إن النسق الثقافي الذي لا يؤسس للتعايش بين الشعوب، ولا يؤسس الرؤية إلى الوجود الدولي على أساس قيم السلم والاعتراف بحق المُخْتَلِفِ في الوجود، نسق مدمر لذاته وللآخرين. لقد خلقنا الله شعوبا وقبائل وأقواما وأمما لنتعارف لا لنتقاتل. وبناء ثقافة التعارف في حياة الإنسانية اليوم تستلزم تربية وتنشئة، فضلا عن إعادة النظر في كثير من القواعد والمفاهيم المؤسسة للقانون الدولي السائد راهنا. كما ينبغي أن نعترف بأن وعينا الإسلامي المعاصر يحتاج هو أيضا إلى إعادة النظر في كثير من المفهومات الموروثة التي لا تزال تعوق وعي البعض في رؤيتهم المتشددة تجاه المُخْتَلِفِ، تلك الرؤية التي يغذيها أيضا النظام الحضاري الغربي بسياساته الاستعمارية الموغلة في الصلف والاستعلاء على حضارة الإسلام. ومن بين هذه المفاهيم التي تحتاج في نظري إلى إعادة نظر، وتفعيل للقراءة النقدية الممحصة، تلك الثنائية المفهومية (دار الإسلام/ دار الحرب). إذ يصر البعض على استعمال هذه الثنائية لتقسيم العالم. ويَنظر إلى هذا التقسيم بوصفه مطابقا لرؤية الإسلام للوجود الإنساني. فالعالم عندهم فسطاطان لا غير، فسطاط الإسلام والإيمان، وفسطاط الكفر والحرب! بل يذهب بعض منهم إلى نعت أي مراجعة لهذا التقسيم بكونها تحريفا وتزييفا، وكأنها مراجعة لثابت من ثوابت العقيدة والشرع الإلهي! ويتناسى هؤلاء أن مصطلح دار الحرب ودار الإسلام لم يرد في نص القرآن ولا في نص الحديث النبوي، إنما هو مجرد اجتهاد فقهي موجود في باب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية داخل متوننا الفقهية الموروثة، إلى جانب اصطلاحات أخرى عديدة في توصيف الواقع الدولي، وتحديد الصيغ التي يمكن أن تنتظم علاقة المجتمع الإسلامي مع غيره. هذا أولا، وثانيا عندما نرجع إلى المتن الفقهي الموروث مثلا سنلاحظ اختلافا كبيرا في تحديد ليس فقط ماهية دار الحرب، بل حتى ماهية دار الإسلام. ويكفي هذا الخلاف الدلالي توكيدا على أن هذا التقسيم يقوم على اعتبارات ظنية، ومن ثم لا يجوز اعتماده وكأنه مسلمة لا مجال لنقاشها. كما لا معنى لإلزام المسلم اليوم باتخاذ هذا التعبير منظورا لرؤيته إلى العالم، والتعامل معه. هذا فضلا عن أن هذه الثنائية المفاهيمية تنتهي إلى بناء نفسية مغلقة عن التواصل السليم مع الآخر المختلف معنا، وتشريع واقع الحرب لا واقع التعايش بين الشعوب، مع أن رسالة نبينا الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام، هي ابتداء رحمة للعالمينلا حربا عليهم. لكن قد يقال: إن مثل هذه المراجعة التي ندعو إليها، قول في غير مقامه. لأن عقلية الحرب والصراع تسكن أولا الآخر الغربي. وإن وجدت هذه العقلية في وسطنا الإسلامي، فإنها رد فعل لا فعل، حيث إن الغرب هو الذي يثيرها فينا بظلمه واستغلاله لنا. وهذا صحيح إلى حد بعيد، فالرؤية الغربية، رغم لغطها بشعارات التعددية والاختلاف، تعمل على المستوى السياسي إلى محو الاختلاف الثقافي، وتنميط الأرض بأسلوبها في العيش ونمطها في التفكير. غير أن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من أن نرى ذواتنا بتجرد، ونقرأ أفكارنا قراءة نقدية صارمة. ة