- كيف سيكون إحساسك وأنت ترى أمك الغالية، التي ضحت كثيرا من أجلك، مشلولةً، كوَلِيدٍ صغيرٍ، طريحة سرير، في كوخ حقير، سنين عددا؟؟ - كيف سيكون إحساسك وأنت ترى ابنتك اليافعة المحبوبة، التي كان تملأ البيت دفئا وحنانا، تمرض فجأة وتبدأ رحلتك في جحيم دهاليز العلاج، وجيوبك فارغة، إلا من بطاقة الوطن السعيد، وبطاقة الرميد RAMED ، وأنت تتنقل من قرية نائية، إلى مدينة وأخرى، بحثا عن مؤسسات استشفائية، وابنتك.. فلذة كبدك، كزهرة ذابلة تحتضر.. تموت امام عينك حزنا وكمدا؟؟ - كيف سيكون إحساسك.. وأنت.. وأنت.. وأنت..؟؟ حينها ستُدرِكُ أن تقدم الصحة هو عنوان الديمقراطية الحقة، وستعرِفُ معنى الحكمة "الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى"، وستفهم عمق ألم الشاعر ابن الرومي: بُكاؤكما يُشفي وإن كان لا يُجدي ** فجودا فقد أودى نظيركما عندي ونحن نتفهم بكاء الأب الحنون ابن الرومي، بعد أن اختار الموت أعز أبنائه إلى قلبه، حدث ذلك في القرن التاسع الميلادي، نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، قرن ثورة التقدم الطبي بامتياز، لذا عندما أشاهد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، يبكي ويذرف الدموع، وهو يسرد معاناة الأشخاص المعاقين، معترفا بفشل حكومته في تدبير مشاكل الأشخاص في وضعية صعبة.. علما أن معظم المغاربة في وضعية صعبة، وبالتالي لن ننتهي من تراجيديا البكاء والمشاهد الدرامية، أتساءل: - هل ستُدبِر الحكومة المشاكل بالاعتراف والبكاء والرثاء؟؟ من وجهة نظري الحلول تبدأ بممارسة التفكير العقلاني، وإبداع الحلول للأزمات، سيما أزمة الصحة، القِطاع الأكثر ارتباطا بحياة وصحة وكرامة المواطنين.. حلول أزمات قطاع الصحة، تتطلب الإرادة الجدية، والمقاربة التشاركية، في مدلولها الحقيقي الواقعي، لا التشاركية الإشهارية الورقية التي تظل حبرا على ورق، مع التقاط صور تذكارية بابتسامات وردية. قطاع الصحة المغربي راكم تاريخيا مكتسبات إيجابية، لا يستطيع أحد التنكر لها، بفضل ثلة الشرفاء الغيورين من شغيلة الصحة، غير أنه يجر وراءه تاريخا مثقلا من التراكمات السلبية، تحولت إلى أعطاب مفصلية، جعلت الصحة المغربية لا تستجيب إلى حاجيات المواطنين. مؤخرا عقد وزير الصحة ندوة صحفية "لايت" بمقر وزارة الصحة، تعرض فيها لحصيلة المنجزات الصحية، والآفاق المستقبلية، مُشدِدا أنه لم يبدأ من الصفر، مُنوِها بعمل أسلافه على ٍرأس هرم الصحة المغربية (سبعة عشر وزيرا تعاقبوا على الصحة في المغرب)، معترفا بعدم رضاه عن منجزاته، وسياسة كرسي الاعتراف، ستكون هي المدخل لتقييم تدبير وزير الصحة للقطاع زهاء أربع سنوات، وليكون رأيي مُتَسِما بالموضوعية، ضمن ما يُعرفُ بالنقد البناء، الذي يبدأ بتوضيح مكامن القوة والنقط الإيجابية، وأيضا الكشف عن السلبيات والاختلالات.. -فما هي إيجابيات تدبير الوزير الحسين الوردي للشأن الصحي؟؟ بداية يُعتبر البروفيسور الوردي ابن دار الصحة العارف بجغرافيتها، مسالكها سراديبها وكواليسها وأسرارها وطابوهاتها، وأيضا كفاءاتها وأشباحها، الوردي كان يشغل عميد كلية الطب والصيدلة بالدارالبيضاء، وأستاذ التعليم العالي بنفس الكلية،أخصائي في التخدير والإنعاش وطب المستعجلات والكوارث، رئيس مصلحة الاستقبال بمستعجلات المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، رئيس لجنة الإشراف على المستعجلات بولاية الدارالبيضاء الكبرى، ورئيس اللجنة الوطنية لمعادلة الشواهد في علوم الصحة بوزارة التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي والكاتب العام للجمعية المغربية لطب المستعجلات والكوارث، ومدير التكوين في طب المستعجلات والكوارث، خبيرمعتمد لدى المنظمة العالمية للصحة في هذا المجال منذ 1998، وعضوا نشيطا في المؤتمر الدولي لعمداء كليات الطب الناطقة بالفرنسية.. وأعتذر عن الإطالة.. غير خفي مدى القيمة العلمية والمهنية والكفاءاتية، لتواجد الشخص المناسب في المكان المناسب، لمعرفته بالداء وتشخيص الدواء، والجميع يعرف أن المعضلة الكبرى في قطاع الصحة المغربي هو صعوبة الولوج إلى الخدمات الصحية، خصوصا لمحدودي الدخل والفئات المعوزة، ويُحسب للوردي معية فريقه، بداية وأبرزها "بداية تفعيل" نظام المساعدة الطبية، والتي حظيت بتغطية إعلامية ضخمة، واعتبرت "ثورة كبيرة" في الصحة المغربية، وسنواصل الحديث عن بقية الحكاية بروائحها.. لكن "الثورة المدوية" التي أنجزها الوردي هي تخفيض ثمن الأدوية، والتي أحدثت زلزالا في مصالح لوبيات منتجي وتجار الدواء، وصلت تداعياته إلى درجة الاعتداء على الوردي داخل قبة البرلمان من طرف بعض الصيادلة الذين سيسامحهم فيما بعد، لأسباب لا يعرفها إلا الوردي والراسخون في السياسة.. عمل آخر يُحسب للوردي في إطار "إنما الأعمال بالنيات" وهذا العمل يتعلق بإعفاء الوردي للكاتب العام لوزارة الصحة، وبعده إعفاء مدير الصيانة والتجهيزات، وغير خفي الاختلالات الكبرى التي عرفها القطاع الصحي، سواء مع الكاتب العام السابق، وأخطرها فضيحة صفقة اللقاحات، التي مازالت تُلاحق ياسمينة بادو وزيرة الصحة الاستقلالية، ولاداعي أن نَسرد فضائج صفقات الصيانة والتجهيزات، وأسطول الفساد الذي يتطلب الذكاء والتدرج لتجفيف منابعه، هذا إذا لم تكن المسألة تصفية حسابات سياسية. نقطة أخرى بدأت إيجابية، غير أن "ضغوط جاذبية" الواقع الصحي، أسقطتها إلى مجرد فعل لأخذ الصور، وهي الزيارة المكوكية للمؤسسات الاستشفائية، التي صدمت الوردي في بدايتها، حيث "اكتشف" أن مراكز صحية خاوية على عروشها، فارغة من التجهيزات، فحتى جهاز قياس الضغظ لا يتوافر في بعضها، لتتحول الزيارات فيما بعد إلى "بروتوكول وزاري" اجمل مافيه ابتسامة الوردي الدائمة، والمصاريف المُخصصة لهذه الزيارات، اللهم لا حسد.. وهذه النقطة، تجرني إلى "فاصلة" ينبغي فصل القول فيها، وهي تدخل الوردي "شخصيا" للتكفل بعلاج بعض الحالات، التي تبدو في ظاهرها "رحمة" وفي باطنها معضلات ومفارقات خطيرة، لأن المغاربة ينتظرون تفعيل الحقة في الصحة، لا تلميع الصورة الشخصية، عبر إظهار الشفقة تُجاة حالات معزولة، في حين أن طوابير المرضى تتألم وتُعاني الويلات في مُسلسل مريض اسمه: البحث عن العلاج.. أما ثورة حملة الكرامة، لتحرير المرضى النفسيين والعقليين من معتقل بويا عمر، فقد حظيت باستحسان كبير، رغم الخصاص الحاد في مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية، وكذا قلة الأطر المتخصصة في هذا المجال. سأكتفي بهذا القدر، وسأحاول تذكير السيد الوردي ببعض أعطاب القطاع الصحي، وهو أدرى مني بها، وهي أس وأساس إشكال الصحة في المغرب. - وهي أزمات بنيوية، مازالت الصحة المغربية تتخبط في معالجتها، انطلاقا من توزيع الخريطة الصحية، حيث تتمركز الخدمات الصحية في الرباطوالبيضاء، الخريطة الصحية لوحدها فضيحة كبرى، وأنجع حل لها التحفيزات المادية والإنصاف في الحركة الانتقالية، أيضا ضعف وأحيانا انعدام المراكز الصحية في المغرب العميق، الذي يعاني هشاشة البنيات التحتية بدءا من غياب الطرق المعبدة، وعزلة المغرب المهمش في أحضان المسالك الجغرافية القاسية، وحمل المرضى والنساء الحوامل على أنعاش الموتي وكارثة موت النساء الحوامل والمواليد بوثيرة متتابعة.. -الميزانية الهزيلة المخصصة لصحة المغاربة، %،5 والتي تعكس نظرة الدولة الحقيقية لمواطنيها، فكيف يمكن للكفاءات من مهنيي الصحة أن يقوموا بأبحاث علمية، للرفع من جودة الخدمات الصحية، وضمنيا التكوين الجيد لشغيلة وطلبة الصحة، ولِم لا الحصول على جائزة نوبل في الطب، مع ميزانية ضعيفة، أشبه بحصان هزيل نُجلده أكثر مما نطعمه..، فالمغرب يتوفر على كفاءات لا تتوفر على الإمكانات، والجانب الاقتصادي هو العمود الفقري لأي إصلاح أو تنمية. - نظام المساعدة الطبية محكوم عليه بالهشاشة، وهذه نظرة واقعية علمية، لا سوداوية تشاؤمية، والسيد الوزير يعلم التفاصيل، والحقيقة توجد في التفاصيل، وبالتالي فبطاقة الرميد أشبه ببطاقة شباك أتوماتيكي يتطلب استخدامها وجود رصيد "محدد في الأدنى" ومع كثرة الطلب على الصحة، وإشكالات العرض الصحي: نقص في الموارد البشرية، نقص في التخصصات، ضعف التجهيزات... فضلا عن الفضائح التي صاحبت وماتزال تصاحب تسليم البطائق، واستفادة ميسورين، وحرمان معوزين..، وبالتالي فإن مصير نظام المساعدة الطبية سيلتحق بمتحف "شهادة الضعف" التي كانت تقوم بوظيفة بطاقة الرميد سابقا.. - التساهل مع المفسدين في قطاع الصحة، وعدم تحفيز الشرفاء، سيما الأشباح النافذين، الذين قد تَقوم الزوارة بتوقيفهم، مع قرار توبيخي، او إنذاري، وسرعان ما يتحول التوبيخ إلى استفسار، والتوقيف إلى "تنقيل امتيازي" لا تأديبي، إلى مستشفى بمدينة، لا أدري هل يعلم السيد الوزير أن طابورا من شغيلة الصحة يشاركون سنويا في الحركة الانتقالية للظفر بها بعد سنوات من الأقدمية.. - دق آخر مسمار في مجانية صحة المغرب، من خلال أسطورة فتح رأسمال المصحات الخاصة، لأن الصحة ستتحول إلى سوق تجاري بوضوح، في حين أن الوزير التقدمي الوردي كان عليه إن يدافع عن المؤسسة الصحية العمومية. - خصوم الوردي يدعون أنه يتخذ قرارات انفرادية، ولا يؤمن بالمقاربة التشاركية، إلا من باب الدعاية السياسية، ويقدمون العديد من الحجج والأدلة، عدم إشراكهم في الإعداد القبلي لتوصيات المناظرة الوطنية الثانية للصحة، جل النقابات، الأطباء، الممرضين.. غاضبون من الوردي، لأنه في نظرهم لا يستمع إلا لصوت نفسه، ولا يشركهم في صناعة القرار.. - الممرضون هم عصب قطاع الصحة، لذلك يجب إنصافهم، وفتح المزيد من التخصصات التمريضية، وتفعيل دور الممرضين المراقبين للمواد الغذائية والمطاعم والمقاهي، لحماية حياة المغاربة من التسمم وحجز المواد المنتهية الصىلاحية، والتي خلقت أثرياء جدد من المرتزقة على حساب صحية وحياة المواطنين، كذلك إبداع مناصب جديدة مثل ممرض بالقطاارات.. نحتاج إلى الإبداع من أجل هذا الشعب الكريم الصبور المُسالم.. - تدريب خاص لحراس الأمن الخاص، إذ أن معظمهم يُعنٍفون المواطنين والمرضى، والمريض يجتاج إلى معاملة خاصة.. - في النهاية سأذكر الوزير أن المغاربة فِعلا يتجرعون المعاناة، بكل ألوانها في "الصحة"، ولولا الشرفاء من مهنيي الصحة، الذين هم بمثابة باقة من الأزهار في "غابة الصحة" لاستفحل نزيف "أشواك" الصحة المغربية، لكن "باقة أزهار" لا تستطيع صناعة فصل الربيع في الصحة المغربية.. لهذا النزيف أنا أشعر بالحزن الحقيقي.. أشعر بالحزن للمرضى الذين يموتون قبل بلوع موعد التشخيص في سنة 2016، وأبكي مأساة المرضى النفسيين وأفواج المجانين، الذين يقتاتون من حاويات النفايات.. ولا أتناقض مع نفسي إذا رددت مع ابن الرومي: بُكاؤكما يُشفي وإن كان لا يُجدي ** فجودا فقد أودى نظيركما عندي