لعل أكبر عملية احتيال يتعرض لها الطفل المغربي منذ ولوجه أبواب المدرسة وحتى نيله شهادة البكالوريا هو ما يدرسه في كتب التاريخ والمنجزات العظيمة التي لا يحدها سقف ،وخصوصا التاريخ الاسلامي في الشرق أو المغرب،و الذي نقدمه له منمقا مزينا ومشحونا بالعواطف والنقاء المطلق ، وبطريقة انتقائية تختار المبهر وتخفي المحبط ،وهكذا وعوض أن يتعلم التلميذ المغربي أن التاريخ الاسلامي هو تاريخ بشر يخطئون ويصيبون فإن مناهجنا سواء في مادة الاجتماعيات أو التربية الأسلامية أو النصوص القرائية تكاد ترفع حكام العرب منذ فجر الاسلام الى مصاف الملائكة دون أن تنتبه الى الشعوب وتفاعلاتها ،وبدل ان نقدم لتلاميذنا التاريخ بحسناته وسيئاته وبمنطق علمي وأسلوب رصين تبدو كتب التاريخ أقرب لمنشورات الوعظ والارشاد ،وهذا ما يفسر تلك الصدمات الفكرية العنيفة التي يتعرض لها طلابنا في الجامعات حينما يصطدمون بحقائق فاقعة عن تاريخهم المغربي وتاريخ أمتهم الاسلامية حيث تدفعهم للتطرف الأعمى في ردة ثقافية مفاجئة . لا يعرف التلاميذ مثلا وهم يخطون أدراج البلوغ ان ثلاثة من الخلفاء الراشدين قتلوا من أصل أربعة ،ولا الطريقة التي حصل بها بنو أمية على الحكم والتي لم تكن في عمقها البسيط سوى تجدد نزاع قديم بينهم وبين ال المطلب حول الزعامة الاقتصادية والريادة السياسية استطاع من خلاله معاوية اقتناص الحكم بدهاء ،ولا عن أنهار الدماء التي سالت لتثبيت حكم الأمويين بالوراثة لتكون بداية لتثبيت جرثومة المذهبية المقيتة ،والتي لم تتوقف عن التوالد والتكاثر حتى اليوم ،ولا عن الطريقة التي خاطب بها الحجاج أم عبد الله بن الزبير ذات النطاقين بعد أن قمع ثورة ابنها ،ولا الصراعات التي استطاع بها ال العباس استرجاع الخلافة حتى سمي خليفتهم الأول أبي العباس بالسفاح ،وكيف تخلص المنصور خلفه والأكثر دموية منه من العلويين ابناء الحسن والحسين ، ولا الانقلاب الذي حصل في بلاط هارون الرشيد بحلول العنصر الفارسي محل العربي رغم برمكة رؤوسه ،وكيف تمكنوا من السيطرة على شؤون الخلافة مع تنازع الأمين والمأمون على الخلافة ليبدأ مسلسل الانحدار العربي،ولو عرف الطلاب هذا التاريخ الخالي من التزويق والتجميل والذي يخاطب عقولهم قبل مشاعرهم ويدفعهم للتفكير الموضوعي لاكتسبوا مناعة حقيقية ضد رياح الشرق المذهبية بمختلف تلاوينها ،ولما فكروا في أن يعيدوا بعث الخلافة والتي لم تكن كلها تسيل عسلا كما يصور ذلك مشايخ الفضائيات ،بل وفي غالب الأوقات تقطر دما وتجري أنهارا حمراء ،فقليل من صدمة التاريخ هو بمثابة تلقيح ضد أمراض الغلو والتطرف فيما بعد ،ولا أدري لماذا لا يتم التركيز في مقرراتنا الدراسية على دراسة ومقارنة ما حدث في الأندلس مع الحكم العباسي في الشرق، فجدير بتلاميذتنا أن يعرفوا أبعاده الحضارية العميقة ،لا أن ينظروا اليه مجرد توالي حكام وأعمال سياسية وحربية ،فهذا التاريخ زاخر بنهضة فكرية واقتصادية لو قدر لها أن تستمر لأخذ التاريخ مجرى آخر ،لولا أن أعمال ابن رشد أثارت مخيلة الغرب وحركت نهضته ،ولم تثر في وقتها شهية أبي يعقوب يوسف وخلفه ابنه يوسف المنصور الموحدي ،أما الحركة العسكرية التي قام بها يوسف بن تاشفين هناك للتعامل مع ملوك الطوائف وتوحيدهم فيما بعد في عملية عسكرية خاطفة فلا زالت تدرس في أعرق الكليات الحربية العالمية حتى إن مصادر تاريخية تشير الى أن بسمارك استلهم فكرة توحيد مقاطعات ألمانيا بالشكل الذي تمت به من الأمير المرابطي . إن التاريخ الذي ندسه للتلاميذ حول تاريخ المغرب يكاد يكون مشوها،ويبدأ بالتحامل على فترة ما قبل الإسلام ،وهكذا نغرس في اطفالنا منذ البداية نزعة الكراهية ولو من دون قصد ،ولو دققنا النظر لوجدنا أن على المغاربة أن يفتخروا بتاريخهم القديم الذي صنعوه مقاومة وعزة نفس مع كل الغازين رومانا كانوا أو وندالا أو عربا قبل أن يقع ذلك التمازج الكثيف بين العنصر البربري والعربي مع اعتناق دين الاسلام والذي وجدت تعاليمه هوى وقبولا في نفوسهم الممجة للقهر والظلم، وهذا ما يفسر احتضانهم للخوارج الفارين من بني أمية ،ولتنصيبهم إدريس الأول ملكا لما أتى هاربا من سيف العباسيين ، عكس ما توحي به الكتب المدرسية الحالية من كون المغاربة حينها كانوا مجموعات من السذج الذين يصدقون كل شيء والمستعدين لقبول أي شيء ،وعوض أن نظهر هذا الجانب الواقعي يخرج بعض اشباه المثقفين ليتساءلوا عن حقيقة نسب المولى ادريس الثاني ومحاولة تفتيت الأسس التي خلقت الشخصية المغربية ومنحتها إسمنت التفرد من أجل أحلام طوباوية تعشعش بخبث في أذهان مروجيها . ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون عادة قبل أن يصبح أداة للتطويع والتمجيد كما حدث بعد الاستقلال ،فإن التاريخ المغربي منذ الادارسة والمرابطين مرورا بالموحدين والمرينيين وأبناء عمومتهم الوطاسيين وصولا الى السعديين والعلويين يحتاج غربلة دقيقة لتخليصه من امراض التاريخ المزمنة التي رافقت كل الوثائق والمخطوطات التي كتبت وقتها ،وذلك بمقارنتها لكشف مواطن الكذب والغلو واجتهادات المدونين حينها للكشف عن الكثير من المخبئات بين الأسطر لتقديم تاريخ أكثر مطابقة للواقع ،وخصوصا التاريخ القريب نسبيا والذي تتقاطع بعض رواياته مع ما هو موجود في الأرشيف الأروبي المعاصر أو في مذكرات الرحالة والقناصلة والمبعوثين الأروبيين بالمغرب والذي سجلوا بعمق كبير احوال الرعية الاجتماعية والاقتصادية ولم يهتموا كثيرا بالراعي . وبين ما كتبه مؤرخو السلطان وما سطرته كل بيئة معارضة في الداخل أو الخارج يمكن أن نصحح تاريخنا ولو لغير مصلحة الحاكم حينها ،ونسد بعض الثلم التي تظهر في الروايات المتناقضة أحيانا لنفس الحدث ،خصوصا مع الافراج عن الأرشيف الفرنسي لفترة الاستعمار وما تلاها ،وانحلال عقدة لسان كثير ممن جايلوا تلك المرحلة وأسهموا في صناعة بعض تناقضاتها ،وإن تاريخا نقديا أفضل لتطور بلادنا وتحصين شبابه من مظاهر التطرف لو تعلمون ،وحينما سيصبح التاريخ الذي ندرسه لأبنائنا هو التاريخ الاجتماعي والسياسي لمجتمع المؤمنين في حقبة معينة بسعاداتهم وتعاساتهم ونجاحاتهم واخفاقاتهم وليس التركيز على تاريخ أمير المؤمنين لتلك الفترة وحده ،سنكون دخلنا كوكبة الشعوب الذكية التي لا تكرر تاريخها بل تتجاوزه بثقة للأحسن وبمساهمة كل أبنائه وبناته .