عُرف الأفغاني خالد حسيني بروايته المتميزة "عداء الطائرة الورقية" التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي ونالت إشادة عالمية، وبعدها برواية" ألف شمس ساطعة" التي حققت مبيعات كبيرة. في كتابات هذا الطبيب الذي يقضي جزءًا كبيرًا من وقته في خدمة اللاجئين، نفس إنساني كبير، يظهر من خلال هذا المقال الذي نشره بموقع newsstatesman، يصف بكثير من العمق، معاناة اللاجئين السوريين، الذين أضحوا يشكّلون أكبر معاناة إنسانية يشهدها العالم في الوقت الحالي. وفيما يلي الترجمة الكاملة لمقاله: الكثير من الأمور التي نصادفها يصعب استيعابها في شموليتها، فمثلًا وأنت تحاول أن ترفع عينيك في إحدى الليالي إلى السماء، حيث تظهر الملايين من النجوم، ستكتشف حينها أنك لن تتمكن من رؤية كل النجوم في نفس الوقت، فأفضل ما يمكن القيام به هو التركيز على نجم أو اثنين، وهذا هو القصد، ما لا يمكنك استيعابه في مجمله، يمكنك التركيز على جزء منه لفهمه. يمكن قول الشيء نفسه عن معاناة الإنسان، ماذا لو قرأت على سبيل المثال، خبرًا يفيد قتل ما يزيد على 220 ألف سوري منذ بدء الحرب في البلاد، ونزوح 7.6 مليون داخل سوريا بحثًا عن الأمان، وأن 3.9 مليون يعيشون كلاجئين في دول الجوار؟ هذه في الحقيقة أرقام في غاية الأهمية، لكن من الصعب أن نتصور الملايين من الوجوه في كل مرة، فالأرقام تعتبر وسيلة لطمس المأساة الإنسانية الكارثية المترامية الأطراف، لدرجة أن ذلك يقوض قدرتنا على رؤية حقيقتها. في أوائل شهر ماي، ذهبت إلى الأردن مع مفوضية شؤون اللاجئين للقاء بعض السوريين منهم، وهناك استطاع كل لقاء حضرته تذكيري بأهمية ودور القصص في نقل المعاناة، إذ تصبح أكثر أهمية داخل الموضوع من الأرقام. تحقيقا لهذه الغاية، أعرض لكم قصة خالدة، وهي امرأة تبلغ من العمر 70 عاما، ترتدي نظارة طبية تغطي عظام خدها عندما تبتسم. امرأة دمشقية الأصل، كانت تعيش في مسقط رأسها قبل الحرب محاطة بأبنائها وأحفادها. لكن بعد اندلاع الحرب، فهمت خالدة أن الجماعات المسلحة تجبر الشبان على القتال إلى جانبها بعد تهديدهم بالاعتداء على أمهاتهم. استيعابها للأمر، جعلها تقرّر المضي في طريق مجهول، سيمكّنها من حرمان المتشددين والجماعات الإرهابية من السيطرة على شباب أسرتها، فتركت كل شيء خلفها ومضت. تركت خالدة كل ما كانت تملكه، قبل ما يناهز ثلاث سنوات، أبنائها، منزلها، مدينتها، فغدت وحيدة وهي في عامها السابع والستين، امرأة أمية تركت أشلاء روحها بسوريا واتجهت إلى الأردن، هناك أصبحت تعيش وحدها على مشارف عمان، حيث استأجرت شقة فارغة تقريبا، في الجزء السفلي من تلة شديدة الانحدار مكوّنة من غرفة واحدة، وأصبحت مجبرة على القيام بكل شيء لوحدها، ومن ضمن ذلك توفير مورد مالي لنفسها، بالاعتماد على المساعدة التي تقدمها مفوضية اللاجئين، في مبادرة تستهدف السوريين الأكثر ضعفا. كل يوم، تصعد خالدة بخطوات متثاقلة من غرفتها المستأجرة إلى الطريق الرئيسي أعلى التل، لتسافر إلى مدينة مادبا جنوبعمان، وهي رحلة لا تستغرق أكثر من ساعة، تشد الرحال صوبها بهدف الاستفادة من دروس محو الأمية في فصل يغص باللاجئين السوريين خاصة منهم النساء والفتيات، اللواتي كانت خالدة أكبرهن عمرا وأكثرهن حماسة، بسبب اعتبارها أن محو الأمية مهارة تؤكد بقاءها على قيد الحياة، فعبرها تتمكن من قراءة لافتات الشوارع، ووجهات الحافلة، وأسماء أدويتها. خالدة تفتقد سوريا كثيرا، تفتقد بيتها وأطفالها بشكل رهيب، لكنها تؤكد أنها تفضل العيش وحدها في بلد أجنبي، حتى وإن كان ذلك في هذه المرحلة المتأخرة من عمرها، عوض العودة إلى سوريا ووضع أبنائها تحت تأثير التهديد. على عكس خالدة، عدنان ذو ال 29 عاما، يعيش مرحلة ذروة الحياة، أو ما ينبغي أن يكون فعلا. كان بصدد الدراسة في جامعة دمشق للحصول على درجة الماجستير عندما بدأت الحرب، لكن نقاط التفتيش جعلته يفكر في استحالة مواصلة دراسته في الظروف التي لم يعتدها، فقرر العودة إلى منزل عائلته في منطقة الغوطة، لتصبح حياته مليئة بدخان النيران. دوي القنابل كان يملأ المكان، وهنا يتذكر عدنان أنه كان يرّدد طيلة اليوم: "هذه المرة سأموت، هذه المرة سأموت"، خاصة بعدما نجا من تفجير رأى بعده رجال ونساء حيّه وكذا الأطفال يبكون من شدة الألم، وفي الكثير من الأماكن رأى قطع جثث جيرانه متناثرة حول الشارع. في نهاية المطاف، هرب عدنان إلى الأردن مع والدته وشقيقه، ليصبح الآن واحدًا من سكان مخيم الزعتري، الذي يعدّ موطنًا لما يناهز 83 ألف لاجئ سوري، بينما ظل والده في منطقة محاصرة في سوريا. عدنان يشعر بالامتنان لكونه على قيد الحياة. يرى أنه ما يزال صغيرا. يقول "لدينا طموحات، لدينا الأحلام نريد لها أن تتحقق، ولكن للأسف تم ذبحها وقطع الآمال في تحققها"، ولهذا أصبح الملل سيد الموقف في أيام عدنان وغيره من اللاجئين، رغم أنه يفعل ما بوسعه لتفادي ذلك، إذ أصبح يعطي لللاجئين الآخرين دروسًا في محو الأمية المعلوماتية بالمخيم. هذه ليست سوى نماذج بسيطة من قصص لا تعد ولا تحصى، كلها للاجئين سوريين، لكل منها يمكننا أن نمنح صوتا وسط الجوقة، عوض جعلها رقما وسط ما مجموعه سبعة ملايين و600 ألف نازح داخلي، و3.9 مليون لاجئ. ضحايا الأزمة السورية التي أصبحت تعد أكبر أزمة إنسانية في عصرنا، تعاني من مشكل التمويل الخاص بدعم اللاجئين وذلك بسبب النقص في التمويل الذي لا يمكن سد فجوته من قبل المجتمع الدولي والأفراد فقط. صحيح أن المثل السوري القديم يقول إن "الصبر مفتاح الفرج"، ولكن الملايين من السوريين مثل خالدة، وعدنان وأفراد أسرهم يحتاجون إغاثة فورية، ولا مكان للصبر ضمن أفكارهم، حتى لو كانوا يعيشون عليه.