(على هامش تحطيم جماعة "أنصار الدين" للأضرحة شمال مالي) ما تعرفه دول مجاورة للصحراء المغربية من تطورات متسارعة بعد سقوط نظام العقيد القذافي، واستيلاء بعض الجماعات المتطرفة على أسلحة متطورة مكنتها من احتلال شمال مالي وإقامة ما يشبه إمارة "طالبان" بأفغانستان قبل سقوطها إثر التدخل الأمريكي، يستدعي التنسيق الأمني والعسكري بين دول المغرب العربي لوضع الخطط الناجعة لصد أي عدوان محتمل على بلدانها من هذه الجماعات التوسعية بطبيعتها العقدية، كما يستدعي من هذه الدول أن تنسى خلافاتها الحدودية المصطنعة، خصوصا وقد تأكد أن تنسيقا جاريا بين تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي والبوليساريو وجماعات تنتمي للسلفية الجهادية. وإذا كان طرح الخلافات الحدودية بين دول المغرب الكبير أمرا ضروريا في مثل هذه الظروف التي تعرفها المنطقة، فمن باب أولى أن تتكتل عندنا القوى السياسية وتوحد رؤيتها تجاه القضية الأم، وتكف عن صراعاتها الضيقة ومناوشاتها لحكومة تحظى بشعبية غير مسبوقة وسند ملكي ودستور يتيح مجالا أوسع للاشتغال، لكن في ظروف اقتصادية صعبة محليا وعالميا،وحنين بعض الجهات النافذة للعودة إلى "التحكم" من أجل الحفاظ على مصالحها التي اكتسبتها خارج أي سند قانوني. استطاعت جماعة "أنصار الدين" التي يقودها الشيخ عياد أغ غالي، ذات المرجعية السلفية الجهادية، أن تحتل شمال مالي في الشهور الأخيرة،وذلك على إثر الانقلاب الذي أطاح بنظام الرئيس أمادو توماني توري، وتغلبها على الحركة الوطنية لتحرير الأزواد التي سبق أن أعلنت استقلال دولة الأزواد، وهي حركة علمانية ناضلت منذ الستينات ضد الحيف الذي لحق بالطوارق. هذا المقال عبارة عن نقاش فقهي للمنطلقات التي يستند عليها الفكر الذي قاد لتحطيم العديد من المزارات والأضرحة التي تعج بها إحدى كبرى مدن شمال مالي ، التي سقطت في أيدي جماعة "أنصار الدين"، وهي مدينة "تمبكتو" التاريخية. إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام يعتبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة السلام أول فتى يحكي التاريخ والكتب المقدسة ثورته على معتقدات قومه الفاسدة وتحطيم أصنامهم بعد مجادلتهم، يحكي القرآن على لسان إبراهيم عليه السلام:( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟ قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين). فالجدال بالحجة والبرهان كان مقدمة للفعل الذي سيدشنه إبراهيم عليه السلام انتصارا للتوحيد، وذلك انتقالا من الجدال النظري إلى إقامة الحجة الملموسة بعد تحطيم الأصنام، إلا كبيرا لهم تركه لعل قومه يرجعون إليه فيسألونه عمّن فعل بهم هذا، وكيف لم يدافعوا عن أنفسهم وهم آلهة، المفروض أن تكون لها سطوة على من يسيء إليها، (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون). عاد قوم إبراهيم من موسمهم فوجدوا أصنامهم محطمة إلا كبيرها، فتعجبوا من جرأة من تطاول على معبوداتهم (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ،قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ؟ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). كانت هذه هي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه، والواضح أنه عليه السلام لم يقصد تحطيم الأصنام لذاتها، وإلا لما ترك كبير الأصنام المعظم عند قومه لم يمسه، فقد كان يعلم أن تحطيمها لا يفيد في شيء مادام تعظيمها مستقرا في قلوبهم، فالأسواق التي تصنعها منتشرة في ذلك الزمان، وإعادة صنعها لا يتطلب مجهودا كبيرا، وفعل الأنبياء منزه عن العبث. محمد صلى الله عليه وسلم يحطم الأصنام عاش نبينا صلى الله عليه وسلم بين ظهراني قومه المشركين 13 سنة، يدعوهم للتوحيد ويسفه آلهتهم دون أن يمسها بسوء، وكان عددها كبيرا قد بلغ 360 صنما حول الكعبة وحدها، وقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يرسل بعض أصحابه يتسلل في جنح الظلام لتحطيم بعضها، لكنه لم يفعل لأنه كان مشغولا بهدمها في عقولهم وقلوبهم، وتثبيت أركان التوحيد، ومقارعة صناديد قريش الذين كانوا يعلمون أن بقاء ملكهم مرهون ببقاء آلهتهم. ثم هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه إلى المدينة تاركا وراءه مشركي قريش وآلهتهم التي تجاوزت أسواق صناعتها 20 سوقا، وأسس دولة القرآن وبنى صلحا مع قريش، فلما نقضته دخل مكة فاتحا وأسلم معظم أهلها رغبا ورهبا، فحطم تلك الأصنام التي لم يعد لها مكان في قلوب القوم، وهي التي عجزت أن تدفع عنهم ذل الشرك، حطمها صلى الله عليه وسلم بعد عشرين سنة من الكفاح والجهاد المضني لمطاردتها من عقول قومه وكسرها في قلوبهم. ومع استتباب الأمر له صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يفعل كل ما كان يرغب في فعله تقديرا لمصلحة التأليف، فعن عائشة رضي الله عنها قالت :"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر ( أي الحجر ) ، أمن البيت هو؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا و يمنعوا من شاءوا ، و لولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم ، لنظرت أن أدخل الجدر في البيت و أن ألزق بابه بالأرض". وهو في الصحيحين. وقد فتح الصحابة مصر ولا زال بها إلى يومنا هذا تماثيل وموميات وأهرامات الفراعنة الذين ادعى كبيرهم (أنا ربكم الأعلى) وقوله (ما علمت لكم من إله غيري). العالم اليوم قرية صغيرة بحكم التطور الهائل الذي تعرفه تكنولوجيا الاتصال والمواصلات، فما يجري في تمبكتو أو أفغانستان أو بورما أو كوانتنامو أو الهند أو الدانمارك أو إيران أو غيرها يصل بسرعة البرق إلى كافة الدول، ويتحمّل جريرته الجميع، لهذا وجب علينا جميعا أن نضع مبادئ لاحترام المعتقدات دون إسقاط الحق في النقد العلمي القائم على الحوار والمطارحة الفكرية. ولعل أول هذه المبادئ التي يجب التمسك بها، ما أمر به القرآن الكريم لما نهى عن سبّ معتقدات المشركين فضلا عن تدنيسها أو تحطيمها فقال :( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) ومعلوم أن هذه الآية نزلت بعد أن هدد المشركون بسب الله عز وجل إذا لم يكف المسلمون عن سب آلهتهم، فنهاهم الله عن ذلك، وهو حكم لا ناسخ له. فتحطيم تمثال بوذا أو سب الصحابة واتهام أمهات المومنين أو الاستهزاء بالأنبياء باسم الإبداع أو التبول على الكتب المقدسة أو إحراقها أو تحطيم المزارات والأضرحة أو الاعتداء على الأماكن المقدسة من مساجد وكنائس وغيرها أو ذبح البقر القدس لدى الهندوس أو غيرها من الأعمال المستفزة لمشاعر المومنين، من شأنها أن تشعل الفتن والحروب وتنمي الأحقاد بين الطوائف والشعوب، خلافا للمقصد القرآني ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم). النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن اتخاذ القبور مساجد لقد شنت السنة النبوية معركة ضارية في وجه القبوريين الذين يعظمون قبور الأولياء ويزعمون أن لهم قدرات خارقة في تفريج الكرب وقضاء الحاجات ورفع البلاء وشفاء المرضى وهلاك العدو والتصرف في الكون، كل ذلك بعد مماتهم زعموا، حتى قال قائلهم :" الولي أسرع إجابة من الله"، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا، فتراهم يستغيثون بهم ويسألونهم ويطوفون بهم ويوقدون السرج عندهم ويذبحون لهم، وذلك كله بدع وضلالات، لأن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". وإنما شنّ الإسلام معركته ضد القبورية لأنها أصل الشرك في العالم، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يشكو إلى الله ظلم قومه : ( وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) أنها أسماء لقوم صالحين، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن اتخذوا لهم صورا وتماثيل كلما نظرتم إليهم ذكروكم بالله، ففعلوا فلم تعبد في ذلك الجيل، حتى إذا نشأت أجيال بعدهم منقطعة عن ذلك المعنى عبدت. وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم لما ذكروا له كنيسة بالحبشة، من حسنها وما فيها من تصاوير، قال: ( إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وفي موطأ الإمام مالك قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهمّ لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). والنصوص في هذا المعنى كثيرة، فما يضر أولئك الذين دخلوا شمال مالي أو غيرها من البلاد أن يبنوا المدارس ويعلموا الناس التوحيد الخالص، فتنشأ أجيال لا تقترب من تلك المزارات إلا من أجل الترحّم على ساكنها، وقد علموا أن الطرق الصوفية هي التي نشرت الإسلام في إفريقيا السوداء ؟ فهل يريدون أن يشعلوها فتنة بين السلفيين والطرقيين ؟ وهل نسوا أن لهم إخوانا يحملون أفكارهم مضطهدين في بلاد أخرى؟ فأين الفقه وأين السياسة ؟ ألا ما أيسر أن يحمل المرء علما، لكن ما أصعب أن ينزله على واقع متشابك معقد، وأيسر منه أن يتدرب على حمل سلاح، حتى إذا تمكن أفسد أكثر مما يصلح، ولله في خلقه شؤون.