رمضانات مغرب الأمس (سيرة ذاتية) الحلقة الأولى: جريمة الكاو كاو اجتمع الشياطين عشية يوم الثلاثاء 19 من أكتوبر سنة 1971 تحت شجرة الصفصاف العتيقة المحاذية للطريق الرابط بين حي بال فلوري ومنطقة ساتفيلاج بطنجة. كانت البهجة تغمر وجوه الصغار وهم يتبادلون الأفكار والمخططات لما ستكون عليه ليالي رمضان الذي تم الإعلان عنه رسميا عبر الإذاعة وعبر زغاريد النسوة وهن يستقبلن هلال الشهر العظيم. تناهت إلى مسامعهم أصوات علي الطبال وهو يهرول بجلبابه ( الجبلي ) القصير ومن وراءه السي عبد السلام الغياط فقطع الشياطين إجتماعهم الطارئ ليلتحقوا بجوقة الأطفال وراء الطبل والمزمار في أول إحتفالية برمضان وبدأ الإعلان فبينما كان فريق من الأطفال يردد بصوت واحد : - شنو غدا ؟ كان فريق آخر يجيب : - رمضان - شنو نكلو الحريرة بدأ الجمع يكبر شيئا فشيئا وكلما قطع الموكب زقاقا من أزقة " حومة بال فلوري التحتانية " كانت زغاريد النسوة ترتفع من ورائها وترافقها أصوات مؤذني صلاة العشاء فيختلط صوت المزمار بنقرات الطبل بصوت الأطفال وزغاريد متفاوتة الطول لتصنع أحياء طنجة العتيقة نشيدها الرمضاني الأول. ---------------- كانت أضواء أزقة المدينة صفراء باهتة وقليلة فيما تعوضها الشموع والقناديل بالأحياء الشعبية الفقيرة لكن طعم الفرحة كان يغمر النفوس . ولم يك ما يكدر صفو هذه البهجة سوى أن الغد هو يوم دراسة . تسلل عبد الرحمن ومن خلفه سعيد كيكيسا وأحمد الجعواق نحو سطح المنزل .. تكوموا كما الفئران عند حافة سور السطح وبدا التخطيط لعملية هروب جماعي من المدرسة في اليوم الموالي . - وهادشي حرام آخاي .. واش ربي عمل رمضان باش نعبدوه ولا باش نمشيو للمدرسة المنحوسة - أنا بعدا ما ماشيشي للمدرسة .. المعلم مراتو ولدت - إيوا .. وحنا شني ماشي نعملو .. انتينا تبقا فالدار ناعس مع راسك وحنايا فالحبس - علاش ما تهربوشي .. ساهلا ماهلة كان عبد الرحمن يشجعهم على الهرب ويهون الأمر وعواقبه بكل ما أوتي من إبداع لفظي وبراعة في الإقناع . - بعدا المعلمين كاملين .. ماش يكونو صايمين .. ما فيهم ما يخدم - أنا آخاي ما فيا ما ناكل شي تحميلة فالنهار الأول من رمضان - حيت إنتينا خاواف آخاي .. كون راجل آصاحبي .. نهربوا كاملين ولي عند الله ماش تكون - إيوا وشني نقول لبا إذا ما جبارنيشي فباب المدرسة - ساهلا .. فالوحدة تكون فالباب والله كريم - وشني ماش نعملو ما بين السبعة والوحدة - ساهلا .. سمعني مزيان انتهت الخطة أن الجميع سيهرب من المدرسة .. والكل سيحضر إلى الفصل في تمام السابعة ثم بعد ذلك يأتي عبد الرحمان ويخبر المعلم أن والد أحمد مريض ويجب أن يعود إلى البيت ويكرر نفس العمل مع معلم سعيد وعبد اللطيف ونهاية بمعلم العربي وهكذا يتحرر الجميع من فصولهم الدراسية وينطلقوا نحو بيت عبد الرحمن لتحضير سلات الفول السوداني ( الكاو كاو ) - و كان أهل طنجة ولا زالوا يطلقون عليه إسم ( البِيَانْ ) – والإنطلاق لبيعها في محطة القطار .. وفي أبواب المدارس لتوفير بعض المال للوفاء بمصروف سهرات لياليهم الرمضانية. ---------------- كان طعم السحور الأول في رمضان يومها يشكل بالنسبة لنا نحن الصغار قمة النشوة والبهجة وكانت كل أحاسيس التحرر تسكننا وتستوطن عقولنا الصغيرة كيف لا وقد بات من حق بعضنا السهر حتى الساعات الأولى من الصباح والإستمتاع بسمر الكبار وأحاديثهم التي لم نك نفهم منها الكثير لكننا كنا نستغل إنخراطهم فيها للضرب بعرض الحائط بكل الضوابط والممنوعات. فلم يعد الخروج من باب البيت ليلا محرما كما لم يعد كذلك اللعب المتواصل حتى الساعات الأولى من الصباح فالشهر شهر خير وبركات وكنا نحن أولى هذه البركات كما كانت تردد جدتي رقية ( العزيزة رقية ) رحمها الله. التي سمعتها تلك الليلة تخاطب أبي بنبرة حادة. - هاد العواول ( الأطفال ) آوليدي هما البركة .. ملي ماش تنعسهوم في العشرة شمن رمضان ماش يحلا بلا بيهوم ؟ - آ يما ( يا أمي ) آ الواليدة الحبيبة هاذ العيال خصوم يفيقو يمشيو للقرايا في الصباح - وباراكا عليها من التواشي الخاويين .. القرايا ؟ تقول كيمشيو يقراو القرقان ( القرآن ) يا غير القرايا الخاويا .. ملي كايجيو وأنا ما كانسمع غير باب باب بوبي باب .. الناس كانو فزمانا كيقراو الدين دربي وهادو كيقراو على البيبان تقول ماش يخرجو نجارا - وا لا آيما الحبيبة ( ضاحكا ) هاذيك هي الطريقة باش يتعلمو يقراو - آمشي بعد مني .. خلي العيال يفرحو برمضان .. أنا بعدا والله ما أنا مسحرة معاك إلى ما كانوشي غالسين قدامي على الطيفور رحمك الله يا خزان الحب الأبدي والعشق اللآمتناهي والحنان المنقطع النظير كانت تعرف أننا نحاكي أفعال الجن والعفاريت وما كنا نترك فضيحة إلا واقترفناها لكنها كانت تستميت في الدفاع عن حقنا في الوجود على مائدة الإفطار ..مهما كلفها ذلك. أما وأنا نائم في حضنها فكانت تتوعدني كل لحظة إن لم أسمع الكلام وأتخلى عن إقتراف جرائمي فإنها لن توقظني للسحور .. وكان تلك ورقتها الرابحة . نظر إلي أبي وأنا أداعب كسرة خبز بيدي .. ثم قال - إبوا يا الله كول .. - أنا بغيت يوغورت ( لم تك يومها كلمة دانون قد خرجت إلى الوجود ) - هاذا لي عينك خارجين فيه ما غا تاكلو حتى تاكل الماكلا تفننت العزيزة رقية في عرض أطباق الرغايف والبغرير وخبز الماقلا وكل ما تمكنت من تحضيره خلال الساعات القليلة التي عقبت الإعلان عن رؤية الهلال .. كانت تضع الأطباق وقد علت وجهها حمرة وتوهج من فرط جلوسها لساعات أمام موقد النار . - سمع آ بني .. غدا فالصباح إن شاء الله صيفطلي السخرة .. إلا بغيتي تجبر الحريرة فالمغرب - صافي آيما .. ماش نجيبلك السخرة بيدي ملي نرجع ها القرد من المدرسة .. - آ ولي وحدي .. واش آولدي أنا مش نبقا نستناك حتى يرجعو العيال من المدرسة ؟ - صافي أيما نجيبلك السخرة ف 12 ونرجع للخدمة ---------------- سمعت صفيرا خفيفا من وراء سور البيت فعرفت للتو أن عبد الرحمان يدعو العفاريت لإجتماع سريع .. فتحت النافذة المطلة على الباب الخارجي وألقيت بنفسي بخفة طفولية فطرية - عندك تعوروها معايا .. ها هو الكاو كاو .. خاصنا نحمصوه ونملحوه فالصباح قبل ما نمشيو للمدرسة - انتينا حماق آصاحبي .. هو دبا الفجر .. فوقاش ماش نحمصوه .. آآآآآ سمع .. سمع .. عندي واحد الفكرة .. العافيا باقا شاعلا .. العزيزة كانت كطيب الرغايف .. - برافو ليماك آصاحبي يا الله هو دابا تسللنا إلى الباحة الخلفية للبيت وكان موقد النار لا يزال ملتهبا فوضعنا الفول السوداني .. كما هو بقشرته وبدأنا نرش عليه الماء المخلوط بالملح وكان عبد الرحمن يحرك بهدوء حتى لا ينكشف أمرنا . . أنهينا المهمة في أقل من ساعتين وكانت تباشير الصباح قد بدأت ترخي ظلالها على حي بال فلوري النائم .. وانطلق كل منا إلى بيته للنوم قليلا في انتظار تطبيق خطة الهروب من المدرسة في أول يوم من رمضان. أيقظني والدي للذهاب إلى المدرسة ثم طلب مني أن أتناول إفطاري بسرعة , فجلست على مائدة السحور وتناولت من بقايا كل شيء إلا الخبز .. وكانت أختي تزاحمني على قطعة رغيف مبلل بالعسل والسمن وبين شد وجدب انقلبت المائدة بما فيها .. وكم هي الموائد التي قلبنا ونحن نصارع بعضنا البعض. - يا الله يا وليداتي فالجوج ماش نجي موراكم - واخا آ با صفحة الكاتب: www.acradiousa.com