "لاهوت الإسلام".. أولئك الذين يتحكمون في الرقاب ويعدون بالجنة الفاضلة لكي يحصلوا على كراسي الحكم ويحولونها إلى "جهنم قاحلة"... لن أعود هنا لفتح نقاش "هل الإسلام دين ودولة؟" لأنها إشكالية خضت فيها بمقالات مختلفة على "هسبرس" يمكن لمن شاء العودة إليها وهي التي أوضحت فيها أنه "لا وجود لنظام حكم في الإسلام" وأن "الإسلام في حد ذاته دين علماني" تحول على يد فقهاء الظلام إلى "دين ودولة"...(عودوا إلى مقالات: "هل الإسلام دين ودولة؟" "هل الإسلام صالح لكل مكان وزمان؟" و"لماذا العلمانية هي الحل؟" ومقالات أخرى)... على هامش هذا النقاش دعونا نبدأ بتلك الشبهات الساذجة المطروحة أعلاه.. ولنبدأ بالعمالة.. ونظرية المؤامرة...لقد قامت العلمانية بالتمرد ضد الكنيسة وقضت على مظاهر التدين في المجتمعات الغربية حتى انتشر فيها الإلحاد والفسق والفجور وغيرها من الموبقات وها أنتم ترون مبلغ الفساد المستشري بين ظهرانيهم.. هؤلاء العلمانيون الكفرة بالله معجبون بالغرب الكافر المتفسخ ويريدون استنساخ تجربته في استحضار العلمانية لمواجهة الدين الإسلامي والقضاء عليه في قلوب الناس حتى يأتي على المسلمين زمن تصبح فيه الابنة قادرة، بحكم القانون، على إدخال "البويفرند" إلى غرفتها دون أن يملك ولي الأمر الجراة على الكلام أو الاعتراض...يا إلهي..إنهم بالطبع عملاء..لا بد أن يكونوا عملاء فهم يريدون تمكين الغرب الكافر من السيطرة على العالم..وفي مقدمته العالم الإسلامي الأبي وخير أمة أخرجت للناس.. من هذه الفقرة أعلاه يتضح أن الاتهامات والشبهات كلها تدخل في إطار نفس الدائرة.. فكرة التحول إلى العلمانية تجلب معها رأسا كل مفاسد الأخلاق...ومادامت كذلك فهي عمالة مفضوحة ومؤامرة كبرى ضد المسلمين والإسلام..وعليه فإن حل الإشكالية الرئيسة المتمثلة في أخلاق العلمانية وأخلاق الدين قد تحل بقية إشكالات العقدة...ولكي نفعل هذا الكلام سينفعنا كثيرا أن نؤصل لفكرة العلمانية وعلاقتها بالدين وكيف نشأت في الغرب، ومن نمر إلى الإجابة عن كل الشبهات المتشابكة أعلاه... هناك كتاب أعتقد أن كل قارئ لهذا المقال مدعو للبحث عنه وقراءته (ومن يقرأ بالإنجليزية فهو متوفر على شكل ب يدي إف بأجزاءه الثلاث).. الكتاب في ثلاثة أجزاء.. "عصر الثورة" و"عصر رأس المال" و"عصر الأيديولوجيا"..والكاتب هو "إيريك هوبزباوم".. من يقرأ هذا الكتاب سيكتشف أن وضع المجتمع الأوربي (وخصوصا البريطاني والفرنسي) خلال نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كان شبيها "جدا" بوضع مجتمعاتنا الراهنة في مقاربة الأخلاق والدين والقيم والهوية... وكأننا نسخة عنهم، مع فارق وحيد هو اسم الدين..رجال الدين عندهم تحالفوا طويلا مع الأنظمة الإقطاعية الشمولية لنشر الجهل وإلهاء الناس بأحاديث الآخرة ودفعهم عن الخوض في أحوال الدنيا، ونفس الشيء وقع عندنا على مر تاريخنا.. فقهاء البلاط أنتجوا دينا خالصا لوجه الحاكم وابتدعوا أحاديث وقصصا واحكاما وسيرا في سبيل الحلف المقدس مع الحاكم ضد الشعب..ومن قرأ حقا تاريخ الأديان من مصادره ليس كمن سمع عنه فقط وارتوى من "أحاديث مجده الأسطورية حصرا"... علاقتهم بالمرأة كانت نفسها علاقتنا بها اليوم.. مشكلتنا هي جسدها.. إلى حدود سنة 1920 كانت النساء في الولاياتالمتحدةالأمريكية بحكم القانون ممنوعات من السباحة في الاماكن العامة بملابس السباحة، بل كان هناك عدد سنتمترات معينة لا يجب أن ترتفع عنها التنورة فوق الركبة وإلا تعرضت المرأة للعقوبة.. كان من المستحيل على المسيحي في القرون الوسطى، قبل عصور التنوير أن يتوجهوا بأي نقد إلى الكنيسة أو رجال الكنيسة، كما لم يكن لأي عالم أن يصرح أو ينشر حقائق مخالفة لحقائق الكنيسة..ونفس الامر كان يفعله فقهاء الظلام الذين كفروا معظم العلماء المسلمين واسألوا بن قيم الجوزية وبن تيمية عن هذا الموضوع فلهما قاموس طويل عريض في تكفير علماء الفلك والطب والهندسة والكيمياء وغيرها ممن يتفاخر بهم الكثير من المتشدقين بنظرية "عندما كنا مسلمين كنا متطورين"...ولعل بضع نقرات على محرك البحث غوغل تمكنكم اليوم من الحصول على قائمة بأسماء العلماء الذين أهدرت دماءهم قولا (أ)و فعلا على أيدي الفقهاء وحلفاءهم الحكام..كان المجتمع المسيحي مجتمعا ذكوريا تنتشر فيه جرائم الشرف وتنتشر فيه النظرة الدونية إلى المراة الزانية (دونا عن الرجل الزاني الذي يقل نصيبه من الحقارة طبعا).. وكان الفقراء هم الأكثر تشبتا بالدين، وكان متعلمو الطبقة الوسطى ممن أخذوا بعادة المطالعة والتثقيف هم الأبعد عن الفكر الديني الاهوتي والأشد نقدا للكنيسة... كان لديهم مفهوم العرض والشرف حاضرا كما هو لدينا تماما.. وهما بالمناسبة مفهومان لا وجود لهما في القرآن بطوله وعرضه.. وهما من صناعة الثقافة الإنسانية المشتركة في نظرتها إلى المرأة، وهما مفهومان ذكوريان لا علاقة للدين بهما والدليل على ذلك أن الفتاة إن زنت أصاب ذلك أخاها في عرضه لأن شرفها من شرفه، ولكن إن زنى الشاب فلا عرض لأخته يضيع لأنه لا شرف له، مع العلم أن الدين الإسلامي مثلا يساوي بين الزاني والزانية في العقوبة والوضع الاعتباري...نفس الوضعية كانت عليها المجتمعات الاوربية قبل اندلاع عصور التنوير العلماني... كان مفهوم التدين كما هو عندنا تماما، كان الناس غير قادرين على التخلص من "الرغبات والشهوات وحب المصلحة والمال والنفوذ" وكانت المصالح تتكلم في إطار مجتمع ذكوري منغلق متزمت، يعلي من شأن العبادات ولا تهمه أخلاق المعاملات.. كانت الزنا لمن استطاع إليها سبيلا تمارس بكل شكل من الأشكال ولكن الناس لا يقبلون بالجهر بذلك ويعتبرون الجهر بها محاولة شريرة لنشر الرذيلة.. كان الفساد الإداري بكل تجلياته والبيروقراطية وعدم إعطاء قيمة للإنسان كإنسان متجليا في معاملاتهم وكان التدين نوعا من أنواع البحث الميئوس منه عن الآخرة تماما كما هو الامر عندنا اليوم (كما أوضحت في ثلاثية "التيار الديني، ذلك الوهم الكبير"..).. ما الذي حصل في أوربا حتى سادت العلمانية وتطور المجتمع الغربي شيئا فشيئا.. وهل قضت العلمانية على الاخلاق في أوربا أم جلبت لها التقدم الحضاري؟ وهل العلمانية فكر أوربي غربي كافر منحل أم هو ثمرة من ثمرات البشرية خلال تجربتها الطويلة فوق الأرض؟..وما سر تلك الجرائم التي ينسبونها للعلمانية؟... كل هذه الأسئلة نجيب عنها في الأجزاء القادمة...فهذه كانت مجرد توطئة لا بد منها... ملحوظة: نزولا عند رغبات بعض القراء..سأعمد إلى جعل المقالات أقصر حجما والتعويض عن ذلك من حيث عدد أجزاء السلسلة.. صفحة الكاتب على الفايسبوك