أثار البيان المشترك الذي أَعلن في لوزان السويسرية توصل إيران ومجموعة 5+1 إلى اتفاق إطار حول الملف النووي الإيراني، الكثير من القيل والقال والنقد والإشادة، إن على مستوى الداخل الإيراني أو خارجه. يهمنا التركيز في هذه المقالة على ردود الفعل الداخلية التي أثارها هذا "التوافق".بيد أن ما يُسجل في البدء، هو الطريقة التي استقبل بها عموم الشعب الإيراني هذه الاتفاقية، فعشية الإعلان عن نتائج سنوات من التفاوض والتباحث بشأن الملف النووي الشائك خرج الآلاف من أفراد الشعب الإيراني في مختلف المدن والبلدات إلى الشوارع للتعبير عن ابتهاجهم وسعادتهم بإنهاء مشوار شاق من المفاوضات النووية العسيرة لصالح بلادهم، واستبشروا خيراً بهذه الخطوة التي سترفع العقوبات الاقتصادية عن بلادهم وتجعل عجلة الاقتصاد تدور بسرعة لتنعكس على حياتهم بالرفاهية والازدهار. غير أن هناك طيفاً آخر من الشعب الإيراني لم يبد تحمسه لهذا الاتفاق، ورأى فيه نكوصاً وتراجعاً عن العديد من المكتسبات، وثقة عمياء في الغرب الذي، بحسب هذا الرأي، أخذ أكثر مما أعطى. وسارع الكثير من الباحثين والمتخصصين الإيرانيين إلى تحليل هذا الاتفاق المبدئي وتقييمه لوضع الأصبع على المطبات الثاوية فيه. من ذلك ما أشار إليه حسين شريعتمداري، رئيس تحرير جريدة "كيهان" الواسعة الانتشار، في مقال له تعليقاً على "بيان لوزان" والذي تأسف فيه على النتائج التي أسفرت عنها المحادثات واعتبرها مخيبة للآمال لأن الطرف المقابل أملى على إيران شروطه ورغباته التي طرحها على الطاولة قبل 12 سنة. وانتقد هذا الرجل الفريق المفاوض لبلاده وسجّل عليه الكثير من النقاط السلبية، نجملها فيما يلي : الأمر الأول : الالتفاف والغموض وعدم الشفافية، التي وسمت عمل الفريق الإيراني، وعلى رأسه وزير الخارجية محمد جواد ظريف، لأن المفاوضين كانوا، قبل إعلان نتائج المفاوضات، بوقت قليل، قد أكدوا وصرّحوا بأن ما سيتم الإعلان عنه هو "بيان صحفي مشترك". والبيان حسب التعريف القانوني وثيقةٌ توضيحية غير ملزِمة، ولا تتضمن التعهدات والالتزامات. أما إذا تضمنت تعهدات فيخرجها ذلك من حيز "البيان" إلى نطاق "الاتفاق" أو "التوافق". والوثيقة التي نُشرت، وسمّاها المفاوضون الإيرانيون "بياناً" هي محتوية على تعهدات ملزِمة لإيران. لذلك يرى رئيس تحرير جريدة "كيهان" أن الحكومة، على عكس ما روّجت له، رضخت لعقد اتفاق، والسؤال الذي يطرح هنا لماذا أخفت الحقيقة عن الشعب ؟ الأمر الثاني : جاء في البنود التي تخص إيران في النص الأصلي لهذا الاتفاق، عبارة Iran has agreed to... (وافقت إيران على...) وهنا يجب التساؤل : أي قاموس قانوني وسياسي يفسر Agreement بغير "الاتفاقية" ؟ لذلك يسأل هذا المحلل حكومة بلاده عن السبب في وصف هذه "الاتفاقية" للشعب الإيراني على أنها "بياناً" ؟ الأمر الثالث : كان من المقرر، وبحسب تصريحات سابقة للمسؤولين الإيرانيين ألا يوافقوا ولا يرضخوا لاتفاق من مرحلتين. لكن حسين شريعتمداري يرى أن الفريق المفاوض وافق في البدء على اتفاق مؤطر بتعهدات، وأوكل التباحث والاتفاق على الجزئيات إلى وقت لاحق، لذلك يرى أن المسؤولين تغاضوا عن الخط الأحمر الذي قرروا عدم تخطيه في "اتفاق جنيف"، ولا يرى مسوغاً لذلك. الأمر الرابع : تم التأكيد في مفاوضات سابقة، مراراً وتكراراً، على أن مفاعل "فوردو" يجب أن يظل مركزاً للأبحاث والتنمية النووية، وأن يبقى مشتملاً، على الأقل، على 1000 جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم. لكن المفاوضين وافقوا على تحييد هذا المفاعل عن تخصيب اليورانيوم لمدة 15 سنة، ليس هذا فقط، بل وافقوا أيضاً، على عدم إجراء أية أبحاث أو أنشطة متعلقة بالتخصيب. وهذا يتناقض، بحسب هذا المحلل، مع التصريحات التلفزيونية لرئيس الجمهورية التي تلت الإعلان عن التوافق، بأن إيران حافظت على حقها في الأبحاث والتنمية المتعلقة بالأنشطة النووية. الأمر الخامس : تعهدت إيران في "اتفاقية لوزان" أن تستغل فقط 5060 جهاز طرد مركزي من نوع IR-1 من أصل 20 ألف جهاز فعّال في مفاعل "نطنز". كما التزمت بألا تستخدم أجهزة الطرد المركزية المتطورة التي أنتجتها من جيل 2 و3 و4 و5 و6 و8، وذلك لمدة تصل إلى 10 سنوات. وهنا يتساءل حسين شريعتمداري عن مدى صحة نعت هذا التنازل عن المكتسبات ب"مكتسب لوزان" وينتقد الاحتفال والافتخار به. الأمر السادس : التزمت إيران في هذه الاتفاقية الموقعة في لوزان السويسرية على تقليص ذخائرها واحتياطاتها من اليورانيوم المخصّب من 10 آلاف كيلوغرام الحالية إلى 300 كيلوغرام فقط، وتؤكسد الكمية الباقية، وهي 9700 كيلوغرام، وذلك لمدة 15 سنة. وهنا أيضاً ينتقد المحلل هذا التنازل عن ثمار سنوات من العمل المستمر وجهود خيرة العلماء النوويين الإيرانيين الذين قدموا حياتهم فداء لأبحاثهم هذه، ويستنكر جدوى الاعتداد والافتخار بذلك. الأمر السابع : يستمر حسين شريعتمداري في نقد بنود هذا الاتفاق، ويشير إلى أن نظرة خاطفة إلى نص التوافق توضح، بما لا يدع مجالا للشك، مدى الامتيازات التي قدمتها إيران، بسخاوة، لخصومها، امتيازات قال عنها رئيس تحرير "كيهان" أنها شفافة وواضحة وقابلة للقياس. في مقابل التزامات الخصوم، التي اعتبرها نفس المحلل مبهمة ومتفرعة وغير قابلة للتوضيح. الأمر الثامن : كان من المقرر، وبحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتكررة والمستمرة ألا توقّع إيران على أية اتفاقية دون الرفع النهائي والكامل للعقوبات. غير أن "توافق لوزان" تحدث عن "تعليق" العقوبات وليس "لغوها". وليس كل العقوبات بل جزء منها فقط. ثم إن هذا التعليق سيطبق في فترة تتراوح من 10 إلى 15 سنة. والأهم من هذا كله، هو أن تعليق بعض العقوبات أوكل إلى نتائج تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبخصوص هذه النقطة يسجل المحلل أن: ألف/ الوكالة الدولية للطاقة الذرية طيلة 12 سنة الماضية، لم تعترف بالأنشطة النووية الإيرانية ولم تؤيدها رغم كل التفتيش والتيقن من سلمية البرنامج النووي. ب/ نص التوافق يشير ضمنياً إلى إجراء التفتيش في كل مكان وفي أي وقت لما يسمى ب PMD. أي أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية يجب أن تعلن صراحة في تقاريرها أن الأنشطة العسكرية الإيرانية لا تتوفر على أية معطيات تفيد احتمال استخدامها نووياً. هذا في الوقت الذي أعلنت فيه وكيلة وزير الخارجية الأمريكي في الشؤون السياسية، وندي شيرمان، أن الكثير من الصواريخ الإيرانية قابلة لحمل الرؤوس النووية ويجب تدميرها. بعبارة أخرى فإن تقرير الوكالة الدولية مشروط بتوقف إيران عن صنع الصواريخ البالستية وتدمير الصواريخ المصنوعة. من ناحية ثانية، يرى حسين شريعتمداري أن تعليق العقوبات رهين بتقرير الوكالة الدولة للطاقة الذرية هذا. ولأن هذه الوكالة تحقق في الصواريخ البالستية تحت مسمى PMD، فإنها سرعان ما سوف تقرر إعادة فرض العقوبات المعلّقة على إيران. ويخلص المحلل الإيراني في نهاية تحليله إلى أن إيران قدمت امتيازات سخية فيما العقوبات لم تبرح مكانها. ويتساءل متهكماً هل هذا هو مبدأ "رابح - رابح" ؟ ويرى باحثون إيرانيون آخرون أن الطريق إلى التوصل إلى اتفاق نهائي بخصوص الملف النووي لبلادهم ما زال شاقاً، رغم أن اتفاقية لوزان قد وضعت إطاراً عاماً للحلول. إلا أن الطرفين المتفاوضين يقران بوجود اختلافات أخرى لم يتم حسمها بعد، تتعلق بكيفية إلغاء العقوبات، وبالأبحاث النووية، وبالمدة الزمنية لإجراء الاتفاق. ولذلك أُشيرَ إلى هذه النقاط في نص الاتفاقية بشكل عام ومبهم. وتحتاج إلى الأشهر الثلاثة المحددة للتباحث والاتفاق بشأنها. من جهة أخرى، وحتى في حال توافق الأطراف على نقاط الاختلاف المطروحة، يمكن أن يطرأ إشكال مهم في مرحلة التطبيق، ذلك أن الجزء الكبير من العقوبات التي تطالب إيران بإلغائها كلية وفي دفعة واحدة، قد فرضه الكونجرس الأمريكي. وماهية موفق الكونجرس ومدى موافقته على إلغاء العقوبات وطبيعة الرد الإيراني في حال عدم إلغاء العقوبات، كل تلك المواضيع غير قابلة للتوقع الآن. لذلك لا يفهم هؤلاء الباحثون الإيرانيون دوافع خروج أبناء جلدتهم للتعبير عن الفرح والسرور بالهتاف والرقص في شوارع إيران، على إثر إعلان الاتفاق، إلا في ربط هذه الظاهرة الاجتماعية بقلة وجود المناسبات السارة في المجتمع الإيراني، مما يضطر أفراد الشعب وخاصة فئة الشباب، إلى الإعلان عن عواطفهم بهذه الطريقة، مرة حين تخسر إيران من الأرجنتين في كأس العالم، ومرة حين الإعلان عن التوافق النووي بين إيران والقوى الغربية.