فى السّابع من الشهر المنصرم (فبراير) مرّت الذّكرى الثانية عشرة على رحيل الكاتب الغواتيمالي الكبير أوْغُوسْتطو مُونطيرّوسُو (المولود في21 ديسمبر بالهوندوراس 1921(من أب غواتيمالي وأمّ هوندورية)، والمتوفىّ في 7 فبراير بالمكسيك2003) الذي خلق من الخرافات،والخيالات،والحكايات،والأساطير قصصا أعتُبِرت من أجمل ما كُتِب في الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر ،إذ يجمع مختلف النقّاد في العالم الناطق باللغة الإسبانية، أنّ مونطيرّوسو يُعتبر من أقطاب كتّاب القصّة القصيرة في الآداب المكتوبة باللغة الإسبانية ، ليس في أمريكا اللاتينية وحسب، بل في العالم أجمع. يقول عنه الناقد الإسباني "إيطالو كالفينو": "إنّ القصص التي خلفها لنا هذا الكاتب تُعتبر من أجمل القصص في العالم، لقد كان ظاهرةً فريدةً لا تتكرّر في الآداب الإسبانية، كان بارعاً في الإيجاز المُوفى، والإختصار البليغ،والتهكّم اللاّذع، ممّا جعل منه بدون منازع سلطاناً للسّخرية فى الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر . تشريح المجتمع بمبضعٍ دقيق إعتمد مونطيرّوسو في كتاباته مثلما هو عليه الشأن مع الأديب الأرجنتيني الرّاحل خورخي لويس بورخيس، على بعض الخرافات، والأساطير، والحكايات، والقصص الغريبة، ممّا جعله يخلق له عالماً أدبياً متميزاً خاصّاً به، يقوم على النقد البليغ،والملاحظة الذكيّة الدقيقة لبواطن الأمور. ومعاني قصصه القصيرة ومضامينها مستقاة ومستوحاة في معظمها من الأمثال السّائرة، والحِكم المأثورة، والأشعار،والأقوال المتواترة ، بل ومن صُلب المجتمع ذاته، إنه يحوّل كلَّ ذلك إلى نصوصٍ آسرةٍ تقوم أساساً على السّخرية المرّة من مظاهر الحياة ومفارقاتها، وتشرّح المجتمع بمبضع دقيق. ويقول الكاتب المكسيكي المعروف "خوان رولفو": "القصّة القصيرة هي ضربات فأس هنا وهناك، وعمليات مراجعة وحذف، وإضافة، وطرح وجمع، والقصّة لها فرصة واحدة في الزّمان والمكان، وحظها يتقرّر في الحين مباشرةً بعد مرحلتين: كتابتُها ثمّ قراءتُها. فأيّ طلبٍ أو تعديلٍ،أو تنقيحٍ، أو إضافةٍ، أو وصيّةٍ لاحقةٍ أو تنميقٍ أسلوبيّ لا جدوى منه". كيف يراه معاصروه؟ تقول عنه الكاتبة الاسبانية المعاصرة الرّاحلة "أنا ماريا ماتّوتي"(الحاصلة على جائزة سيرفانتيس، أعلى تكريم في الآداب الإسبانية): "لقد كان مونطيرّوسُو شخصية فريدة في بابها، كان شخصاً إستثنائياً في عالم الأدب، كان مولعاً بالسّخرية والتهكمّ اللاذعين، كلماته، وتعابيرُه، في قصصُه كانت تبدو وكأنّها شعر منظوم، قائمٌ كالبنيان، لا زيادة ولا نقصان، ولا حشو، ولا إطناب، إنه كان يقول الكثير باستعمال القليل من الكلمات، فقد كان مُقلاّ في كلامه، مثلما كان مُقلاّ في كتاباته وهيئته ، كان قميئاً سميناً، وكان لون وجهه ورديّاً مثل الأطفال". ويقول عنه الكاتب الكولومبي الكبير ألفارو موتيس: "لقد تعرّفتُ على مونطيرّوسو عام 1956 عندما وصلتُ الى المكسيك، كان كاتباً جيّداً، ومتفقّهاً في اللغة الاسبانية، كنا نمضي ساعاتٍ طويلةً ونحن نستمتع بقراءة دون كيشوت لسرفانتيس، لقد أعجبتُ بأسلوبه الأصيل الذي يطبعه الوضوح، والمرح ،ويتميّز بالمرونة والنفاذ وعدم الإلتواء، كان معروفاً بأسلوبه الشخصي، لدرجة أنه في إمكان القارئ الجيّد أن يميّز أسلوبَه حتى وإن لم يكن إسمُه مكتوباً الى جانب عمله الأدبي". ويشير الكاتب البيروفي" ماريو بارغاس يوسا "(نوبل فى الآداب ) الذي يعرف مونطيرّوسو منذ سنوات عديدة : "كان رجلاً لطيفاً، طيّبَ المعشر، إنه واحد من هؤلاء الكتّاب القلائل المعاصرين الذين أعتزّ بمعرفتهم. كان متواضعاً يميل للسّخرية، وهو معروف بتضامنه وتعاطفه مع المستضعَفين والمهمَّشين، إشتهر بكتابة نصوص أدبية مُوجزة إلاّ أنه كان يجعل من هذه النصوص على صغرها، وقلّتها،وإيجازها تتفجّر بالأفكار والمعاني الكبيرة، وقد خلّف لنا عالماً أدبياً متميّزاً خاصّاً به إنطلاقاً من القصّة القصيرة جدّا بالذات". أما الكاتب المكسيكي الراحل " كارلوس فوينطيس" فيقول عنه : "كان مونطيرّوسو معروفاً بجمالية نصوصه، بل لقد كتب أجملَ النصوص في الآداب الأميركية اللاتينية في القرن العشرين، فما كان يتطلب منّاّ كتابته في مائة صفحة، كان مونطيرّسُو يُوجزه في عبارة واحدة" . الدّيناصور..ما زال هناك! وإشتهر أوغوستو مُونطيرّوسُو بأنّه كاتب أو صاحب أقصر قصّة قصيرة جدّاً في العالم،( تتكوّن من سبع كلمات) وهي تحت عنوان: "الدّيناصور" ,وهي مُدرجة ضمن كتابه " الأعمال الكاملة وقصص أخرى" وهي كما يلي : ( عندما إستيقظ ،كان الديناصور ما يزال هناك...). “Cuando despertó, el dinosaurio todavía estaba allí". وكأنّي بأوغوستو مونطيرّوسو يريد أن يقول لنا : أن " ننام " أيّ " أن ننسى" لا يعني أنَّ المشاكلَ والمشاغلَ تنتهي، وتزول، وتتلاشى،وهي لا تعالّج من تلقائها،أو بمفردها، ونحن معشر البشر لابدّ لنا أن نصحو، وأن نستيقظ ، ونحن عندما نفعل ذلك نجد دائماً المشاكلَ والمشاغلَ هناك فى إنتظارنا ،وأنه ينبغي علينا أن نواجه مشاكلنا بحزم ونعمل على إيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لها، أو ربّما يريد الكاتبُ أن يقول لنا أشياءَ أخرى كثيرةً أبعدَ،وأعمقَ من ذلك لم تخطر لنا على بال . ! هي قصّة إذن على قصرها، وصغرها ، وإيجازها الشديد تجنح بفكر القارئ، وتثير فضوله وتطلّعه، وتُرخي العنانَ لخياله في عالم الرموز والإيحاءات،والخيالات، والمجاز . وقد كُتب عنها الشئ الكثير بمختلف اللغات، كما قيل في حقّ هذه الأقصوصة أنّ تفاسيرها ومجازاتها لا حصر، ولا حدود مثل الكون ذاته. وهناك أقصوصة أخري عنوانها "المهاجر" يزعم بعض النقّاد (وهم قلّة) أنّها أقصر من قصّة مونطيرّوسو وهي للكاتب المكسيكي " لويس فيليبي لوميلي" وهي كما يلي : (هل نسيتُ شيئا ؟ أتمنّى) . " ولكنّ معظم النقاد الثقات (وهم كثر) يُجمعون أنّ هذه الأخيرة لا ترقى إلى مستوى، وعمق، ورمزيّة،وتناوش، وسخرية أقصوصة "الدّيناصور" . التى طبّقت شهرتها الآفاق . الأمور نسبيّة ! ونقدّم للقارئ بهذه المناسبة نموذجاً لقصصه القصيرة ، وهي بعنوان: "الزّرافة التي أدركت أنّ كلّ شئ نسبي"(**) وهي كما يلي: ( منذ زمن بعيد، وفي بلدٍ ناءٍ، كانت تعيش زرافةٌ ذات قامة متوسّطة، كان بالزرافة غفلة، إذ خرجتْ ذاتَ يوم من الغابة وتاهت، فلم تدرِ أين تسير، ولا أين تتّجه، فصارت تمشي على غير هدىً من هنا الى هنالك، حاولت البحث عن طريق العودة فلم تهتدِ إليه، وهكذا، ظلت تتجوّل في أرض الله الواسعة، حتى وجدت نفسَها في فجٍّ بين هضبتين حيث كانت تدور رَحىَ معركةٍ حاميةِ الوطيس. على الرّغم من أنَّ عددَ القتلى كان مرتفعاً في الطرفين، لم يستسلم المُتحاربان، ولم يسمحا بالتفريط في سنتيمتر واحد من الأرض التي كانا يذودان عنها. كان الضباّط يحثّون جيوشَهم على الصُّمود والإستمرار في القتال بضراوة، والسُّيوف مرفوعة إلى أعلى، في الوقت الذي كان الثلج يكتسب اللونَ الأرجواني بدم الجرحى. وبين تصاعدِ الدُخان، ودَوِيُّ المدافع وضجيجها كنتَ ترى الموتى يتساقطون في صفوف الجيشين الذين يسلمون الرّوحَ في كل حين. الأحياء كانوا مستمرّين في إطلاق النار بحماسٍ منقطع النظير، وهكذا حتى يأتي دورُهم هم الآخرون في السقوط، إلاَّ أنّهم كانوا في تلك اللحظات يضعون في حُسبانهم أنّ التاريخ سوف يذكرهم بفخرالأبطال، لأنّهم كانوا يهبون أنفسَهم دفاعاً عن شرفِ علمهم، أخذ التاريخ بالفعل إقدامَهم وشجاعتَهم بعين الإعتبار، وكان عادلاً، فقد حكم وقضى بالقسطاس لصالح الطرفين بأنهم أبطال، إذ كلُّ طرفٍ كان يكتب تاريخَه الخاص، وهكذا أصبح "ويلنغتون" بطلاً مغواراً بالنسبة للإنجليز، وأصبح "نابليون" بطلاً مقداما بالنسبة للفرنسيّين. إستمرّت الزرافة في المشي ، حتى وصلت إلى جانب من الفجّ حيث كان هناك مدفع كبير. وفي تلك اللحظة ذاتها إنطلقت رصاصة طائشة مرّت بالضبط على بعد عشرين سنتيمترا من رأسها من الجانب الأعلى،وعندما رأت الزَّرافةُ الرصاصةَ تمرّ بالقُربِ منها، وبينما كانت تتابع بنظرها طريقَها، فكّرت وقالت : الحمد لله الذي لم يخلقني طويلةَ القامة أكثرَ ممّا أنا عليه، إذ لو كان عنقي يزيد ثلاثين سنتيمترا فلا بدّ أنّ الرُّصاصة كانت قد أصابتني في رأسي. والحمد لله كذلك على أنّ هذه الجهة من الفجّ، حيث كان يوجد المدفع، ليست منخفضة أكثر ممّا هي عليه، إذ لو كان إنخفاضها يقلّ ثلاثين سنتيمترا لكانت الرُّصاصة قد أصابت رأسي، ثم أردفت قائلة: الآن فقط فهمتُ أنّ كلّ شيءٍ نسبي.. ! ) . و مونطيرّوسو حاصل على جائزة " أمير أستورياس الاسبانية في الآداب "، هذا كما سبق له أن حصل على" جائزة خوان رولفو"، التي تعتبر من أكبر الجوائز الأدبية في الآداب الأميركية اللاتينية والكاريبي.بالإضافة إلى جوائز أدبية أخرى عالمية عديدة، وعن( مشروع كلمة ) التابع " لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة" كان قد صدر كتاب "الأعمال الكاملة وقصص أخرى" باللغة العربية لأوغستو مونطيروسّو،من ترجمة نُهى أبو عرقوب . *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- ( كولومبيا). ** هذه الاقصوصة من ترجمة كاتب هذه السّطور عن الإسبانية،هي مُدرجة ضمن كتابي" أنطولوجيا القصّة القصيرة في أمريكا اللاتينية " تحت عنوان :(عدالة الهنود وقصص أخرى..)،(ص36) الذي نقلتُ فيه إلى لغة الضّاد عن الإسبانية حوالي أربعين قصّة قصيرة من مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية، ،صدر عن المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة2000 .