الفصل الثالث اقتربت عطلة الصيف .. ولم يكن لاقترابها في عرفنا سوى معنى واحد هو الإحساس بالدونية وقلة ذات الحال والانزواء في ركن الحياة بحثا عن مخبأ يستر ملابسنا القديمة وأحذيتنا المقطعة .. فصيف طنجة كان يحمل لنا معه زوارا من الضفة الشمالية ممن هاجروا واستوطنوا بلاد الصقيع وباتت عودتهم تزدان بشتى أنواع الإبهار والتباهي بسيارات وملابس وآلات كان لعابنا يسيل لرؤيتها. "" لم نكن نصدق ما يحكى لنا عن قساوة الحياة في الخارج ولم تكن عقولنا تستوعب مصدر هذه القسوة ونحن الذين نخوض مفاوضات دبلوماسية وجولات من النقاش والمرافعة للفوز بثمن حذاء رخيص أو قميص قد نضطر لتقسيط ثمنه إذا كان مصنوعا في الخارج. جلست بصحبة عبد الرحمن والعربي على طرف من " سور المعكازين " وقد أنهكنا السير على الأقدام من حي فال فلوري إلى المدينة القديمة.كنا نتأمل الضفة الأخرى هناك عند الأفق البعيد. - يا لطيف آ خاي على شويا وكانت طنجة لاصقا مع اسبانيا - إيوا ومن بعد ؟!! زعما اسبانيا مطفراه ؟؟ حتا هما مقودة عليهم .. ما عندوم لاخدمة .. مقطعين ولاد بو رقعة - بصح ؟؟ إيوا ملي هما ولاد بورقعة حنا شنو غتقول علينا ؟ - شوف اسبانيا كيما كان الحال فيها النظام ... والناس كتعمل الصف باش تركب فالترامبيا ( الحافلة ) حنا باقي كنتهاوشو بحال الحيوانات القوي كيركب على الضعيف - ولكن حنا عندنا الجوامع والآذان والإسلام والبركة - هادي هضرة خاوية .. الهضرة ديال شوارف ( كبار السن ) .. البركة .. ؟!! هههههه وعندنا البراكا ما ماشي البركة !! ونوض الله يجيبك على خير .. فاين هاد البركة .. وباركا من الكدوب .. الناس كيتقدمو وحنا كنتسناو البركة.. - باينة فيك كتكره المغرب ؟ ياك ؟ لي بحالك كيسميوهم المغاربة ولاد السبانيول - أنا ماشي ولد السبنيول وما شي مغربي .. أنا طنجاوي - حلوة هادي .. مواطن من جمهورية طنجة الحازقة .. والله آ خاي العربي .. شفتي طنجاوة شعب حماق..مساليين مع ك......هم قاعهم على الحجر عينهم على البحر وودنيهوم على الخبر .. هادو هما طنجاوة كيحلمو وهما فايقين.. - والله إلا عندك الحق .. ولوكان ما كاينش هاد الناس ديال الخارج كان ماتو بالجوع ... وغير كيجيو الناس دلخارج .. كيبداو طنجاوة يغوتو .. وا عمرو علينا البلاد .. وا غلاو علينا الحياة .. الطنجاوي عمرو ما كيحمد الله - زعما انتوما خلقتو ففاس .. حتى نتوما غير جبالا جيتو بحال هبش لطنجة - أنا ماشي جبلي .. بابا وجدي خلقو فطنجة .. وزيدون كون كنت ولد فاس وكان راني دابا ولد شي وزير - وصافي ساليو علينا من هاد الهضرة الخاوية .. قولي شنو مش نعملو .. ما بقاو فلوس .. - أنا باقي عندي 10 دراهم .. - مزيانة .. نجيبو بها جوج دبوكاديوس ( ساندويش) من عند عبد المالك ونشريو شي فانتا كبيرة ونمشيو للحومة كعطة ( على الأقدام ) - لا آخاي .. انا باغي نشري بها صمطة - ما كاين لا سمطة ولا ق..... الصمطة غادي تشريها لراسك .. وزيدون القياس ديالك ما كايجيش قدنا انت ضعيف بحال المسمار - و لا أصاحبي .. نشريو صمطة كبيرة وأنا نزيد فيها التقابي كنا في غمرة التحضير لصيف طنجة .. صيف كان يقسمنا إلى شعب هاجر وشعب مهجور .. نشتري البنطلون ونتناوب على لبسه والتباهي به .. كما لو كنا أخوة في البيت الواحد .. وكانت تلك أسهل الطرق للتكامل فيما بيننا , فهذا يشتري القميص وذاك يشتري السترة وهكذا نلفق المظهر ونشكل صورة شباب بهندام لائق لإستقبال مغربيات بلجيكا وفرنسا وهولندا .. وبعمقنا حزن وحسرة..كنا الأذكى والأكثر حماسة والأقوى قدرة على تخطي كل الصعاب والمشاكل .. لم يكن ينقصنا سوى الشيب لنبدو أطفالا في الشيخوخة .. شيخوخة امتدت من عمق ذلك المستقبل الذي لم تبرز معالمه بعد وامتطت صهوة ظهورنا في وقت مبكر وأرهقت أحلامنا وحولتنا إلى ضعفاء لا نملك سوى الحلم بمغرب أفضل - شفتي دابا ؟؟ - شنو شفت .. انا ما شفت والو .. وليت عما من كترت الحزقة - وا سمع آ بنادم .. - يا الله هضر .. بسرعة وبدون مقدمات .. فرفر - أنا وليت كنكره هاذ الصيف .. فيه غير الحكرة.. بعدا فيامات القرايا كانكونو مع ولاد الحازقين بحالنا .. - انت باك بوليسي .. ماشي حازق - با بوليسي .. ولكن ماشي شفار .. يعني المانضا وسدات مدام - ما كاينشي شي بوليسي ما كيقبطشي الرشوة - لا.. لا .. عبد الرحمن هادي أنا معارضك فيها .. كاين البوليس لي مقودة عليهم كثار من غيرهوم - المهم .. حنا كنهضرو على الأغلبية - سمع آ بنادم .. نهار لي باقي تجبد بابا على لسانك .. ماش نفتح ليماك كرشك .. - انتينا ماش تفتح ليما كرشي .. شوف هاذ المعيواق ( الضعيف البنية ) كعادتها انتهت معركتنا بتبادل للشتائم واستعراض العضلات دونما الإنتقال للتطبيق .. كنا نفجر كبتنا باستحداث عبارات قوية وبأصوات عالية نستأنس بها ونعزي بها أنفسنا لعلنا نتذكر أننا بشر يحسب له حساب وكثيرا ما كانت خصوماتنا عبارة عن ردات فعل لا إرادية من فرط الضغط والجبروت الذي كان يمارس علينا .. لم تمضي سوى لحظات حتى كنا نجلس على قارعة الطريق ونحن نقتسم الأكل .. ونشرب من نفس القنينة .. تلك كانت أيامنا سوداء كليل قطبي لا ترى الشمس .. بينما كان نور شمس المغرب يغمر بيوتا دون أخرى ويستثني ما يستثني عمدا وترصدا .. أدركنا وعلى مضض وبعد وقت طويل أن مقارعة أبناء وبنات الخارج لا يكفي بالملبس الأنيق بل يجب أن يقترن بلغة فرنسية صحيحة .. وتلك كانت عقدتنا المليون .. ففرنسية مدارس المخزن لم تكن تتجاوز مفردات نحفظها عن ظهر قلب أو جدول صرف عقيم وفي أحسن الأحوال قصة مسيو التيجاني ولا أذكر أنه كان فرنسيا أو مسيو سوغان ونعجته المسكينة .. هههههههههه .. ثم انقضت سنوات لنكتشف أن الفرنسية التي كان يتكلم بها أبناء الخارج كانت مجرد خليط من عربية مبتورة ودارجة فرنسية مشوهة .. واكتشفنا أن ما كانوا يستقدمونه من سيارات وخيرات كانت تستقطع من جفاف عام طويل من الكد والعمل المضني في المعامل والبيوت وورشات البناء .. لكن اكتشافاتنا تلك جاءت بعد أن هاجر منا من هاجر وانقطع عن الدراسة من انقطع من أجل تحقيق الحلم الأوروبي الزائف. وقفت أمام المرآة وأنا أتمطط كالجدي المزهو بلحيته كنت أحضر نفسي للذهاب لعرس أحد عمالنا المهاجرين .. سمعت صوت العربي وهو يصيح: - وا طلق راسك آ العروسة .. باقي ما كملتي من عند الكوافورة - وا صبر آ وجه الحبس .. عطيني شي عشرة ديال الدقايق فاجئتني جدتي وأنا أعبء بعض السكر في كوب كبير .. وأسكبه في صطل ماء دافئ .. استغربت فعلي وهي تضع يدها على خدها من فرط التعجب - إيوا آ وليدي .. ما جبرتي ما تعمل .. علاش كتفسد سانيدا.. ماشي حرام عليك.. السكر راه بالفلوس زعما - الله يرحم والديك آ العزيزة .. راني مزروب - وشدخل الزربة فسانيدا لي كترميها فالما - العزيزة الحبيبة .. هاذ الما والسكر كنعملو فشعري باش يتبوكل - باش شنو ؟؟! - باش يتبوكل ... يتلوى - الله يلوي لباباك المصارن .. آ ولد الحرام من فعايلك .. وكانقول أنا علاش السكر كيتقادا .. ساعة نتينا عامل فيه عمالك - وصافي العزيزة .. باركا من التنكريز .. راه لي فيا يكفيني - وشني فيك آ الدريويش .. واكل , شارب , ناعس , المدرسة كتمشيلها .. شني باغي كثر - وراه الحوالا فالزريبة واكلين شاربين وناعسين..شوف حالتي وحالة ولاد الخارج .. شوف حوايجي وحوايجهوم - الله آ وليدي .. والله ما بقيت عارفا ما نعمل معاك .. دملتلي قلبي بالشكوة .. حمد الله آ الحبيب .. دابا تكبر وتخدم وتشري وتلبس.. بجهد الله والسامعين - فوقاش آ العزيزة .. ملي نعمل العكاز.. سكتت الغالية .. ولمحت شفتها ترتعش واحمرت عيناها فجأة..بكت كما الأطفال وهي تربت على رأسي وتقرأ " قل هو الله أحد " وشرعت تفتح في قفطانها وأدخلت يدها تحت ثيابها البالية لتبلغ صدرها بحثا عن ورقة مالية لعلها وفرتها من مصروف البيت لتضعه في جيب قميصي.. فمسكت العشرة دراهم الذابلة من العرق , قبلتها على رأسها ويدها وقد بلغ مني التأثر أقساه - ياك آ وليدي .. شحال ربيت وشحال صبنت وطيبت ودابا باغي تمشي للخارج وتسمح فيا - لا .. آ العزيزة .. ما كاين لا خارج لا والو .. شفتيني ركبت الطيارة - الله لا يجعل ذاك النهار يكون أو يتسمى .. استوطنت كلماتها الراقية مسمعي وأنا ألقي بنفسي خارج البيت ليتلقفني العربي بعبارت التهكم والتنكيل .. وهو يشبه شعري ببنات الهوى - وغزال شعرك آ ختي .. باينة الكوافورا معلمة .. خاصك غير شي شويا د العكار وها أنت واجد - العكار.. آ الكيدار ( الحصان ) عملو لختك .. - شفتي .. ملي كتزير كتبدى تجبد العائلة .. أنا عمري ما جبت خواتك البنات - وأنا إلى جبدت ختك راها بحال ختي ولا .. شنو - صافي .. صافي .. كيضحك معاك بنادم وكايندم دخلنا العرس وكان الجو مفعما بالكذب والتباهي والنفاق والتعالي .. كلمة فرنسية من هنا وحركة مبالغ فيها من هناك, رأينا الأموال الباهضة وهي تلقى تحت الأقدام لم يحمل العرس علامات الإحتفال المغربي الأصيل , فقد كان كل شيء مزيف ومطلسم بمسحوق غربي رخيص .. وقف العربي مشدوها وهو يتأمل منظر شابة شقراء ترقص بطريقة ماجنة وقد تحلق حولها مجموعة من الشباب من أبناء المهاجرين .. اقتربنا قليلا .. فاستدارت الرؤوس صوبنا سؤالا واستفسارا من يكون هذان اليافعان. فلسنا من أهل العروس وكل ما في الأمر أن أحد أصدقاء ابنة خالة العريس وجه لنا دعوة للحضور فقبلناها دون تردد .. رقصنا مع الراقصين وحشرنا أنفينا بخجل في حوارات المتحاورين .. كان كلامهم تافها لكن ملابسهم جميلة .. كانت نظراتهم لنا باحتقار واستصغار وكأننا من فصيلة ذلك المغرب الذي تركوه يوما وأداروا ظهورهم لأوبئته .. سالت إحداهن العربي عن إسمه فأجابها بصوت متلعثم ARBI - علاش آ صحبي ما تنطقشي إسمك عادي - واش بغيتيني نقولها .. العربي؟ - وعلاش لا ؟ - صافي خطيني عليك ..ما فيا ما يهضر - شعاندك آ خاي العربي .. ؟ - ما عندي والو .. ندمت لي جيت لهاذ العرس ديال ال.. - حتى أنا .. كنا باينين بينهم فحال شي سعيان - آ صحبي أنا لي ما قادرش نفهمو .. هو علاش المغاربة ملي كيمشيو للخارج كيتبدلو .. وكيرجعوا كيحتقرونا - ماشي هما آ العربي ؟ المشكلة فينا.. حيت لي عايشينو حنا حتى الكلاب ما يقبلوش به .. وملي كيمشيو لبلاد الناس وكايشوف الحياة كنبانولهوم حنا بحال شي نوع من المخلوقات العجيبة - وشنو الحل.. ؟ - شنو الحل ؟ - أنا لي سألتك .. شنو الحل ؟ - وأنا كنسألك .. شنو الحل ؟ وقفنا عند مقهى عبد الرحمن بالحي الجديد .. جلسنا نحتسي مشروبنا وكل مطبق في صمت محشو بالخجل.. فيما ارتفع صوت مذيع أخبار التلفزيون المغربي وهو يصف النمو والإزدهار والتقدم الذي تنعم به بلادنا .. وفجأة سمعنا صوت أحد عمال البناء وهو يصيح في نادل المقهى - آ الجبلي .. حيد علينا هاذ ولد الحمارة .. قهرتونا غير بالكدوب .. - وشني ماش نعمل آ المعلم - بدل .. عمل الكورة فالتلفزيون سبانيول راه الريال مع خيخون لاعبين دابا ومازلت بعد إثنتين وثلاثين عاما كلما تحدثت مع العربي أسأله - آ خاي العربي .. باقي ما جاوبتيني .. شنو الحل ؟ - الحل هو ملي نموتو نمشيو للجنة (يتبع) للتواصل مع الكاتب : [email protected] www.elmuhajer.com