إزداد شغفي بالبحر وصيد السمك .. ولطالما قضيت انا وعبد الرحمن والعربي الساعات الطوال على شاطئ المرقالا نتأمل الأمواج المتلاطمة وهي تجرف ما بجوف البحر من أعشاب وأصداف .. كنا نخطط لمشروع حسبناه مربحا دون جدال..ولم يكن سني قد تجاوز الرابعة عشر .. قررنا أن نبيع السمك في السوق ..هكذا وبدون اية مقدمات تحولنا من تلاميذ في الأقسام الأولى من السلك الإعدادي إلى مشروع صيادين .. وكم كان شهر رمضان يوقظ في دواخلنا الرغبة في فعل أشياء جديدة .. والجديد هذه السنة هو أن نختار بين أطفال الحي فرقة من المغامرين الذين لا يبالون بالفلقات والعقوبات وأن نخوض عالم الصيادين الطالبين لأرزاقهم .. والإتكال على الله "" - شوف آخاي سعيد .. الصياد رزقو على الله .. القضية ساهلة.. - لا .. ساهلة ؟؟ تبارك الله عليك آ المكلخ .. خصنا القصاب والطعم والصنانر والسبيب .. كلش عندك ساهل !! - ومالك آ صاحبي كتكحل الدنيا .. راه القصاب عطا الله ..والصنانر كاينين .. انت غير تبعني وما يكون غير الخير .. وملي نبيعو أول نهار وثاني نهار .. يعمل الله خير.. نشريو القصاب ديال الصح..المهم دابا هي ضبر على الفلوس باش نشريو الطعم .. وصافي - علاش أنا ؟؟.. ياك حنا شركة .. كل واحد يضبر على الفلوس ولي بعناه نقسموه .. - لا .. حنا ما غاديش نبيعو الحوت بالكيلو .. حنا نصادوه ونبيعوه جملة .. كيلو ولا جوج .. إلي جاب الله .. المهم هو شحال من واحد غادي يمشي معانا؟ بلغ عدد المساهمين اربعة ..فيما تراجع الباقون وكنت ممن تحمسوا للفكرة .. فبفضل المال سنتمكن من شراء أعمدة خشبية لصنع الشباكي (مرمى لملعب كرة القدم بالحي ) وبفضل ذلك سيسهل علينا كراء الملعب للفرق التي تريد المشاركة في بطولة الصغار في نهاية شهر رمضان .. كلها مشاريع متشابكة وكل مشروع مرتبط بمشروع قبله وكل مشروع محفوف بمخاطر التعرض للعقوبة ، كانت سلسلة المحرمات كثيرة وأماكن الترفيه معدومة والمكوث بالبيت يعني أن يتحول الفرد منا إلى عبد للسخرة .. مرة إلى السوق ومرة حمل العجين إلى الفرن ومرة إلى البقال .. جاءت فكرة صيد السمك لتسد فراغا كبيرا ..ولتعوضنا عن ملل قاتل بدا يتسلل إلى حياتنا الصغيرة خلال النهار، عكس ليالي رمضان التي كان اللهو فيها من أحب المتع إلى قلوبنا. اتفقنا أن نلتقي بعد السحور عند محطة الحافلات .. واقسمنا نحن الأربعة أن نخفي الأمر عن الأهل .. فيما جمعنا باقي من تخلفوا من الصغار وشددنا عليهم عدم التفوه بكلمة ..ولم تكن مصلحتهم تقتضي فضح الأمر فمشروع الصيد هو لمنفعة الجميع فبفضله سنتوفر على ملعب ( محترف ) ههههههه وأقمصة مثل اللآعبين الكبار .. أحلام لم يكن يعلم بها وزير الشبيبة والرياضة ولم تصل تفاصيلها لوزير التعليم ، كنا أطفالا بهموم كبيرة .. لم نسمع عن جمعيات تعنى برعاية الطفولة اللهم تلك المخيمات الصيفية التي كانت تشبه في تأطيرها السجون والإصلاحيات .. كنا نعيش على هامش التاريخ وقد اغتصبت أبسط حقوقنا .. فشمرنا على سواعدنا .. وشحدنا نباهتنا وفطنتنا للإتيان بحلول ..حلول لطالما كانت تعادل المغامرة الخطيرة .. أذكر أننا وقبل التفكير في بيع السمك حملنا صينية كبيرة ووضعنا فوقها قميصا رياضيا وبدأنا الطواف على معظم أرجاء الحي طالبين المساعدة المالية للفريق..وكان ذلك الفريق هو منتهى أحلامنا وأقصى مبتغانا .. - عاون الكيبو ( الفريق ) آ الشريف ؟ - سيرو تلعبو .. كتعلمو السعايا من دابا .. - عاون الفريق آ الشريفة ؟ - آشمن فريق .. الله يفرق لواديكم الشمل .. باغيين الفلوس باش تشريو الكارو .. - والله آ الشريف ما كنكميو .. حنا .. ملاعبيا .. تلك كانت الأجوبة وبهذا الجفاء كان الكبار يحكمون على أحلامنا .. لم تكن قلوبنا البريئة تعرف الحقد .. لكنها لم تكن تعرف اليأس كذلك .. ولأن كلمة الفشل لم تكن في قاموسنا .. كنا نحقق كل شيء وما لم نتمكن من تحقيقه بالكامل .. لا نتركه بالكامل ... ******* تسللنا الواحد تلو الآخر نحو المحطة .. كانت الحافلة تنطلق من قرب البيت في اتجاه المحطة الرئيسية بالسوق دبرا ( السوق البراني ) كان العربي وعبد الرحمن يحملنا بطاقة الترامبيا (الأتوبيس) فيما كانت بطاقتي وبطاقة حميد قد انتهت صلاحيتها .. فحمل عبد الرحمن والعربي القصبات والأكياس التي سنضع فيها السمك وصعدا إلى الحافلة .. فيما تسلقنا أنا وعبد الحميد أطرافها مثل القرود .. كانت الحافلة تسير بسرعة كبيرة فالشوارع فارغة .. والكل يخلد للراحة إستعدادا ليوم رمضاني حار وطويل . كنت أرى السائق وهو يرمقني من المرآة .. كان يصيح ويتوعد وهو يطلب مني أن أنزل .. - آ العايل .. وها أنتينا ماشي تطيح .وإنزل آمسخوط الوالدين - وصافي .. وا وصلنا .. غير ربح بداك الترامبيا ديالك .. - مالك يا ما خاسر والو من جيبك .. لوكان عزينا عليك ..كركبتينا ..ولا فيك غير الهضرة.. وصلنا إلى سوق فندق الشجرة .. كان شبه فارغ إلا من بعض الصيادين الذين قضوا الليل في البحر وعادوا ببركات البحر وما رزقوا .. بدانا التقاط اسماك السردين المتناثرة في الأرض كنا نجمع أي شيء يصلح طعما للسمك في البحر .. كان عبد الرحمن هو رئيس المجموعة فقد كان الأكبر سنا وكنت أنا العقل المخطط لمعظم الحلول .. ويا ويلها من حلول .. اقتصدنا قدر المستطاع في صرف الدراهم القليلة التي جمعناها .. نظرت إلى الجميع وأنا أحاول التظاهر بالتجربة والشجاعة - غادي ندخلو للمرسى .. من الحجر.. - لا.. لا.. انتينا حمق .. الحجر عامرين سلوكا .. والعسكر كيكونو مخبيين.. - واش نتينا بعقلك .. العسكر ناعسين .. دبا .. العسكر كيفيقو حتى كتحرك الخدمة في المرسى - سمع .. غادي نجربوا من الباب .. وإذا ما خلوناشي ندخلو .. ديك الساعة نمشيو من الحاشية د بحر أو ندخلو من جهة المخازن .. وصلنا باب المرسى وكانت الحركة قد بدات تدب في محطة القطارات .. والحافلات .. جلست أنا وعبد الرحمن وحميد بالقرب من محطة الساتيام ( شركة الحافلات للسفر بين المدن ) فيما ذهب العربي ليجرب الدخول إلى المرسى .. مسكنا أنفاسنا ونحن نراقبه بكل صمت وهو يمشي بطريقة عادية فقد اندس بين كوكبة من عمال المرسى .. ولم يكلفه الأمر أكثر من ثواني قليلة. فيما كان رجال الشرطة في شغل عنه وهم يفحصون أوراق السيارات المتجهة إلى الميناء .. دخلنا جميعا دون أدنى مشكلة .. وجاء إختيارنا للميناء حتى نجنب أنفسنا عناء تسلق الأحجار لبلوغ أماكن الصيد .. كنا نسير بهمة وتوكل متجهين نحو المنارة وهي آخر نقطة في مدخل الميناء .. شاهدنا على المراسي بواخر كبيرة تحمل شتى أنواع البضاعة ، بواخر فرنسية وإنجليزية .. وأخرى للصيد وبأحجام تتجاوز ما عهدنا رؤيته في شواطئ طنجة .. بواخر كنا نراها لأول مرة عن قرب .. إزدادت حرقة أشعة الشمس .. ولم يوفق أي منا في صيد سمكة واحدة .. فكان كل واحد يتحجج بسبب من الاسباب .. - البحر كيخوي دابا .. ما كاين صيادة حتى يبدى يعمر - المهم نجربو .. وملي يبدا يعمر .. يرحم الله - ولا آصاحبي .. راك كتضيع الطعم .. كيكلو الحوت الصغير .. - وما شي شغلك .. يا ك الطعم ديالي .. - الطعم ديالنا كاملين .. وانا الرايس .. سمعتي توقفنا عن الصيد في انتظار ان يبدا البحر في المد تبعا لنصيحة عبد الرحمن ..كنا نجلس بمكان به ظل إتقاء لحرارة الشمس .. فيما امتد مضيق جبل طارق أمامنا .. كانت عيوننا الصغيرة تحاول استكشاف الضفة الأخرى .. تساءلنا عن حال الأطفال هناك ..هل يصطادون السمك لبيعه مثلنا ؟ هل يحتاجون لتبادل الأحذية فيما بينهم فيلعب البعض الشوط الأول حفاة ويلعب الآخرون بالأحذية ؟.. هل تشبه أحلامهم أحلامنا؟ - هاداك جبلطار ( جبل طارق ) .. - ألا أصاحبي .. هاديك .. اللينيا .. ولي حداها الخزيرات ..( الجزيرة الخضراء ) - والله حتى هاداك جبلطار..شوف آ القمقوم ما تخطرش معايا .. جبلطار هو آخر واحد ملكت علينا الضفة الأخرى كل انتباهنا .. وأفضنا في وصف مزايا الحياة هناك..وتفننا في سرد ما يحكى عن السيارات الفارهة والمدارس النظيفة وفرق التعاون المدرسي التي كانت تزور طنجة .. كان أطفالهم يرتدون أجمل الملابس وأحذية من النوع الذي ما كان الفرد منا يحلم بلبسها ..أحسسنا أن الخوض في موضوع الخارج إنما يستهلك عزيمتنا ويزيدنا قهرا وغبنا - ومالك آصاحبي المخير فيهم .. مكيعرفش يمشي للمدرسة بوحدو - ومشي غير إنتينا ..هما كتجي عندهوم الطوموبيلا حتى للباب - وباركة ما تكبرلوم البعرة .. السبانيول .. مقطعين بو رقعة - بو رقعة ..؟؟ وا بورقعة هما حنا..أما هما .. راه عاملين ما بغاو .. ملي حنا حسن منهوم علاش ما خرجناهومش من سبتة ومليلية .. راهوم باقين حاكمينا.. ولا حنا فينا غير الهضرة ؟!! - آش كتعرف إنتينا .. غير آجي وخرجهوم .. هادوك راه عارفين مزيان شغالهم.. نوض يا الله.. البحر بدا كيعمر .. يا الله نوضو ****** كان العربي هو أول من إصطاد سمكة يتيمة فيما أطبق الجميع صامتا .. غيرنا أنواع الطعم مرارا ولكن دون جدوى .. كانت وجوهنا عابسة ونحن نتبادل نظرات الفشل .. وقد غلب النوم معظمنا .. فيما انقض علينا العطش فيبست حناجرنا ونحن نحاول بكل ما أوتينا من رباطة جأش .. غيرت الشمس موضعها وفجأة سمعنا آذان العصر فقررنا أن نصلي .. وطلبنا من الله الصيد الثمين . لم يجهر معظمنا بطلبه لسبب لم أفهمه إلى يومي هذا .. فيما انبرى حميد بفكرة اعتقدناها الحل الأمثل - شوفو .. سمعنوني مزيان .راه ما غادي ينفعنا غير نطلع لشي بابور ( باخرة ) وندليو الصنانر ديالنا منها .. راه الحوت كيرعى من تحت البوابر .. الحوت كيحب الظلام - بصح .. والله إلا بصح ..معلم آ حميد .. - ولكن كيفاش ماشنطلعو .. - وشوف آ الحمار .. الحبل قدامك .. نتعلقو فالحبل ونطلعو .. وما شفنا حتى واحد ..نصادو .. ونزلو .. بخييير - ولكن..وإلى ..؟ - ما ولكن ولو .. مسك عبد الرحمن بالحبل وفي خفة البرق رأيناها وهو يتسلق كجندي مدرب على أعمال العسكرية .. وأحسسنا بالرغبة في التحدي وهو ينادي من أعلى الباخرة .. - ويا الله آ الرجال .. ولا غير الشمايت - أنا ماجي ..شد .. أنا غادي نرميلك القصاب .. عنداك يطيحو فالما وما هي إلا لحظات حتى كنا جميعا فوق ظهر الباخرة .. كانت فارغة من اية بضاعة وكأنها مهجورة .. فانزوينا في آخرها بعد أن اختبأنا وراء مصطبة حديدية عالية تحجبنا عن نظر الحراس ، وانخرطنا نصطاد ..وما هي إلا ساعة زمن حتى بدا السمك يتقاطر على طعمنا الواحدة تلو الأخرى .. لاأزال أذكر أنني أمسكت أكثر من عشر سمكات فيما اصطاد العربي مثلها وعبد الرحمن وحميد .. كان الخير وفيرا . فأحسسنا بنشوة ما بعدها نشوة .. بدأت الشمس تميل نحو الغروب .. لم ننتبه للوقت ..و بين فرح ومرح ونشوة بدأت الباخرة تتحرك ، اعتقدنا في بداية الأمر أن أمواج البحر تحركها ..