ذاهلاً، فاغِراً فِي أمام الشاشةِ أتفحَّصُ مَشهداً. ليس المشهدُ المُفجِعُ سينمائيا، نعم صورتُه مُستَرَقَةٌ بركاكةٍ من زمان آخر، لكن إحداثياتِ حدوثه تحيلُ على العراق المعاصر؛ أمر يُمزِّقُ و يحرِّقُ السريرةَ حسرةً و أسفاً...أتسمَّرُ أمامَ الشاشةِ، أُحملِقُ، بعينٍ لا تطرِفُ، في إصرارِ ذاك الداعشي على تحطيمِ تماثيل متحف نينوى في الموصل؛ أتفرسُ جيداً في استقوائِِه لرفع فأسِه عالياً كي يدمِّر، بكل ما أوتي من جهدٍ، آثارا من الإبداع الفني والحضاري الإنساني؛ منحوتاتٍ و تماثيلَ عبرت القرونَ منذ الآشوريين والبابليين، ولم تُبِدها يدُ الإذايةِ في ظل الحضارات المتعاقبةِ، مثلما لم تختفِ في عهد الخلافة الإسلامية، مع وجود علماء دين كبار على مدى مئات السنين... أتأمَّلُ كثاثةَ لحيةِ الداعشي و هيئةَ عمامَتِهِ وشكلَ لباسِهِ القادمِ مِن إحدى مشاهد فيلم "الرسالة" للمبدع الشهيد مصطفى العقاد، فيتكشَّفُ لي، بعد هذا و ذاك، هولُ البؤسِ في فهم هذه "الفرقةِ" للدينِ، واستلابُ عقلِها و مُتَخَيَّلِها المٌقَفَّصَينِ في صراعاتٍ متَوَهَّمةٍ وحروبٍ دينية مُنتَحَلةٍ من زمان آخر؛ فَهْم للدين بئيس مُتجاوَز ذكَّرني بوَرِقِ أهلِ الكهف الذي أبطلَتْ صلاحيتَهُ الصيرورةُ، و سَلبَت قيمَتَهُ السِّنُونُ و الفتيةُ في الكهفِ لا يدرونَ كمْ لبثوا. لم يلتفِتِ الدواعشُ، على غرارِ مَنْ على مذهبهم في الاستلابِ والوهْمِ، أن تلكَ المُجسَّماتِ و المنحوتاتِ قدْ فقدت اليومَ كل معنى ديني، وأنها أضحت عاريةً من كلِّ قداسةٍ، و أنها ترقدُ في متحفٍ لا في معبدٍ؛ إذ لم تعُدْ موضوعَ عبادةٍ و لا قِبْلَةَ عكوفٍ ولا آلهةً تُقَرِّبُ إلى الله زلفى؛ و أن تقديرَها وصيانَتَها من لدن المؤسسات الثقافية الأممية اليومَ هو من تقديرِ و صيانةِ الذاكرةِ الإنسانيةِ، و حمايةِ التراث الإنساني العالمي، باعتبار تلكَ الآثارِ من العلاماتِ التاريخيةِ والجمالية والحضارية التي تعكسُ وعيَ البشريةِ في لحظة من لحظاتها التاريخية. لم يرَ الداعشيّ، بحُكْم عقلهِ المُستَلَب و مُتَخيَّلهِ المُقفَّص، في تلكَ المُجسَّمَات سوى رمزٍ كُفريٍّ ومظهر وثنيّ، يقتضي منه نشرُ التوحيدِ وتصحيحُ العقيدة وهدايةُ الناس و إشاعةُ الإيمانِ و دَحرُ الضلالِ أن يُحطِّمَه ويُدمِّره و يهشِّمَهُ و يجعلهُ جُذاذاً. إن هذا الداعشي يحمِلُ في يدهِ فأساً قادمةً من زمانٍ آخرَ. إنه يتماهى وجدانيا ونفسيا و سلوكيا مع صورِ سلوكات و أفعالٍ تُؤثّثُ مخيالهُ اللاتاريخي، لعلَّ من أبرزها تلك الصُّورةُ التي خَلَّدها القرآن الكريمُ مُمَثلةً في الفعل الإبراهيمي الواردِ في سورةِ الأنبياء، قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ" (سورة الأنبياء: 51 -57). يتماهَى الداعشيُّ مع هذا المشهدِ، و تستولي عليه صُور الكفرة و هم يسجدون لأحجارٍ صماء بكماءَ من دون الله، فتتوقد في دخيلتهِ إرادةٌ هوجاء في أن يؤكّد انتماءهُ إلى السلالةِ الإبراهيميةِ التوحيديةِ، فيطفق يحاكي الفعلَ الإبراهيمي في التنكيل بأصنام القوم، و هو الفعلُ الممتدُّ أيضاً في تحطيمِ ابن الذبيحين صلى الله عليه و سلم، عندَ فتح مكة، للأصنام المنصوبةِ في الكعبة. يفعلُ الداعشيّ ذلكَ بيقين أعمى، رغم جهله الفظيعِ بسياقات الفعل، واقترافهِ لقراءة لا تاريخية للأحداث، ولاقتراب مُبتَسِر للنصوص. جهلٌ و اقترَافٌ يغذيهما فقهٌ حرفيّ يُعادي التصويرَ ويُحَرّمهُ، في إغضاءٍ غيرِ بريء عن قاعدةِ أصوليةٍ معتبرةٍ تُثبتُ دورانَ الحُكمِ مع دوران العلَّة وجودا و عدما. ومعلومٌ أن علةَ تحطيمِ الأصنامِ وتحريمِ التصوير ليست سوى دفع الاعتقاد في ألوهيتها أو اتخاذِها أرباباً من دون الله، وهي العلةُ التي عُدِمَت مع تماثيلِ متحف نينوى، مثلمَا أعدمَها، في أفقٍ أرحب، تطورُ العقل البشريِّ و ترسُّخُ التوحيدِ في سياق ديني حديث متعدد، يقر بحقّ حرية الاعتقادِ ويجَرِّمُ الإكراه في الدين. بهذا الاعتبار، يُضحِي الفعلُ الداعشيّ الموصوفُ آنفاً عنواناً على نوعٍ مقيتٍ من الجنونِ، نُطلقُ عليهِ "جنونَ التماهي"؛ لكونه تماهياً مع الأشكال لا مع المقاصد، مع المباني لا مع المعاني، مع الرسوم لا مع الروح. إنه تماهٍ يَعمَى و يُعمِي عن فروقِِ الزمان والمكانِ و السياق، ليُثمِرَ فهماً حرفيا ظاهرياً "دونكيشوتيا" للدينِ، يُترجم انفصاما حادا وشقيا بين الفهم و الواقع، ويُفضي إلى بؤس مكينٍ في التدين. و ليس البؤسُ في سياقنا سوى افتقادِ "الرشد" في الفعل باسم الدين، ذاك الرشدُ الذي صدر عنه إبراهيمُ عليه السلام في تحطيمِه لمعبودات قومه من الأصنام، قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ" (سورة الأنبياء: 51). لقد تبدَّى "الرشدُ" الإبراهيميّ في مختلَف مناحي ذهابه نحو معرفةِ ربه و دعوته إلى توحيده. و هو رشدٌ ترجمتهُ، ببهاءٍ و جلاءٍ، قيمُ "الفتوة الإبراهيمية"1 ("قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ")، و التي يُمكنُ إجمالُها في "المُحاجَجَة" المفنِّدة للوثنية والمثبتة للوحدانية؛ و "التفكرِ" المثمِر لليقين بالتوحيد؛ و "التساؤلِ" المفضي للاطمئنان، و"التصديق الإيماني" المثمِر للتضحية بكل تعلقاتِ النفس و المؤشر على التحققِ بالخلّة الإلهية ("وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" – النساء 125- ). قيمٌ تشجُ، نوعاً من الوشج، بين أُفقَي العقلِ و الإيمان، و هما شرطا كلِّ رُشدٍ ديني، و بهما يجبُ أن يتحلى كلُّ تماهٍ رشيدٍ مع قيمِ المثال الإبراهيمي، و كلُّ إعلان عن الانتماء لسلالتهِ الروحية. من هذا المنظور نقرأُ التعاملَ الإبراهيمي مع تماثيلِ قومهِ التي وجدهم عليها عاكفين؛ إذ لم يكن تحطيمُ إبراهيمَ عليه السلام للأصنام في دلالته المقصديةِ إلا تحطيماً لمفهوم منحرف للألوهية، واستفزازاً لقومه كيما يشغلوا "عقولَهم" لاختيار دينهم و ترشيد إيمانهم. قال تعالى واصفا مشهد تنكيل إبراهيم لأصنام قومهِ إلا كبيرا لهم بغاية الاستفزاز المذكور: "فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ "." (سورة الأنبياء: 58 -67). إنها براعةُ "المُحَاجَجة"، إحدى قيم الفتوة الإبراهيمية، و التي تجعلُ من الفعلِ الإبراهيمي هنا فعلاً تحريريا للعقولِ والأرواح، فيما الفعلُ الداعشي أمارةٌ على اعتقالٍ كبير للعقل والروح في فهم بئيس لا تاريخي للدين، فهمٍ تخطاه التطورُ وتجاوزه الوعي البشري الحضاري منذ قرون، فضلا عن كونه فهماً يخالف روحَ الدينِ كما يعكسها "الرشدُ" الإبراهيمي، والذي يعلمنا استلهامُهُ و قدْ ارتفعت وثنيةُ الأصنام الحسية، أن ثمةً أصناماً معنويةً و نفسيةً وجبَ هدمُها. ذاك ما نبَّهَنا عليه بعمقٍ دال أربابُ الإشارة العرفانية حيث يقول أحمد ابن عجيبة مثلا: "من أراد أن يكون إبراهيميا حنيفيا فليكسِرْ أصنامَ نفسه، وهي ما كانت تهواه و تميلُ إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية، حتى تنقلب حظوظاً ربانية، فحينئذٍ يريه الحقّ ملكوت السماوات و الأرض، ويكون من الموقنين"2. و من أصنامنا المعنوية اليوم، و التي تستوجب الهدم و التهشيم، التماهي المجنون مع الحقيقةِ، و التعلق المرضي بحبّ الاستهلاك، والتشوف غير المشروع للرياسة والسلطة، و طلب المنافع والمصالح بكل الطرق، والميل للعنف والقتل والدماء تعصبا للذاتِ أو الفرقةِ أو الطائفةِ أو القبيلةِ أو الاثنيةِ، وانتقاما لصفاءِ هويةٍ مُتَوَهَّمةٍ وحِقْداً على المُخْتَلِف. يقتضي الخروج من جنون التماهي الذي وقعَ في شراكِه الدواعشُ - و يهددُ كل تياراتِ التدينٍ البئيس الذي تعكسهُ التياراتُ السلفيةُ المتشددةُ و التكفيريةُ- أن نستلهمَ بعمقٍ معالمَ الرشد الإبراهيمي، ونتمثلَ قيمَ الفتوة الإبراهيمية في سائر تجلياتها "العقلانية" و"الإيمانية". و بعيداً عن كل تفصيل، ندعو إلى تأملِ مجالي هذه القيمِ في الآيات القرآنية الكريمة، حيث تحضرُ "المُحَاججةُ" التي وقفنا عندها آنفاً في مشهد حواري آخر يبهتُ فيه إبراهيمُ خصمَهُ العقدي بسؤال عاصف، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (سورة البقرة 258). و إلى جانب قيمة "المحاججة" بما هي "إقناع" للآخر بالإيمان و التوحيد، ثمة قيمة "التفكر" بما هو نظر ذاتي في الأكوان أو قل طريقٌ تأملي في ملكوت السماوات والأرض يُثمِرُ في المتأمل "الإيقان" بحقيقة التوحيد. إنها القيمةُ التي تطفحُ أبعادُها الغنيةُ من قولِهِ تعالى: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ "(سورة الأنعام 75-79). القيمة الثالثةُ من قيمِ "الفتوة الإبراهيمية" هي قيمة "التساؤل"، و ذلك من حيث هو شكُّ منهجي لعقلٍ مؤمنٍ، بهِ يطلبُ المؤمنُ الاطمئنانَ القلبي، أي درجةً أرقى في معراجِ الإيمان اللامنتهية مقاماتُه. يقول تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن، قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (سورة البقرة، 260). فيما القيمةُ الرابعةُ هي "التصدِيقُ الإيماني"، وهو تصديقٌ ينقلُ المؤمِنَ من اليقين الاعتقادي والاطمئنان القلبي إلى التضحيةِ بكلِّ عزيزٍ على النفس، و كذا بكلّ حظوظها وتعلقاتِها الحسية و المعنويةِ. و تُثمِرُ هذهِ القيمةُ الإيمانيةُ تحققاً بمعاني القرب الإلهي، وبلوغا لأعلى درجات التجوهر الروحي، والتي جعلت من إبراهيمَ عليه السلام "خليلا"، ومن خاتم الرسل صلى الله عليه و سلم "حبيبا". ذاك ما تشيرُ إليه من نواحٍ شتى قصة إبراهيمَ مع ابنه الذبيح؛ قصة بلاءِ الذَّبْحِ و فِداءِ الذِّبْح، قال تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ" (سورة الصافات، 102-111). بهذه القيم، التي يُعدُّ الحوارُ ثابتاً من ثوابِتِها، تشِجُ الفتوةُ الإبراهيميةُ بين أفقي العقل والإيمان، مما يجعلها معيناً غنيا بالإشاراتِ التي يمكنُ الاستنارةُ بها في مَسارَي العقلنة والروحنة. هذان المساران اللذان نحتاجهما بقوة و إلحاحيةٍ للخروج مما يعانيه تديُّنُنَا المعاصر من بؤسٍ، و للتعافي مما يفتكُ بهِ من جنونِ التماهي. للافتكاكِ من بؤس التدينِ، إذن، سيكونُ لزاماً علينا تلقيحُ تديننا اليوم بالروح الإبراهيمية القائمةِ على الوشج الرفيع بين التساؤل والتصديق، بين العقل والإيمان؛ خصوصاً و أن النبوةَ المحمديةَ الخاتمة، ومن خلال تجريدِ التوحيد، و التوقيعِ على رشد العقل بختم النبوة، وتجسيدِ مكارم الأخلاق، و فتح التعامل الرحموتي على المعنى الأنطولوجي الكوني؛ قد أهلتنا لمحاصرةِ ومجاهدة كل أوثانِ العقلِ والنفس و تحطيم نوازعِ الشر فيهمَا، كيما تَحلَّ محلهما قيمُ العدل والحريةِ و المساواةِ، و حُلى المحبة والرحمة و نشدان الخير للعالمين. فيما يحتاج جنونُ التماهي، هذا الداء الفتاك، إلى تلقيح آخرَ مزدوج؛ تلقيحٍ بالوعي التاريخي النقدي لإدراكِ الفروقِ بينَ المقاصد الثابتة المتجاوِزَة للمشروطية التاريخية و بين الطرائق و السياقات المتحولة المقيَّدَة بتلك الشرائط؛ و تلقيح ثانٍ بروح الإيمان بالقيم الكونية التي من أجلها بعثَ اللهُ الرسلَ، و في سبيلها عملَ و بذلَ حكماءُ أهل العلم والتربية و الفلسفة والأدب والفن من نخبة البشرية منذ القدم؛ أعني قيمَ العيش المشترك، والقبول بالاختلاف، والحق في الحياة، وتقديس وجود الإنسان على الأرض. تلك القيم التي كانت فأسُ الداعشي تبغِي، عن جهلٍ مُقدَّسٍ، تحطيمَها وهي تُهشِّمُ بلا رحمة تماثيلَ و منحوتاتِ متحف نينوى. هوامش: 1 - نأخذ هنا الفتوة في معناها الأخلاقي التزكوي الذي يشير إليه كتاب "الفتوة" لأبي عبد الرحمان السلمي. 2 - أحمد ابن عجيبة، "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد"، تحقيق عمر أحمد الراوي، مراجعة عبد السلام العمراني الخالدي العراشي، دار الكتب العلمية، بيروت ، 2005: المجلد الرابع، ص. 358.