يتوجب علينا جميعا، في هذا الراهن التاريخي بالذات، الذي نعيشه ونتعايش معه، أن نتحلى بعقلية المراجعة، وتقبل النقد البناء الذي يسير بنا جميعا إلى الأمام، فمن أراد لنفسه ألا يتراجع في الحياة، عليه أن يتمتع بمزية المراجعة، ليجنب نفسه مغبة التراجع. أي في منتهى اليوم الواحد، يمكن للمرء أن يجالس نفسه، ليستفيد من نجاحاته التي حققها في ذلك اليوم، ويطورها ويسير بها بعيدا، ولو في أبسط تعاملاته وتصرفاته. وفي المقابل يمكنه أن يمحص هناته ليتجنبها، بتصحيح أسلوبه، وتنقية سريرته، كي لا يقترفها مرة أخرى. عبر هذه الممارسة، يرفع الإنسان من مردوديته على مستوى التعامل الإيجابي حتى يصير به إلى الأحسن والأنفع، وبذلك نكون قد حققنا انجازا هائلا على المستوى الشخصي، وإن بدا مضمرا، يمكن لنتائجه البسيطة أن تصير تراكما وأنموذجا، يمثل قطافا دانيا لمن هم في دوائر محيطنا، وللخلف الذي يأتي من بعدنا، وشتان بين الفساد بكل صوره، وبين الصلاح بكل قيمه. فهذا الاختيار عليه أن يكون اقتناعا راسخا يسود حياتنا، ونحمي من خلاله تصرفاتنا وتعاملاتنا، كي لا نتجاوز حدودنا وصلاحياتنا، في مس حقير بحقوق الآخرين ومكتسباتهم، وكما جاء في مقدمة العقد الفريد لابن عبد ربه: قد عرفناك باختيارك إذ .... كان دليلا على اللبيب اختياره فبمحاسبة الذات ومراجعتها، تزداد قيمتها وتتزكى نجاحاتها، وما الحسرة إلا على أنفس تركت لغفلتها دون محاسبة أو مراجعة، إذ النفس التي تترك في غفلتها، إلا وتكون مثوى الشيطان.لذا، إن كان الإنسان مجبولا على الخير والشر، لما لا يطور أساليبه في الاتجاه الإيجابي، حتى يفيد ويستفيد، وتكون الاستفادة هنا مصدر فخر، إذ يحقق انجازا يستفيد منه على المستوى الشخصي دون أن يصل أذاه لأحد، بل ربما تكون الاستفادة متبادلة، في مقابل الوصول إلى غاياته بأساليب ملتوية، وإن حققت له مكاسب مرضية على المستوى الآني، تصير مبعث قلق واحتقار، بتوالي الأيام والسنون. فمحاسبة النفس ورصد عيوبها، من أهم السبل إلى معالجتها وإصلاحها، في مراجعات تنشد البديل الموضوعي الذي يحسن سعيها ويسمو بأفعالها، فالنفس ذات مَهاو سحيقة إن لم نعلم مدارجها صرنا إلى مهاويها.والآخر لم يكن أبدا، في يوم من الأيام جحيما، بل هو الطرف المعاون والمتعاون معه، من أجل مد جسور التواصل والحوار، إذ عبر هذا المد والامتداد، يتجلى رقينا وتحضرنا، وكلما امتدت هذه الجسور إلى أفق معلوم، نكون قد برهنا إجرائيا على تحسن أدائنا وتعاملنا، فعبر المراجعة يتحسن الفعل الإنساني ويسير في مسالك الإيجاب، كما يصير إلى نبل. هكذا يظل الحوار آلية تفاعلية مع ذواتنا، وجسرا ممتدا إلى الآخر من أجل فهمه واستكناه رؤاه وتوجهاته، بدل إقصائه والترامي على مكتسباته، كما يمكننا من إعادة بناء العلاقة مع الآخر، ليبقى الحوار ضرورة حتمية وواجبا إنسانيا للتعايش السلمي في المجتمعات وبين الحضارات والشعوب، ليتطلب فضلا عن الوعي به، ضرورة الالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية، لأنها القاسم المشترك الذي يوحد الجميع، فهو يسهم بدرجة كبيرة في التقارب بين البشر، وفي إزالة الحواجز المتراكمة من سوء الفهم المتبادل، ومن الأفكار المسبقة القائمة على أسس غير صحيحة، مما يجعل من مواصلة الحوار وتوسيع دائرته وتفعيل آلياته، رسالة النخب الفكرية والكفاءات الثقافية والعلمية، ومسؤولية المهتمين بالمصير الإنساني بصفة عامة. فالحوار لأجل التعايش السلمي بين الناس وبين الشعوب والأمم، هو اختيار الحكماء وسبيل العقلاء، إذ يمنع النفس الأمارة بالسوء من الاعتداء على مكتسبات الآخر وحقوقه، فهو وسيلة فعالة لفض النزاعات وحل المشاكل وإنهاء الأزمات التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية المعاصرة، كما أنه صفحة أخرى للفعل الإنساني الذي يؤمن بالفعل الإيجابي الذي يخلق فرصا متنامية أمام العقل البشري ليستفيد من مدخراته، بدل إهدارها في متاهات أوصلت المجتمعات إلى مواقف محتقنة، لا تمت للرقي الحضاري بأي صلة كانت. ولأن الإنسان الفاعل هو الذي يؤمن بمسؤوليته في تنوير المجتمع، وإبراز مباهج الحوار وتفعيل قيمته في المجتمعات، لما يكتسيه التواصل من أبعاد تجعلنا نبحث على الحكمة أنى كانت لنستفيد منها. وذلك وفق رؤية واضحة وبرنامج متواصل لترسيخ المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية في أكثر من اتجاه، وفي المجالات التي تخدم المجتمعات. ولأن النخب في جميع المجالات، كلما ساهمت في إرساء القيم الإنسانية، ونشر مباهج الأخلاق، وأسست لمعرفة طموحة لبناء المجتمعات، وشيدت جسور التواصل والحوار، إلا وسوف تسجل الذاكرة التاريخية مواقفها لتحفظها الأجيال، وفي سياق أهمية مراجعة الذات ومحاسبتها على جميع أفعالها، كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلى بعض عماله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة". [email protected]