( ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم عن حقوقه وحريته،بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها،وهذه الوسائل لا يمكن أن تكون إلا تعبيرا عن واجباته)[1]. مع الانفتاح الإعلامي والتطور التكنولوجي المتسارع،أصبحت الحقوق والحريات في المجال التربوي التعليمي علكة رائجة تلوكها الألسن جميعا،الكل يتحدث ويرتل الحقوق ترتيلا والكل يتبجج ويدلي بدلوه عن حق المتعلم ،وما يجب أن يتمتع به من حقوق تحفظ كرامته داخل محيطه التعليمي، وتجعله يعيش مرفوع الرأس،كريم النفس،لا يتلقى الإهانة ولا يمارس عليه العنف ،كيفما كانت تجلياته ولا يضطر ان يطأطئ رأسه أو يحس بالخجل أو الدونية..........والواقع انه لا يجادل أحد في حاجة منظومتنا التعليمية لمجال واسع من الحقوق والحريات ،مع توفير البيئة المناسبة لها وفق منهجية متكاملة لتعزيز اندماجها بالقيم العامة لبناء مواطن صالح يدرك قيم المواطنة وحقوق الانسان . غير أن المغالاة في تضخيم المطالبة بالحقوق ،تحولت إلى عملية إلغاء للأخر ،عوض الاعتراف به ،وعملت على إسقاط النظام المدرسي القائم على الإنظباط والإلتزام واحترام المجتمع والمدرسة وأطاحت بشكل مخجل بقيمة المدرس ودوره الإصلاحي والتنويري.الكل أصبح يطالب بالحقوق وينتصر لشعاراتها في إغفال تا م لما يقابلها من واجبات والسؤال هو كيف يمكن ضمان الحقوق دون واجبات منجزة وقد قيل : ( اجتهادك فيما لك ،وتقصيرك فيما طلب منك ،دليل على انطماس البصيرة منك)[2]. ولهذا لا ينصح بتعليم الفرد ماهية حقوقه وكيفية الحصول عليها ،دون أن يترافق ذلك مع تدريبه على أداء واجباته،وذلك لدرء مفسدة تحول العمل التربوي إلى تربية على الأنانية وحب الذات وعدم الشعور بالاخرين،ومن هنا تأتي ضرورة إشراك الأهل والمدرسة لتعليم الناشئ حقوقه بالتوازي مع واجباته وأن يتعود على أن كل حق له هو في نفس الوقت واجب على الاخرين وكل واجب من واجباته هو بالمقابل حق من حقوق الاخرين،بهذا يمكن أن يزول الإلتباس الحاصل في مفاهيم المتعلم اليوم وتصوراته الواهمة أو المضطربة إزاء الحرية وهو يحكًم أهواءه وأنانيته فيها بغير فهم سليم ولا انظباط أو إلتزام. إن الحق والواجب متلازمان،بل هما وجهان لعملة واحدة،وبهما يقاس تقدم الدول أو انحطاطها،وإذا كان لفظ الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الإكراه والإلزام،فإنه مع ذلك يعبر عن سمو الإنسان وحريته وإلتزامه بما يشرعه لنفسه ،لأن أداء الواجب يضمن الحق كما يعبر عن ذلك الدكتور خالص جبلي :(لعل أكبر خرافة تعلمناها في تربيتنا السياسية شعار الحقوق تؤخذ ولا تعطى،وفي الحقيقة فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى وإنما هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب). إن التوازن بين الحقوق والواجبات هو أساس كل حضارة ،الحق في مقابل الواجب ،والواجب في مقابل الحق،الحق أخذ،والواجب عطاء،ولا أخذ بلا عطاء،ولا عطاء بلا أخذ،فالواجب والحق متلازمان في كل تشريع سماوي أو وضعي،فالواجبات تقابلها الحقوق والحقوق تقابلها الواجبات. ولا يتم بناء التوازن الحقيقي والقوي بين الحقوق والواجبات إلا بالعقيدة الصحيحة لأن (عنصر الإعتقاد مؤيد قوي لعنصر الواجب في مفهوم الحق والحرية عملا وتشريعا،بما ينشأ عنه وازع الدين،وهذا كان له أبلغ أثرا،وأضمن نتائج من الوازع السلطوي الخارجي،بلا مراء)[3]. والإسلام يربط بين الحرية والمسؤولية في تلازم وتكامل لتكون حرية الإنسان إرادة فاعلة في أداء مسؤولياته الحياتية أيا كانت ،وتكون مسؤولياته استثمارا عاقلا ونافعا لحريته من أجل تحقيق مصالحه ومصالح المجتمع والأمة الإنسانية ،أما الحرية المطلقة المزعومة،بغير ظوابط الحدود والقيود،فهي سلوك بهيمي وفوضوي،لا يليق بكرامة الإنسان صاحب الإستخلاف ولا يحقق له الحياة الطيبة الآمنة . وهكذا يقترن حق الحرية اللازمةللإنسان بواجب المسؤولية،ولا معنى لوجود أحدهما دون الآخر ،فالحق والواجب متلازمان كما هو تلازم الحرية والمسؤولية،لأن انتظام حياة الإنسان وصلاحها يقتضي أن يتمتع بالحقوق التي له،وأن يؤدي الواجبات التي عليه ،وإذا ما حصل خلل في هذه المعادلة ،كان الإضطراب في حياة الفرد والمجتمع ،يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي:(فالحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب فهما متلازمان)[4]. (ولكل سعي -قيام بالواجب - أثره وإن قلً،إذ هو يساهم في بناء التقدم والنهظة،تماما كما تساهم القشة الصغيرة في بناء عش الطير)[5]. ويضيف قائلا:( لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة ونسينا واجباتنا،ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب،بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار........وكم رددنا من عبارة( إننا نطالب نطالب بحقوقنا) تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يستسهلها الناس فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب طريق الواجبات )[ 6]. ويتابع قائلا:(لسنا بحاجة إلى نظرية تهتم "بالحق"على حدة أو "بالواجب"على حدة،فإن الواقع الإجتماعي لا يفصلهما،بل يقرنهما ويربط بينهما في صورة منطقية أساسية،هي التي تسيًر ركب التاريخ ومع ذلك فينبغي ألا يغيب عن نظرنا أن " الواجب"يجب أن يتفوق على " الحق" في تطور صاعد،إذ يتحتم أن يكون لدينا محصول وافي،أو بلغة الإقتصاد السياسي"فائض قيمة"هذا "الواجب الفائض" هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد وبناءا على ذلك يمكننا القول بأن كل سياسة تقوم على طلب "الحقوق" ليست إلا ضربا من الهرج والفوضى،والحق أن العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تفسر لنا نشأة الحق ذاته،تلك التي لا يمكن أن نتصورها منفصلة عن الواجب وهو يعدً في الواقع أول عمل قام به الإنسان في التاريخ)[7]. ومما تقدم نستطيع أن نجزم بأن صلاح المنظومة التربوية يقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات،إذ لا يمكن أن يتحقق البناء التربوي التعليمي في طغيان واجب على حق ولا رجحان حق على واجب. ومن هنا فإن تصحيحا جذريا لثنائية الحق والواجب ،أصبح لازما كي تتأصل فكرة الإصلاح وينضج وعي التعامل التربوي ويصبح لمفهوم " الحرية" معنى أكثر وضوحا وأبيّن دلالة،( ذلك أن المنظور الشامل للرسالة التعليمية،يقصد به تكوين شخصية المتعلم في مختلف أبعادها،والمتعلم اليوم محتاج أكثر من أيّ وقت مضى،إضافة إلى المعارف والمهارات،إلى منظومة قيم تمكنه من استيعاب ثقافته وحضارته والإنفتاح الواعي على الثقافات والحضارات الأخرى،كما أنه يحتاج إلى معايير يزن بها ما وفد عليه من مبادئ وسلوكات وأفكار ،ليميّز الخبيث من الطيّب،ومحتاج أيضا إلى أن يعرف غيره في إطار التواصل المفتوح بمنظومته القيميّة النابعة من دينه وحضارته)[8]. وهكذا عندما يدرك المتعلم حقوقه،وواجباته ،ويلتزم بها ،فاعلم أن التعليم بخير ويتجه نحو تحقيق أهدافه وإلا كان فساد الأحوال والإضطراب والضياع وعدم الإستقرار بسبب الإفراط والغلو في فهم الحرية وممارسة حقوقها بغير ظوابط. الهوامش: [1] - مالك بن نبى ،وجهة العالم الإسلامي،ترجمة عبد الصبور شاهين،دار الفكر سوريا،ط 2 ،1970ص،163. [2]- حكمة من الحكم العطائية لإبن عطاء الله السكندري. [3]- دراسات وبحوت في الفكر الإسلامي المعاصر،الدكتور،فتحي الدريني ،ج1ص،51. [4]- مالك بن نبي،شروط النهظة،ترجمة،عمر مسقاوي،عبد الصبور شاهين،مكتبة دار العروبة،القاهرة،ط 2 ،1961،ص،160. [5]-نفسه ،ص،40. [6]- نفسه ،ص،42-43. [7]- مالك بن نبي،وجهة العالم الإسلامي،ص 167-168. [8]-عبد العزيز بن عثمان التويجري،من مقدمة كتاب،القيم الإسلامية في المنظومة التربوية،للدكتور،خالد الصمدي،منشورات الإيسيسكو 2008،ط1 ،ص5.