أجمع المؤرخون على أن الملك المغربي يعقوب المنصور رفض الاستجابة لاستنجاد صلاح الدين الأيوبي به ضد الصليبيين، ويقول الباحث والمحقق المغربي ''عبد القادر الصحراوي'' أن المؤرخين أجمعوا على أن السبب في رفض المنصور راجع إلى كون صلاح الدين خاطبه في رسالة الاستنجاد ب''أمير المسلمين'' بدل ''أمير المؤمنين''. ويضيف الصحراوي، في مجلة دعوة الحق التي نشرت التحقيق في ست حلقات سنة ,1957 أن لا أحد من المؤرخين حاول تفسير موقف المنصور بمن فيهم ابن خلدون وعبد الواحد المراكشي. كما يؤكد أن الإضافة الاستدراكية التي تفيد إرسال المنصور لأسطول بحري بعد ذلك لصلاح الدين غير مؤكدة. لتبق الأسئلة المثيرة التي يحاول الصحراوي الإجابة عليها هي: كيف يمكن فهم موقف المنصور الرافض لنجدة المسلمين ضد الصليبيين فقط لأنه لم يخاطب ب ''أمير المؤمنين'' وخوطب بذلها ب''أمير المسلمين''؟ ما الفرق بين لقبي ''أمير المؤمنين'' و''أمير المسلمين''؟ هل يتعلق الأمر بمجرد ألقاب، أو وبروتوكول أو تشريفات؟ وما دلالتهما السياسية والدينية؟ سياق النقاش الحالي حول التعديلات الدستورية، والتي من المفروض أن تكون مأسسة ''إمارة المومنين'' في قلبها، يعطي لهذا التحقيق التاريخي قيمته العلمية والتاريخية. و ارتأينا في ''التجديد'' أن نورده بنصه كما جاء في مجلة ''دعوة الحق''، مع وضع عناوين جديدة واختصاره بحذف فقرات منه دون المس بجوهره المتعلق ب''إمارة المومنين'' باستعراض الملابسات السياسية والتاريخية وحتى النفسية التي تفسر رفض المنصور طلب نجدة المسلمين ضد الصليبيين، كما أوردها المحقق في الأعداد الستة الأولى من مجلة ''دعوة الحق'' سنة 1957 تحت عنوان '' صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور''، رغم أن الأمر يتعلق بحروب صليبية. الروايات التاريخية تؤكد الرفض لقد مر بنا جميعا في قراءاتنا التاريخية، عن الحروب الصليبية، أو عن عصر صلاح الدين الأيوبي بالذات، أو عن حياة الملك المغربي الموحدي، يعقوب المنصور، أن صلاح الدين الأيوبي في غمرة الحروب الصليبية، وعندما كان محاصرا للإفرنج الذين كانوا محاصرين للمسلمين في عكا، فكر في أن يستنجد بالملك المغربي يعقوب المنصور، وأنه بعث إليه بالفعل وفدا يطلب منه أن يمده ببعض قطع أسطوله البحري، حيث كان للمنصور أسطول بحري هائل، على حين كان المسلمون عموما في الشرق يشكون من ضعف قوتهم البحرية، الأمر الذي لم يكونوا يستطيعون معه أن يقفوا في وجه هذا الزحف البحري الهائل، المتوالي على الشرق الإسلامي من فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية. ومر بنا أيضا في قراءاتنا التاريخية أن الملك المغربي يعقوب المنصور، لم يستجب لرغبة صلاح الدين، ولم يبعث إليه أسطولا، ولم يحرك من أجله ولا من أجل المسلمين جميعا في الشرق ساكنا، وذلك لسبب واحد اتفق عليه جميع المؤرخين الذين أوردوا قصة هذا الاستنجاد، ذلك السبب هو أن صلاح الدين لم يخاطب يعقوب المنصور بلقب: أمير المؤمنين. لم يرد ذكر لقصة هذا الاستنجاد في كتاب المعجب لعبد الواحد المراكشي الذي كان معاصرا لدولة الموحدين، وإنما ورد ذكرها في هامش الطبعة الأخيرة منه، طبعة مصر عام ,1949 وقد ورد في هذا الهامش ما نصه: ؛قال أهل التاريخ: وفي بعض هذه الحملات أحس صلاح الدين الأيوبي صاحب عرش مصر والشام بحاجته إلى معونة المسلمين في المشرق والمغرب على رد عادية الصليبيين على بلاده، فأرسل الرسل والكتب إلى أمراء المسلمين هنا وهناك، وكان فيمن أرسل إليه صاحب عرش المغرب والأندلس من أمراء الموحدين -يعني يعقوب المنصور- وسماه فيما كتب إليه أمير المسلمين، قالوا: فغضب ملك مراكش إذ لم يسمه صلاح الدين، أمير المؤمنين، ولم يستجب لندائه'' وجاء بعد عبد الواحد المراكشي مؤرخ مغربي آخر، هو ابن خلدون، الذي أورد القصة وإن كان لم يعللها، فقال في معرض الحديث عن الرسول الذي أرسله صلاح الدين إلى يعقوب المنصور، قال: "وبعثه إلى المنصور بهدية، ووصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس، فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة، فاعتذر له عن الأسطول" ثم جاء صاحب الاستقصا، فأورد القصة بتعليلها التاريخي المعروف، فقال: ''ولما وقف عليه المنصور -أي لما وقف المنصور على كتاب صلاح الدين- ورأى تجافيهم فيه عن خطابه بأمير المؤمنين، لم يعجبه ذلك، وأسرها في نفسه، وحمل الرسول على مناهج البر والكرامة، ورده إلى مرسله، ولم يجبه إلى حاجته؛. ثم ننتقل من المؤرخين المغاربة إلى غيرهم، فنجد أن المؤرخين الذين أوردوا هذه الحادثة إلا قليلا منهم، أوردوها تقريبا بنفس الأسلوب الذي وردت به في كتب المؤرخين المغاربة، من غير محاولة لتحقيقها، أو للبحث عن أسباب أكثر معقولية، لتقاعس المنصور في موطن لم يكن يظن فيه من مثله أن يقف مثل هذا الموقف السلبي، وفي حرب كهذه، سواء اعتبرناها حربا دينية، كما يوحى بذلك اسمها، وكما عرفت بذلك في التاريخ، أو حربا عدوانية توسعية استعمارية كما قد يبدو لنا بعد حين. حتى المؤرخون المحدثون، المنهجيون، لم يزيدوا شيئا على ما ورد في الكتب القديمة. على أن هنالك زيادة... تفيد أن يعقوب المنصور، عاد بعد ذلك فجهز قطعا من الأسطول لإنجاد صلاح الدين، أو لاعتراض طريق الغزاة الأوربيين في البحر الأبيض المتوسط للحيلولة بينهم وبين الوصول إلى مصر أو سورية أو فلسطين. أورد هذه الزيارة ابن خلدون وصاحب الاستقصا بنص واحد، هو قولهما معا بالحرف: ''ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله أعلم''. ...ومهما يكن، فإنني في حدود قراءاتي التاريخية الخاصة، لم أستطع أن أتأكد من صحة هذه الزيادة، أعني من صحة أن يعقوب المنصور عاد بعد ذلك فجهز أسطولا لإنجاد العرب والمسلمين في الشرق... أما الذي بين أيدينا حتى الآن، والذي لا سبيل إلى الشك فيه، فهو أن صلاح الدين استنجد بيعقوب المنصور، فلم ينجده، لأنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين. على أن هنالك كاتبا مغربيا آخر، وفق إلى أن يفتح في هذا الباب فتحا جديدا، ذلك هو الأستاذ عبد المجيد بن جلون، في كتابه ''هذه مراكش'' فإنه لم يكتف عند ذكر قصة هذا الاستنجاد، بأن يوردها عارية من كل تعليق أو حكم، أو أن يكتفي بالتعليل التاريخي التقليدي المعروف، وإنما وجد لموقف المنصور تعليلا آخر له نصيبه الكبير من الصحة، كما أنه لم يتردد في أن يحكم عليه، في صراحة وشجاعة تحمدان له. يقول الأستاذ ابن جلون، في كتابه ''هذه مراكش'': (ولكن يعقوب المنصور أخطأ خطأ كبيرا حينما أرسل إليه صلاح الدين الأيوبي يطلب مؤازرة أسطوله، وإقفال البحر الأبيض المتوسط في وجه الأساطيل الأوربية، في طريقها إلى بيت المقدس، ويعلل المؤرخون ذلك بأن صلاح الدين لم يخاطبه بلقب أمير المسلمين، ونرى نحن أن لهذا الرفض علاقة ببعض الحروب التي قامت على حدود الموحدين الشرقية، ولو أقدم المنصور على إقفال البحر الأبيض المتوسط، وكان أسطوله من أقوى الأساطيل الإسلامية، لكان من الممكن أن يغير مجرى التاريخ العربي). ...ولعله يقصد بقوله: لم يخاطبه بأمير المسلمين، لم يخاطبه بأمير المؤمنين، ومهما يكن فهذا تعليل جديد لموقف المنصور، وإن كانت طبيعة كتاب (هذه مراكش) لم تسمح لمؤلفه بشرح فكرته شرحا كافيا أو محاولة التدليل عليها... حقيقة ''أمير المومنين'' التاريخية استمراري في القراءة مع ذلك بدأ يقنعني بأن من الصعب جدا أن أنتهي إلى الغاية التي كنت أرجو أن انتهي إليها، وهي إبعاد قصة ''أمير المومنين'' عن الموضوع، فإن قصة أمير المومنين هذه، جعلت تبدو لي أكثر من مسألة لقب، أكثر من مسألة بروتوكول أو تشريفات، إنها جعلت تبدو لي ... مسألة اعتراف أو عدم اعتراف من الدولة الأيوبية للدولة الموحدية بالوضع التي كانت تريده لنفسها، والصفة التي كانت تريد أن تعامل على أساسها، والأمر بعد ذلك يحتاج إلى شيء من الشرح والتفصيل. فنحن نعلم أن لقب'' أمير المومنين'' كان خاصا بالخليفة لا يخاطب به غيره. وقد استقل المغرب عن التبعية لدولة الخلافة منذ أن قدم إليه المولى إدريس الأول وأسس به الدولة الأدريسية. وتعددت بعد ذلك الخلافات في العالم الإسلامي، فقام إلى جانب الخلافة العباسية في بغداد، خلافة أموية ثانية بالأندلس، وخلافة فاطمية في مصر. ومع ذلك فقد ظل الملوك الذين تعاقبوا على عرش المغرب من عرب وبربر، بعيدين عن التسمي بالخلافة أو التلقب بألقابها، وجاءت دولة المرابطين، وأصبح بطلها يوسف بن تاشفين ملكا لإمبراطورية قوية واسعة الأرجاء... ولكن يوسف بن تاشفين مع ذلك لم يعلن نفسه خليفة، ولم يتلقب بأمير المومنين، وإنما تلقب بلقب آخر، يدل على مكانته وقوته من جهة، ويحفظ عليه تأدبه مع الخلافة واحترامه لها من جهة أخرى ذلك هو لقب ''أمير المسلمين''. بل إن يوسف بن تاشفين قد ذهب إلى أبعد من ذلك، فبعث إلى المستظهر بالله، الخليفة العباسي يطلب منه أن يعقد له على ما تحت يده من البلاد، وبلغة العصر، فإن يوسف بن تاشفين، حاول أن يدعم مركزه بالاعتراف الشرعي أو الرسمي من دولة الخلافة وقد كان له ما أراد، فاعترفت به دولة الخلافة رسميا، وظلت العلاقات بينها وبينه على خير ما يمكن من الود والطيبة، تعترف له الخلافة بالسلطة المدنية على مملكته، ويعترف لها هو بالسلطة الروحية المستمدة من الشرع، واستمر الحال على ذلك، إلى أن انقرضت دولة المرابطين وقامت على أنقاضها الدولة الموحدية. توفي المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، وولي الأمر بعده تلميذه وصديقه عبد المومن بن علي جد يعقوب المنصور، فلم يجد نفسه في حاجة إلى أن يقف من الخلافة العباسية في بغداد، ذلك الموقف التقليدي الذي اختطه يوسف بن تاشفين من قبل، وإنما أضرب عن دولة الخلافة صفحا، فلم يتعرض لها بمعروف ولا منكر. لم يعلن في المغرب -رسميا- خلافة أخرى كما فعل الأمويون بالأندلس من قبل، والفاطميون في مصر، وإنما اكتفى بأن يتخذ لنفسه لقب الخلافة الخاص، وأن يدعى هو الأخر: ''أمير المومنين''... ومهما يكن فإن عبد المومن لم يجد أي حرج في أن يتلقب باللقب الخطير، وأن يعتبر نفسه في مركز لا يقل عن مركز معاصريه من الخلفاء العباسيين والفاطميين. ومات عبد المومن فخلفه على العرش ابنه يوسف ثم حفيده يعقوب المنصور، وأصبح لقب أمير المومنين أمرا واقعا... ويكفي أن نعلم أيضا أن هذا اللقب الذي كان يحرص عليه الموحدون، لقب (أمير المومنين) كان يعرضهم أحيانا للتنكيت والسخرية والأجوبة اللاذعة، ... تمحيص يدعم رواية الرفض عدت إلى الجزء السادس من كتاب صبح الأعشى للقلقشندى أعيد قراءة نص الرسالة التي بعث بها صلاح الدين الأيوبي إلى يعقوب المنصور، فإذا أول هذه الرسالة: (فتح الله بحضرة سيدنا أمير المومنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين، أبواب الميامين، وأسباب المحاسن...) إلى آخر هذه الرسالة التي وردت في صبح الأعشى في أربع صفحات كاملة. وكدت أختم الموضوع لأنني وصلت إلى النتيجة التي كنت أتوخاها منذ البداية، وهي تزييف تعليل المؤرخين لامتناع يعقوب المنصور عن إنجاد صلاح الدين الأيوبي بكون هذا الأخير لم يخاطبه بأمير المومنين ... هذا القلقشندى، يقول في المقدمة التي كتبها للفصل الذي أورد فيه نص رسالة صلاح الدين الأيوبي إلى يعقوب المنصور، متحدثا عن أسلوب المكاتبة الصادرة على خلفاء الموحدين بالمغرب عندما تكون من ملك آخر: (والرسم فيه أن تفتتح بالدعاء المناسب للحال، ويعبر المكتوب إليه بأمير المومنين، كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المومن أحد خلفائهم، في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، يستجيشه على الروم الفرنج القاصدين بلاد الشام والديار المصرية، وهو: فتح الله بحضرة أمير المومنين... إلى آخره) ...وعدت إلى كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) لأبي شامة شهاب الدين المقدسي، أعيد فيه هو أيضا قراءة نص رسالة صلاح الدين إلى يعقوب المنصور، فإذا بي أمام رسالة تختلف في نصها اختلافا كاملا عن نص الرسالة التي قرأتها في (صبح الأعشى)، وإذا نص الرسالة الواردة في كتاب ((الروضتين)) يشتمل على كل ما يمكن أن يخطر بالبال في المخاطبة من ألفاظ التمجيد والتبجيل والاحترام والتعظيم، ما عدا... ''أمير المومنين''. وعدت اقرأ في كتاب ((الروضتين)) نفسه، ما قبل نص الرسالة وما بعده من التعليقات والشروح والأخبار والتواريخ، فإذا أبو شامة متثبت مما يقول، وإذا هو لا يكتفي بأن يورد نص الرسالة فقط، وإنما يذكر أيضا الطريقة التي حصل بها على نص هذه الرسالة كما يذكر الرسول الذي حملها إلى يعقوب المنصور، وما زود به من النصائح والإرشادات، وما لقنه من الأجوبة، كما يذكر الهدايا التي حملها معه، وتاريخ سفره بالضبط، بل ويذكر نوع المركب الذي حمله من الإسكندرية، وحمولته، وتاريخ وصول الرسول إلى طرابلس، ثم إلى مراكش، واجتماعه بالوزير أبي يحي ابن أبي بكر، وأخيرا تاريخ دخوله على يعقوب المنصور، ثم تاريخ خروجه من مراكش ووصوله إلى الإسكندرية من جديد. ويختم أبو شامة هذا الكلام الطويل العريض، بفصل يقول في أوله: (لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النجدة، وبلغني أنه عز عليهم كونه لم يخاطب بأمير المومنين على جاري عادتهم في ذلك) ... ومع ذلك فإن أبا شامة المقدسي لا يكتفي بكل هذا، وإنما يورد إلى جانبه نصوصا كثيرة تعد ثروة في الموضوع. منها- إلى جانب نص الرسالة الموجهة إلى يعقوب المنصور، وهي من إنشاء القاضي الفاضل- ... نص رسالة اعتذار من القاضي الفاضل أيضا، إلى السلطان صلاح الدين، عندما أخفقت سفارة ابن منقذ، وعلم أنها إنما أخفقت بسبب ما أغفله القاضي الفاضل من مخاطبة يعقوب المنصور بأمير المومنين. فإذا أضفنا إلى كل هذا أن القلقشندى متأخر- في الزمن- عن أبي شامة المقدسي، وأن المقدسي كان، قريبا جدا من الأحداث التي يتحدث عنها في الجزء الثاني من كتابه، وهو الذي خصصه للحديث عن حياة صلاح الدين الأيوبي، جاز لنا أن نرجح النص الوارد في كتاب المقدسي، وأن نعتمده مع احترامنا للقلقشندى، ولكتابه صبح الأعشى. نعم، لو أمكن التوفيق بين النصين لما ترددنا في بذل الجهد في ذلك، ولكنهما مختلفان كل اختلاف، خصوصا فيما يتعلق بموضوع الإشكال الرئيسي، وهو لفظ ''أمير المومنين'' فإن أحدهما يثبته على أنه قاعدة مقررة، وثانيهما ينفيه، ويؤكد هذا النفي بنصوص أخرى كثيرة، وعلى جانب عظيم من الأهمية في الموضوع... ملابسات كتابة رسالة صلاح الدين إلى المنصور إن أهم هذه النصوص، هو كتاب صلاح الدين إلى يعقوب المنصور، وهذا الكتاب لم يكتب بمحضر صلاح الدين، ولم يطلع عليه قبل إنفاذه، وإنما أرسل صلاح الدين رسوله من الشام إلى القاضي الفاضل في مصر، يأمره أن يكتب الكتاب ويبعثه. فالظروف ظروف حرب، والحصار على أشده داخل أسوار عكا وخارجها، والأزمة مستفحلة، ولا مجال للأخذ والرد والمراجعة والمناقشة. وقد فعل القاضي الفاضل، فكتب إلى يعقوب المنصور، كتابا يعد من عيون البلاغة العربية، وإن القارئ لهذا الكتاب ليعجب أشد العجب من يعقوب المنصور، كيف يقرأ هذا الكتاب أو يسمعه، فلا تتحرك له أريحيته، ولا تهتز عاطفته، ولا ينسيه ما كان بينه وبين الدولة الأيوبية من سوء تفاهم سابق، ولا يسرع بالنجدة المطلوبة منه، خصوصا وأن هذه النجدة، كما ورد في كتاب القاضي الفاضل إلى عبد الرحمن بن منقذ، غير محصورة في شكل واحد قد يتعذر تنفيذه، فإن في استطاعة يعقوب المنصور أن يبعث قطعا من أسطوله القوي، وفي استطاعته أن يقفل بوغاز جبل طارق في وجه الإمدادات العسكرية الغربية الزاحفة إلى الشرق الإسلامي، وفي استطاعته أن يساعد بالرجال أو بالمال إن عز عليه كل ذلك.... وقبل أن ننتقل إلى النص الذي سيساعدنا على استجلاء قصة أمير المومنين هذه، نريد أن نورد فقرات من الرسالة الخاصة التي كتبها القاضي الفاضل إلى الأمير عبد الرحمن بن منفذ، الذي كلف بالوفادة على يعقوب المنصور، تبليغ الرسالة إليه، يشرح له فيها مهمته، ويلقنه الأجوبة التي قد يكون في حاجة إليها...فهو ينصح له أن (يستقري في الطريق وفي البلاد من أخبار القوم -الموحدين- في أحوالهم وآدابهم وأشغالهم وأفعالهم، وما يحبونه من القول، نزره أو جمه، ومن اللقاء منبسطه أو منقبضة، ومن القعود بمجالسهم مخففه أو مطوله، ومن التحيات المتهاداة بينهم، ما صيغته وما موقعه، وهل هي السنن الدينية أو العوائد الملوكية، ولا يلقه -أي يعقوب المنصور- إلا بما يحبه، ولا يخاطبه إلا بما يسره). والعبارة الأخيرة مهمة في الموضوع، فإن القاضي الفاضل، يوصي عبد الرحمن بن منقذ ألا يخاطب يعقوب المنصور إلا بما يسره، ولكنه هو، القاضي الفاضل، لم يخاطب يعقوب المنصور في الكتاب الذي كتبه إليه بما يسره، ولم يكن ذلك عن غفلة منه، وإنما كان متعمدا مقصودا، كما سيبدو لنا بعد حين ... عاد عبد الرحمن بن منقذ بعد رحلة استغرقت عشرين شهرا، وعلم أن سفارته لم تنجح، بسبب ما أغفله القاضي الفاضل من خطاب يعقوب المنصور بأمير المومنين، ويبدو أن القاضي الفاضل قد تعرض لبعض اللوم أو التوبيخ بسبب ذلك، وأنه قد اعتبر مسؤولا عن إخفاق هذه السفارة، خصوصا وأن الرسول الذي جاءه من الشام، يحمل أمر صلاح الدين بتحرير كتاب إلى يعقوب المنصور، بلغه أن صلاح الدين نفسه يأمر بأن يخاطب يعقوب المنصور بلفظ أمير المومنين، بل أن الرسول قد امتنع من أخذ الكتاب ما لم يصرح فيه بهذا اللقب، لكن القاضي الفاضل كان له رأي في الموضوع تعصب له، وظل متعصبا له مستعدا للدفاع عنه، حتى بعد إخفاق السفارة. إنه يعتبر خطاب يعقوب المنصور بأمير المومنين، اعترافا له بصفة الخلافة التي كان يريد أن يضفيها على نفسه، بل إنه يعتبر ذلك مبايعة، ومعنى ذلك نقض الولاء للخلافة العباسية التي كانت لا تزال قائمة حتى ذلك الحين، وإن لم يكن لها من الأمر شيء، والتي كان الأيوبيون يعترفون لها بالسلطة الروحية ويعتنقون بيعتها، بعد أن قضوا القضاء المبرم على دولة الفاطميين في مصر. فهم القاضي: ''أمير المومنين'' شفاهة تختلف عنها كتابة كان من رأي القاضي الفاضل أن في إمكان الرسول أن يخاطب يعقوب المنصور -مشافهة- بلفظ أمير المومنين، أما أن يكتب ذلك في كتاب رسمي، فإن ذلك قد يعتبر حجة، وقد يعتبر ضعفا وتخاذلا واستسلاما. ولعل كل هذا واضح تمام الوضوح في الفقرات التالية، وهي فقرات من كتاب كتبه القاضي الفاضل إلى السلطان صلاح الدين، بعد إخفاق السفارة، وتحميله مسؤولية إخفاقها، يشرح له فيه القضية، ويبرر موقفه منها، يقول القاضي الفاضل: (... وعند وصول الأمير نجم الدين من المخيم المنصور-يعني مخيم صلاح الدين- فاوضه المملوك -يعني نفسه- بأنه لا يمكن إلا التعريض، لا التصريح، بما وقع له أنه لا تنجح الحاجة إلا به من لفظة أمير المومنين... فأمسك مقدار عشرة أيام، ثم أنفذ إليه الأمير المذكور على يد ابن الجليس، بأن الهدية أشير عليه بالا يستصحبها، وإن استصحبها تكون هدية برسم من حواليه، وأن الكتاب لا يأخذه إلا بتصريح أمير المومنين، وأن عز السلطان عز نصره، رسم له ذلك... فأجابه المملوك بأن الخطاب يكفي، وطريق حجتنا له ممكن، والكتابة حجة تقيد اللسان عن الإنكار، ومتى قرئت على منبر من منابر المغرب، جعلنا خالعين في مكان الإجماع، مبايعين من لا ينصره الله، ولا شوكة فيه، ولا يحل اتباعه... شاقين عصا المسلمين، مفرقين كلمة المومنين.. والمومن لا يذل نفسه، وقاسم الأرزاق يوصلها وإن رغم من جرت على يده، فما يتخلى الله عنا، ولا تستمر هذه الشدة، ولا نسيء الظن بالله ... ولو علم المملوك أن هذا الذي استعفي منه يضره بحيث ينفع المولى أبقاه الله، لهان عليه، ولكنه مضرة بغير منفعة، وتعرض لما تذم عاقبته، أو يبقى على الخوف منه). المحقق أراد أن يخطأ فأصاب! كنت استهدف من كتابة هذا البحث، أن أزيف قصة أمير المومنين، ولكن يبدو أنني لم أزد على أن أكدتها وشرحتها بالرغم مني، وعذري في ذلك أنه ليس لي أن أتحكم في تاريخ، أو أن أفرض عليه هواي، لقد أقنعتني النصوص، أو خففت من غلوائي على الأقل، وجعلتني أنظر إلى القصة التي كنت أريد أن أزيفها من زوايا متعددة، فإذا هي واقع ثابت لا سبيل إلى إنكاره، وإذا هي أعمق جذورا، وأكثر تشعبا وتعقيدا مما يبدو لأول وهلة. ومع ذلك فإن في استطاعة هذا البحث المتواضع، أن يفضي بي إلى نتيجة مهمة، هي أن امتناع يعقوب المنصور عن إنجاد صلاح الدين الأيوبي، كانت له أسباب متعددة، ليست قصة أمير المومنين على تشعبها وتعقدها إلا واحدة منها، أو ليست إلا السبب المباشر، أو التعلة التي وجدها يعقوب المنصور أقرب إليه ليتوكأ عليها ويتعلل بها. ...أما باقي الأسباب وأهمها وأكثرها معقولية، فهو أن يعقوب المنصور كان مشغولا بفتوحاته وحروبه التي كانت هي الأخرى- كما ذكرنا من قبل- جزءا من الحروب الصليبية أو نوعا منها، خاض يعقوب المنصور غمارها وحده ضد الاسبان والبرتغاليين، كما كان من جهة أخرى موتورا ضد الدولة الأيوبية، بسبب ما جرت عليه من المتاعب والويلات، وما كبدته من الخسائر، عندما غزت مملكته بقيادة تقي الدين الأيوبي أخي صلاح الدين، ثم بقيادة مولاه قراقوش التقوي، وخلفائه من بني هلال وبني غانية، ... ومهما يكن، فإن موقف يعقوب المنصور بالرغم من كل ما ذكرنا، لم يكن مشرفا بالنسبة إليه، ولا لائقا بما عرف به في التاريخ من عظمة ونبل وغيرة وعلم واتساع أفق. لقد كنا نريد له أن يتوج عظمته بتناسي هذه الاعتبارات الثانوية التي لا تستطيع، أولا ينبغي لها، أن تصمد في وجه الاعتبارات الأولية الصحيحة، اعتبارات وجوب التماسك والتآزر والوحدة، والوقوف صفا واحدا في وجه العدو المغير، سواء حاول أن يغزونا باسم الدين، أو باسم المدنية، أو بدافع التنازع على النفوذ، أو باسم الطرد والإبادة والاحتلال الصريح، كما فعلت معنا إسرائيل في جزء من وطننا العربي الكبير. ------------- ولد عبد القادر الصحراوي سنة 1927 بمدينة الدارالبيضاء. تابع دراسته العليا بجامعة القاهرة حيث حصل على الإجازة في الأدب، اشتغل موظفا بوزارة الأوقاف إلى أن وافته المنية. انضم عبد القادر الصحراوي، الذي يتوزع إنتاجه بين التاريخ والتحقيق، إلى اتحاد كتاب المغرب سنة ,1966 وأشرف على إدارة مجلة ''دعوة الحق''. من مؤلفاته ''جولات في تاريخ المغرب'' و ''شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي''، كما ساهم في تحقيق: ''ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمصرفة أعلام مذهب مالك'' (1970 1965)