الساعة تشير الى الثانية صباحا بتوقيت أكرا، والتاريخ يعود إلى أوائل شهر غشت من سنة 2009. كانت أول مرة أقضي فيها رمضان خارج البلاد، أخبروني أن لي رخصة الصوم للمسافر، وأخبرتهم أني سأصوم رغم الحر الشديد، ورغم الرخصة الإلهية. في مطار "كوكوطو" بالعاصمة، نزلت أحمل في يدي حقيبة صغيرة بها بعض من الطعام المغربي الذي سأقتات عليه طوال العشر أيام التي سأقضيها بين العاصمة أكرا، وقرية أكسومبو. أخبرني الطبيب وهو يزرع حقنة التلقيح في ذراعي الإثنتين أنه علي الحذر من الخضر والفواكه، والماء، والهواء، في غانا، فاحتمال الإصابة ب"المالاريا" يبقى واردا رغم ما أخذته من تطعيم، وما ساتناوله يوميا من أدوية واقية، لذلك اخترت أن أحضر بعض الأطعمة معي. سلو، شباكية، خبز مجفف، حليب مجفف، وتمر... وضعتها كلها في حقيبة لحفظ الأطعمة، وحملتها بيدي، ووقفت أتابع شرطية الجمارك وهي تقلب حقيبة ملابسي الكبيرة تقليبا. كانت السيدة السمينة السوداء فظة وهي تسألني بالانجليزية أن أفتح الحقيبة، ففتحتها بهدوء وأنا أحاول ألا أنفعل، ثم سألتني عن الحقيبة بيدي وسألت: - ما هذه؟ - حقيبة طعام - ماذا بها؟ - طعامي...لأني سأصوم سكتت الشرطية، وتركتني أرحل... كان حظي العاثر أن أتيت إلى غانا في الوقت الذي صدر فيه تقرير يفيد أن مطارات المغرب وغانا أكثر المطارات التي تعرف محاولات تهريب للمخدرات، لذلك لم أندهش كثيرا وأنا أقرأ على حائط قاعة الوصول ما كتب على منشورات بها صور مختلفة..."لا تحاول فلن تفلت من ايدينا"، :فعلوها من قبلك وكان هذا عقابهم"، "السجن مصيرك إن فعلتها". في قاعة الوصول، وجدت السائق "جيزيس" ينتظرني، طلب مني أن نجلس بمقاعد المطار وننتظر حلول الساعة الخامسة صباحا لأنه ليس امنا السفر في كبد الليل بسبب قطاع الطرق. للحظة كنت سأسأله عن موعد الطائرة المغادرة الى المغرب، قبل ان استجمع شجاعتي، واسلم أمري لله، واسأل "جيزيس" أن يشاركني السحور. كان جيزيس مسيحيا في بلد المسيحية، فالوثنية، ثم الإسلام أكثر الديانات المنتشرة به. شاركني جيزيس طعامي، وكان يخبرني أن صومهم كمسيحيين أفارقة يختلف كثيرا عن صوم المسيحيين المشارقة، وعن صوم مسيحيي الغرب. حلت الساعة الخامسة، غادرت وجيزيس مطار كوطوطو، كانت الطريق الى قرية "أكوسومبو" التي ساقيم فيها لعشرة أيام مليئة بالمطبات، كنت أشعر بنفسي اركب حصانا وليس سيارة، بدا جيزيس هادئا، مبتسما وهو يقود سيارته البيضاء، ويحيي رجال الأمن الذين وقفوا في الطريق يتأبطون أسلحة رشاشة. وصلنا إلى الفندق بقرية اكسمبو، بدا كبيت في جنة الارض، كان يطل على اكبر نهر في غانا، وتحيط به اشجار غناء، كان الطقس دافئا، وأولى بشائر الصبح تتبدى، حين ولجت قاعة الاستقبال، بدا الموظف الشاب ثرثارا، وكل ما كنت أفكر فيه أن أتخلص منه بلطف وأذهب إلى غرفتي لأسرق بضع لحظات نوم، فساعتان فقط كل ما تبقى لانطلاق اجتماع المدربين الذي حضرت بسببه إلى غانا. حضرت الاجتماع الذي كان يقام في قاعة المؤتمرات الخشبية بالفندق، دخلت فالتفت زملائي في منظمة ديسكفري الامريكية يتعرفون على القادم، كنت اقابلهم لاول مرة، جلست حيثما وجدت اسمي مكتوبا امام مقعدي الفارغ، كان زملائي من الكاميرون، الكوت ديفوار، جنوب افريقيا، ناميبيا، الموزمبيق، غانا، وايضا البيرو، اضافة الى رئيسي في العمل وكان امريكيا من اصل مغربي. حان وقت استراحة القهوة، فاحضروا القهوة والحلوى، أكلوا ولم اقرب شيئا، حان وقت الغذاء فاحضروا الغذاء، اكلوا ولم اكل شيئا، حان وقت استراحة العشية اكلوا ولم اقرب شيئا، كانوا ينظرون الي مستغربين لماذا لا اقرب الطعام، كانوا جميعهم مسيحيين، حتى رئيسي المغربي الامريكي كان يشاركهم الاكل، حين اقتربت مني زميلة عرفت نفسها انها من غانا ثم قالت لي: - أنت صائمة؟ - نعم - أنا ايضا مسلمة لكني لم أصم نظرت اليها أتامل الوشاح الذي لفت فيه شعرها تغطيه، لم أرد سؤالها لماذا لم تصم لأني أعتبر الامر شأنا خاصا، لكنها ردت علي تقول: أنا أقطن في مكان بعيد من هذا المكان الذي نجتمع فيه، ولي رخصة المسافر لذلك لم أصم - أجبتها أني أخشى ان اتكاسل عن صوم العشر ايام التي سافطرها في غانا لذلك احاول صومها رغم رخصة المسافر، ابتسمت وتمنت لي التوفيق، لم أفهم سبب هذه الأمنية، لكن حين اقتربت الساعة الرابعة وبقي على موعد الاذان ساعتين شعرت بدوار شديد وكاد أن يغمى علي حين أنقذني زميلي المغربي بكأس ماء وهو يقول غاضبا مشيرا بأصبعه إلى رأسه: - شامة...الدين هنا...هنا...في العقل...لم يكن عليك ان تصومي انت لست في بيئتك حتى تصومي ومع ذلك اصريت في اليوم التالي ان أصوم، كنت احاول ان اقنع نفسي ان الاكل متوفر فلا سبب معقول لكي لا أصوم حتى لو كنت على سفر، غانا، او شاطئ الذهب كما تسمى، بلد غني بالخضر والفواكه والاسماك كغناها بالذهب والماس والنفط. لكني تراجعت عن تفاؤلي وانا اشارك زملائي مائدة الطعام، فرغم ما كان معروضا، لم يكن شيء يصلح للأكل، لا أحد سيقدر على أن يتذوق طبقا عبارة عن عجين وضع في بحر من الزيت المتبل، لكن هذا الطبق الذي لم يرقني جعل صديقي الكاميروني يقف ويرقص فرحا، وحين سألته عن السبب أجابني"إنها طريقتنا في شكر الله على نعمه". استسلمت في اليوم الثاني للإفطار، لكني لم استسلم للأكل على طريقة غانا، فاكتفيت بأحلى الأمرين، الأرز المتبل، والكوكاكولا. كانت شركة الكولا واحدة من رعاة منظمة قناة ديسكفري، فتبرعت للمدربين بصناديق من الكولا، فكان افطاري، وغذائي وعشائي في رمضان غانا، أرز، وكوكاكولا. رمضان في غانا جعلني أقف على كم التعايش الديني في هذا البلد. كنت في طريقي أنا وزميلي المغربي ذاهبين لزيارة شخص وصفه على أنه "حكيم قبيلة" رئيسها مسلم رغم أن المقيمين على أرضها فيهم الوثني والمسلم والمسيحي. في الطريق إليه، كان رجال الأمن يقفون متأبطين أسلحتهم يلقون علينا التحية وهم مبتسمين، وكان رجال الدين يمرون ببذلهم السوداء الطويلة ويحنون رؤوسهم لتحيتنا، حتى أهل القرية كانوا يلقون التحية بالانجليزية، كنا نبدو ببشرتنا البيضاء غرباء، لكن لم يضايقنا أحد. لمحت ما بدا لي مسجدا، كان صغيرا جدا وكأنه لعبة في قصة من القصص المتحركة، كان حائط المسجد مصبوغا بالابيض، ومئذنته بالاخضر، بدا الحائط متسخا عكس الكنيسة الناصعة البيضاء التي رأيتها في العاصمة أكرا، كنت أعبر عن امتعاضي لزميلي المغربي حين سمعت صوتا يؤذن...الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر....ثم صمت. هذا هو الاذان في قرية اكوسومبو بدولة غانا، يردد المؤذن سبع مرات كلمة الله اكبر ثم ينزل من محرابه. وصلنا الى حيث منزل حكيم القبيلة، كان رجلا خمسينيا، لا أزال أذكره بملامحه الطيبة، وابتسامته الهادئة، جلست صامتة وتركته يتحدث الى زميلي الذي قدم نفسه على انه قدم من امريكا، في وسط حديثهما التفت الي الحكيم وقال لي: - أنا لم اذهب يوما الى اوروبا ولا الى بلدك اسبانيا - إسبانيا؟ - الست من اسبانيا؟ من اي بلد في اوروبا انت اذن؟ - أنا لست اوروبية انا من المغرب - من المغرب؟ من المغرب؟ من المغرب؟ نظرت اليه وهو يردد كلمة المغرب بفرح كبير، أجبته مندهشة: - نعم انا من المغرب وصديقي ايضا من المغرب التفت الحكيم الى صديقي وسأله: -الست أمريكيا؟ - أنا أمريكي من أصل مغربي - من المغرب؟ هاهاهاهاها من المغرب نظرنا اليه مستفهمين ثم قال: - المغرب...ذاك البلد الجميل الرائع الذي يشارف على أوروبا كم اعشقه، هل أنت مسلمة؟ - نعم - أتعرفين؟ انا وثني الديانة، لكن في طقوس صلاتنا نتوضأ مثل المسلمين، أغسل يدي وذراعي وقدمي وأمسح رأسي بالماء كما يفعل المسلمون...أنا مثلكم. نظرت اليه مبتسمة، كنت اتامل براءة الأطفال التي قفزت من وجه الحكيم وهو يحدثني عن بلدي المغرب الذي يحبه، وعن ديانة يدين بها أهل المغرب، ويرى أنه يشبههم لأن الوضوء وهو الوثني يجمعه بالمسلمين، تأملته كثيرا وانا ادعو الا يعرف كيف غلا المسلمون في دينهم حتى نسوا روحهم وتمسكوا بما يستعرضون به عضلاتهم الدينية على المسلمين وغير المسلمين. *مستشارة في الاعلام والتدريب