إن التاريخ، الذي دونه المؤرخون التابعون لبلاط سلاطين وملوك ورؤساء دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي يدرس حصريا في مدارس هذه الدول، يؤرخ لوجهة نظر الأقلية الحاكمة فقط. وبسبب ابتعاد أو على الأصح إبعاد المدونين عن القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لعامة الناس، فإنهم لا يعيرون أي اهتمام للشعوب في مؤلفاتهم. ولهذا، فإن دروس التاريخ التي تلقن للمحظوظين من المواطنات والمواطنين، الذين تمكنوا من ولوج المدرسة، لا تتناول تاريخ الشعوب، وإنما تقتصر على القضايا التي تمجد وتخلد أعمال أولياء النعمة، حتى لو تطلب الأمر من المؤرخين تزييف الحقائق وإخفاء المفيد من الأحداث. إن التاريخ الرسمي للمغرب، الذي لم يعترف به حتى الراحل عبد الهادي بوطالب، أحد مؤرخي المملكة ومستشاري الملك الحسن الثاني، حين صرح في شهادته لهيأة الإنصاف والمصالحة بأن “تاريخ المغرب لم يكتب إلى حد الآن” ؛ يؤرخ للمغرب، كدولة وشعب، ابتداء من تأسيس أول دولة إسلامية مغربية على يد إدريس الأول الذي فر من بطش العباسيين بعشيرته، ولجأ إلى شعب الأمازيغ بالمغرب الأقصى، حيث احتضنته قبيلة آيت أوريبل (أوربة) ووفرت له الشروط اللازمة لتأسيس دولة إسلامية خارج نفوذ الخلافة العباسية، تمددت حدودها أحيانا وتقلصت أحيانا أخرى حسب العصور، بل وانقسمت إلى إمارات أكثر من مرة عندما أصيبت النخب الحاكمة بالضعف والوهن، لكنها حافظت على كيانها ووحدتها إلى يومنا هذا. ولم يخضع المغرب أبدا لسلطة الخلافة الإسلامية منذ تمركزها بالشرق ولا عندما انتقلت لاحقا إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية. أما قبل ذلك، وحسب هذا التاريخ، فقد كان البلد متخلفا يسكنه أناس متوحشون، غير متحضرين، ويعبدون الأوثان. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يصف مؤرخو المملكة المغربية الملك الأمازيغي أكسل (كسيلة)، الذي كان يحكم المغرب في زمن الغزوات التي كان الأمويون يقودونها ضد شعوب شمال إفريقيا والأندلس، بالسفاح الجاهل الذي قتل المجاهد عقبة بن نافع ومجموعة كبيرة من الصحابة المرافقين له ! كما يعتبرون الملكة دهيا، أو ديهيا، مجرد كاهنة تعبد النار وتستعمل السحر والشعوذة لمواجهة جيوش المجاهدين المسلمين. أما الحقيقة حول هاتين الشخصيتين التاريخيتين، حسب ما رواه بعض المؤرخين الموثوق بهم، كالعلامة ابن خلدون، فإن أكسل قتل عقبة ومن معه بسبب إصرار هذا الأخير على إذلال وإخضاع الأمازيغ الذين اعتنقوا الإسلام كدين ولم يقبلوا الخضوع لحكم الخلافة الأموية، أي لسلطة أجنبية متمركزة في دمشق، انحرف قادتها عن نشر الدعوة الإسلامية، وركزوا اهتمامهم على توسيع نفوذهم السياسي وجلب الغنائم لأهاليهم ؛ وقد رفض الأمازيغ الخضوع لتلك السلطة الاستبدادية حتى لاحقا بعد أن ولوا عليهم طواعية أشخاصا قدموا من الشرق. وفيما يخص الكاهنة فقد كانت ملكة متحضرة، بايعها الأمازيغ بالإجماع بعد مقتل أكسل، ودافعت على وطنها بشجاعة قل نظيرها، ولم تخذل شعبها حتى وافتها المنية في ساحة القتال. والجدير بالملاحظة هنا أن مبايعة القبائل الأمازيغية لأشخاص غرباء عن عشائرهم كانت تتم بسبب انتساب هؤلاء الوافدين لسلالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حسب أقوالهم. ولم يحدث أبدا أن تمت البيعة بسبب التفوق العرقي أو العسكري أو الحضاري كما يراد لنا أن نفهم من دروس الأقلية الحاكمة. بل يمكن الجزم بأن أجدادنا الأمازيغ، الذين ” أعز الله بهم الإسلام ” كما ورد على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ركزوا اهتمامهم على الحفاظ وتطوير فنونهم عامة، قصد تمييز هويتهم عن باقي هويات الشعوب الإسلامية الأخرى، والفن المعماري خاصة، لبناء مساجدهم في دول شمال إفريقيا والأندلس بطرق مختلفة عن الفن المعماري بدول الشرق. وهذا درس لابد لكل مغربي أصيل أن يستخلص منه الرسالة التي أراد أجدادنا أن يبعثوا بها عبر التاريخ، وكأنهم كانوا متيقنين بأنه سياتي زمن يُبعث في شعوبهم أقوام يتنكرون لهويتهم الأمازيغية ويدافعون عن عروبة حضارتهم الإسلامية-الأمازيغية لأسباب مادية محضة أو سياسية نفعية، كما نلاحظ في عصرنا هذا، حيث يُراد لنا أن نؤمن بأن العرب الوافدين من الشرق الأوسط هم من شيدوا مدنا عريقة كفاس ومراكش والرباط وتطوان والشاون ومكناس وقرطبة وغرناطة و…، وهم من جلبوا معالم الحضارة التي سادت منذ قرون في دول شمال إفريقيا والأندلس ! أما بالنسبة للعهد الحديث، فلا تُدرّس الأسباب الحقيقية التي أدت إلى استعمار المغرب عند بداية القرن الماضي، ولا تاريخ البطولات التي ضحى فيها آلاف المغاربة الأحرار بحياتهم دفاعا على استقلال بلدهم، ورفضا منهم للذل والعار الذي جلبه ما يسمى بعهد الحماية، حماية النخبة الحاكمة، والذي كان عهدا للاستعمار الفعلي بالنسبة للشعب المغربي، ولا الاتفاقية الحقيقية التي أبرمت بين القصر وفرنسا، والتي بموجبها مُنح المغرب استقلاله الشكلي والجزئي، وسُلمت مراكز السلطة الحساسة لعملاء الاستعمار… فكم من الوقت يخصص لدراسة مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني في المقررات الدراسية بالمدرسة المغربية ؟ وهل تتناول هذه المقررات مقاومة سكان الريف الكبير والأطلس والصحراء للاحتلال الأجنبي بشكل موضوعي ؟ وهل يوجد توازن في الوقت المخصص “لإنجازات” السلاطين والملوك من جهة، والوقت المخصص من جهة أخرى لما قام به الشعب المغربي عبر العصور للمساهمة الفعالة في بناء الحضارة الإنسانية ؟ هذه بعض الأسئلة التي لا تحتاج إلا للمنطق السليم للجواب عليها، والوقوف عند الانحياز التام لمؤرخي المملكة إلى تاريخ النخبة الحاكمة، على حساب التاريخ الحقيقي الذي يصنعه الشعب بدمه وعرق جبينه وليس الحاكم، والذي لم يدون بعد في المراجع الرسمية. في عصر الانفتاح الذي أصبح يميز العالم منذ سقوط جدار برلين، وبفضل الإمكانيات الضخمة التي توفرها تكنولوجيات الإعلام والتواصل للوصول إلى المعرفة المتنوعة، تمكن عدد كبير من المواطنات والمواطنين من الحصول على حقائق مختلفة تماما عن الروايات التي تلقوها في المدرسة. وهكذا، تبين جليا لكل من كلف نفسه قليلا من العناء للبحث في ما يكتب خارج الروايات الرسمية، وما تزخر به أرشيفات بعض الدول الأجنبية من معطيات حول بلدنا، بأن التاريخ الذي يدرس في المدارس المغربية يهدف أساسا إلى طمس الهوية الحقيقية للشعب المغربي، المتمثلة في الهوية الأمازيغية بأبعادها المتنوعة، وإلى تبخيس المواقف البطولية التي سجلتها عدة قبائل خارج إرادة المخزن إبان مقاومة الاستعمار. ولهذا، فما يتم تلقينه لأطفالنا وشبابنا حول تاريخ المغرب وحضارته لا يعكس صورة ما توصل إليه البحث الأكاديمي المهتم بالموضوع، ويجعل منهم في نهاية المطاف أشخاصا فاقدين لهويتهم الأصلية، ومتشبثين بهوية العروبة التي فرضها قادة حزب الاستقلال لأسباب سياسوية حقيرة. ومن ينكر هذه الحقيقة، فعليه أن يرجع لكتب التاريخ حتى يتحقق من هوية شعوب شمال إفريقيا عند الشرقيين أنفسهم قبل ظهور ما يعرف بإيديولوجية القومية العربية التي لم تستطع أن تكون كيانا متجانسا إلى حد الآن رغم ما أهدر من مال وفير ومن جهد كبير في جامعة الدول العربية، التي لم تتمكن هي الأخرى من توحيد الدول التي تنتمي إليها ولا من اتخاذ قرار واحد يحفظ كرامتها بعد مرور أكثر من ستين عاما على تأسيسها. وربما يرجع السبب في هذا إلى عقلية الحكام المستبدين الذين تحكمهم النزعة القبلية التي سادت المجتمع القبلي العربي قبل مجيئ الإسلام، والذين لا يخجلون من تقتيل شعوبهم بأعتى الأسلحة الحربية للحفاظ على نفوذهم ولنهب ثروات بلدانهم. إن المصالحة مع النظام بصفة عامة، ومع العمل السياسي بصفة خاصة، تتطلب مصالحة الشعب مع تاريخه. وهذه المصالحة تقتضي إعادة كتابة التاريخ الرسمي بعيدا عن الهاجس الإيديولوجي الذي يطغى عليه، وأن يكف واضعو المقررات الدراسية في مادة التاريخ عن التركيز على تاريخ القصور، أي تاريخ السلاطين والملوك، وأن يركزوا عوض ذلك على تاريخ الشعب. إذا تحقق هذا مستقبلا، فإن دروس التاريخ ستضمن تكوين مواطن يعتز بتاريخ أجداده أولا، ويقبل أن يتعايش مع غيره ويحترم باقي مكونات الشعب ثانيا، اقتداء بسيرة أجداده الذين اتسع صدرهم لكل الهويات التي تعايشت فوق أرضهم، أقلية كانت أم أكثرية. وسيبتعد المواطنات والمواطنون تلقائيا من التيارات الأصولية المتطرفة التي تريد أن تقضي على كل ما له علاقة بالعروبة في بلاد الأمازيغ، أو التي تسعى إلى تعريب شعوب شمال إفريقيا انطلاقا من إيديولوجيا لم تفلح في توحيد حتى العرب أنفسهم أو من تفسير خاطئ للإسلام، لأن اللغة العربية لا تتحمل تطرف إيديولوجية القومية العربية التي أرادت أن تجعل من كل بلد، اتخذ اللغة العربية لغة رسمية له، بلدا عربيا. فلو كانت اللغة هي التي تحدد هوية الشعوب، لكان كثير من الدول الإفريقية فرنسية، وأخرى بأمريكا إسبانية أو انجليزية…ولو كان الإسلام يفرض على معتنقيه استعمال اللغة التي نزل بها القرآن لكان عدد المسلمين في الوقت الحالي لا يتعدى بعض الملايين، أي النخبة التي تمكنت من دراسة اللغة العربية. وخلاصة القول، إن السواد الأعظم من أفراد شعوب شمال إفريقيا هم أمازيغيون بحضارتهم المتميزة بعاداتهم وأعرافهم وفنونهم المعمارية والشعبية المتنوعة والضاربة في جذور التاريخ، مهما تكون اللغة التي يتحدثون بها في الوقت الراهن. أما اللغة، أية لغة كانت، فإنها لا تمثل إلا مكونا من مكونات الحضارة، تتطور وتتغير مع مرور الزمن، وتولد منها لهجات كثيرة كما هو الحال بالنسبة للغتين العربية والأمازيغية على حد سواء. واعتبارا لهذه الحقيقة الساطعة، وجب على المسؤولين الكف عن اعتبار دول شمال إفريقيا دولا تنتمي إلى حضيرة الدول العربية.