أسالت الانتفاضات الحاصلة مؤخرا في البلدان المغاربية (تونس، الجزائر، المغرب) الكثير من المداد بقدر ما أسفكت من دماء الشهداء مع تواصل إصرار المنتفضين على الاستمرار في انتفاضاتهم، رفضا لواقع الديكتاتورية والفاشية البرجوازية وفرض القهر الاقتصادي والاجتماعي على الطبقات الشعبية في هذه البلدان. ومن بين الأفكار التي تم طرحها فكرة مقارنة صمت الكادحين لمدى ثلاث عقود الماضية التي كادت تصيب الكادحين بالإحباط وفقدان الأمل في الانعتاق والتحرر، وشعلة الانتفاضة الحالية التي اشعلتها احراق الشاب محمد البوعزيزي بسيدي بوزيدبتونس لنفسه عقب منعه من بيع الخضر والفواكه وهو المعطل الحامل لشهادة عليا، انتشرت هذه الشعلة الثورية في جميع المدن التونسية رغم القمع البوليسي وتدخل الجيش وسقوط ضحايا برصاص قوات القمع، وتحول الانتفاضة من مجرد احتجاج على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لتبدأ بطرحها لمطالب سياسية وبرحيل زين العابدين بنعلي. نفس مشهد من الانتفاضات وان كان بأشكال مغايرة في كل من الجزائر والمغرب، فإن كانت قد اتخذت مؤخرا هذه الانتفاضات اشكال راديكالية في الجزائر والتي لا زالت مشتعلة في جميع المدن الجزائرية وسجلت مواجهات دامية بين قوات القمع والجماهير المحتجة والتي تتواصل بإصرار رغم سقوط عدد من الشهداء، ففي المغرب ضلت انتفاضات الكادحين خجولة وان كانت مفاجئة في العديد من الأقاليم كما حدث في صفروا وسيدي افني والعيون وبني تدجيت وميسور والحسيمة وتنغير ... ان صمت الكادحين خلال العقود الثلاثة الأخيرة (1980 – 1990 – 2000) أو بالأحرى التطور البطيء للصراع الطبقي في كل من تونسوالجزائر والمغرب لم يكن يعني أبدا علامة ضعف البروليتاريا عن انجاز مشروعها التاريخي في التحرر من العبودية المأجورة والاستغلال المفرط واقامة الاشتراكية كمشروع مجتمعي بدون طبقات، وإنما كان ذلك الصمت والبطء عنوان لعنف المواجهات الطبقية التي تختمر وتتهيئ للانفجار. فنحن لم نبقى كما كان الشأن في ظل الصراعات الطبقية لعقدي الستينات والسبعينات في مواجهة عدو يفاجأ باليقظة المفاجأة للبروليتارية بعد سنوات من الثورة المضادة التي اعقبت الاستقلالات الشكلية لهذه البلدان الثلاثة، وإنما في مواجهة برجوازية تبعية مدججة حتى اسنانها بالأسلحة وتستعمل ضد النضالات العمالية آلياتها الإيديولوجية المخدرة، الدينية والشوفينية والوطنية، والسياسية والقمعية. ورغم بطئ الصراع الطبقي خلال العقود الثلاثة الماضية فلا يجب أن نتجاهل الهجوم البرجوازي المتواصل على البروليتاريا وردود الفعل البروليتارية المتواصلة على الرغم من محدوديتها وبطأها، وتدخل في هذا الاطار الانتفاضات المغربية الأربع في سنوات 1965 – 1981 – 1984 – 1990. وانتفاضة الكادحين في تونس سنة 1984 وانتفاضات في الجزائر بدء من سنة 1988 والتي استغلتها الجماعات الاسلامية المسلحة. فلقد شكلت تلك الحركة البطيئة من الصراع الطبقي الذي تقودها البروليتارية في مواجهة البرجوازية التبعية في البلدان الثلاث، تراكمات وردود أفعال البروليتارية تمهد الطريق وتحضر الشروط الموضوعية لانفجارات بروليتارية أكبر، على ارضيات سياسية راديكالية أكثر عمقا. ستتحصن البرجوازية التبعية في تونسوالجزائر والمغرب تدريجيا للرد على الانتفاضات المتوالية في خندق القمع الأسود. وتؤكد الأحداث المتواصلة حاليا في تونس على هذا الاختيار القمعي، فمع دخول الانتفاضة التونسية أسبوعها الرابع بدأ الشهداء يتساقطون، فقد أشارت الأنباء بسقوط أكثر من عشرين شهيدا في القصرين وتالة وأكثر من احدى عشرة شهيدا في سيدي بوزيد. وفي الجزائر تتوالى الاشتباكات والانتفاضات في مختلف المدن الجزائرية وقد بدأ الشهداء يتساقطون خاصة في مدينة تيارتا. كما صاحب هذا القمع الوحشي اعتقال المئات من المتظاهرين واعتقال المدونين والصحافيين والمحاميين والفنانين المتضامنين مع انتفاضات الكادحين. ولا تواجه البرجوازية التبعية بمفردها الطلائع الثورية لانتفاضة الكادحين، بل تنظم اليها الأحزاب التقليدية الخاضعة لهيمنة البرجوازية الصغرى من أجل العمل على تحريف مسار الانتفاضة، ونشر أوهام جديدة لتخدير الكادحين بالوعود المعسولة والتي لن تنتج سوى خضوعا جديد للاستغلال والتهميش والتفقير الواسع. وإذا كان تعمق الأزمة الرأسمالية الاقتصادية والمالية منذ سنة 2007 يعبر عن شيء فإنما يعبر عن حدة معاناة البروليتارية في مجموع أنحاء العالم، مع تزايد التسريحات الجماعية، واتساع الفقر، وضرب مختلف المرافق العمومية التي تقدم خدماتها بالمجان، وتشكل اضافة نوعية لمداخل الكادحين واسرهم، خصوصا في مجالات التعليم والصحة وتعمق ظاهرة الغلاء. وهذا في الوقت الذي تعرف فيه البرجوازية تكديسا غير مسبوق للثروات وتواصل هيمنتها على وسائل الانتاج والمناصب الحساسة في أجهزة الدولة والقطاع العمومي وتزويرها للانتخابات لضمان تجدد نخبها السياسية المدافعة عن مصالحها. وهذا عدا عن مواجهة الأممية الرأسمالية لطموحات الشعوب في الانعتاق والتحرر، بل واخضاعها من جديد للفوضى والاستعباد، كما حدث ويحدث في افغانستان والعراق وفلسطين. كل هذه الأشياء تؤكد على الاحتضار والانهيار المتواصل الذي لا رجوع عنه للنظام الرأسمالي، والذي يتدهور في اطار من الدماء التي يذهب الكادحون ضحيتها. وفي مواجهة هذه البربرية فإن القناع الذي كان يستر عورة البرجوازية والذي استعمل لسنوات طويلة لا خفاء الطابع البربري لميكانيزماتها واستعماله سياسيا ضد البروليتارية، فقد تحطم في ظل الازمة الى عدة قطع صغيرة: الاشتراكية في بلد واحد، حركة التحرر الوطني، الديموقراطية، حقوق الانسان، الاستحقاقات الانتخابية، البرلمانية ... وفي هذا الجو المتعفن الذي يخنق ويسمم الانسانية جمعاء، في مواجهة كافة مظاهر البؤس في العالم، والفلاحين الفقراء، والمهمشون، تحاول البروليتارية تأكيد نفسها على أنها القوة الثورية الوحيدة، وأنها البديل الوحيد للتحرر من البربرية الرأسمالية: - لأن النضالاتها المطلبية المتواضعة والتي يستنكرها الجميع وخصوصا بعض الفصائل الثورية، تؤكد أنه من الممكن فرض تراجعات على البرجوازيين، وأنه من الممكن رد البروليتاريا على هجوم البرجوازية بالمثل، وبالتالي تلغيم القوانين العمياء للرأسمال بشكل نهائي؛ - لأن ردود فعل البروليتاريا والتي قدم الكادحون في البلدان المغاربية الثلاث تونسالجزائر المغرب أروع مشاهد لها من انكار الذات وتضامن وغياب الخوف من الرصاص الحي للجيش والاعتقال بالمئات، والقمع والحروب وكل الأمراض المركزة للبربرية الرأسمالية التي اصبحت تطال الانسانية جمعاء. مختلف الوسائل الايديولوجية والسياسية البرجوازية (وسائل الاعلام واسعة الانتشار، أحزاب اليسار واليمين والاسلامويين، ...) ينهالون على ادمغتنا بتصوير البروليتاريا على أنها شردمة من المواطنين عديمة الشكل وسلبية بشكل لانهائي. لكن قوة الأزمة، ومجهود الوعي الذي استيقظ من جديد انطلاقا من تراكم النضالات الهادئة والبطيئة خلال العقود الثلاث الأخيرة، والموقع المركزي للبروليتاريا داخل المجتمعات المغاربية الثلاث، كل ذلك يدفع البروليتارية للقيام بردود افعال قوية لتحريك هذه البركة الآسنة من السلبية والعجز وبالتالي فتح المجال أمام الثورة المغاربية المظفرة. الطريق نحو التغيير صعبة وشاقة ومليئة بالدماء والدموع والغضب والاستمرار في الانتفاضة الى حين تحقيق الانعتاق والتحرر ، فلن تفقد البروليتاريا سوى اغلالها والتي استمرت لعقود طويلة وها قد حان الوقت لتحطيم تلك الأغلال. فالثورة تبقى هي الطريق الوحيدة لا نهاء الكابوس الرأسمالي. فإما الاشتراكية أو البربرية أيها الكادحون، فلكم الكلمة.