تنتهي سورة الإسراء برد ضمني على أهل الكتاب النصارى الذين زعموا أن لله ولدا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وجاء هذا الرد مباشرة بعد عرض مشهد أولئك العلماء النصارى الموحدين الذين يخرون للأذقان يبكون خاشعين يسبحون ربهم كلما سمعوا آيات الذكرالحكيم تتلى عليهم . وذلك لبيان البون الشاسع بين الفريقين الموحدين والمشركين من جهة، ولإقامة الحجة على الفريق المشرك، بإقرارهؤلاء العلماء بالوحدانية وبرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه في أدائها وأمانته في تبليغها. ويتساوق مع هذه الخاتمة من سورة الإسراء افتتاح رائع مؤثرلسورة الكهف التي تتلوسورة الإسراء حسب ترتيب المصحف الشريف. حيث نقرأ مباشرة قول الله عز وجل:(بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذربأسا شديدا من لدنه ويبشرالمؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، وينذرالذين قالوا: اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم ولالآبائهم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا)(سورة الكهف: 18/15). ولايخفى ما في هذا الرد الصريح المباشرعلى دعوى المشركين من النصارى الذين زعموا أن الله تعالى اتخذ ولدا من التقريع والتبكيت والتوبيخ، مع التهويل والتعظيم لما زعموه بغيربينة ولاعلم وما افتروه بدون دليل ولابرهان. فهم إذن مجرد كذبة في دعواهم، أدى بهم الجهل والغرورإلى الإفتراء على الله عزوجل . فجاء هذا الرد والإفحام الإلهيان في مفتتح سورة الكهف ليؤكدا ما اختتمت به سورة الإسراء من رد وإفحام ضمنيين في تناسب وتناغم معجزين. وهذا ملمح يندرج في إطارعلم المناسبة في القرآن الكريم، ولاسيما المناسبة بين فواتح السوروخواتمها، مما يدل على الوحدة العضوية والاتساق المضموني للنظم القرآني. وليس هذا الافتتاح في نفس الوقت إلاتمهيدا للقصة المحورية الرئيسة ضمن سورة الكهف والتي لها ارتباط وثيق بقصة سيدنا عيسى وقومه لأن أبطالها آثروا التعرض للأخطاراستمساكا بالدين الذي جاء به سينا عيسى عليه السلام ومحافظة عليه في وجه التهديد الاستكباري للحكام في زمنهم والاضطهاد الفرعوني والمضايقة الشديدة التي تعرضوا لها على أيديهم لمجرد أنهم مؤمنون بوحدانية الله وبشرية سيدنا عيسى عليه السلام ينكرون أن يكون إلها ويخلصون العبادة لله وحده، بينما قومهم والسلطة الحاكمة مشركون يعتقدون اعتقادات منافية لعقيدة التوحيد الصحيحة. وقد استقت هذه السورة اسمها من مضمون القصة ذاتها، قصة هؤلاء الفتية الذين فروا بدينهم فآواهم الله تعالى إلى الكهف حيث حفتهم عنايته وأظلتهم كراماته وأحاطتهم معجزاته قبل أن تنتهي المدة التي قدرالله لهم أن يقضوها في هذا الكهف المظلم وإذا بهم بعد ثلاثمائة سنة أويزيد يستيقظون من نومهم الطويل فيكتشفون أن الزمن غيرالزمن وأن الناس غيرالناس، وأن الذين كانوا يضطهدونهم حتى اضطروهم إلى الفراروالالتجاء إ‘لى الكهف قد ماتوا، وأن أجيالا انقضت وهلكت، وهاهم أولاء في ظل ملك آخرومع قوم آخرين. فمن هؤلاء الفتية؟ وفي أي عصرعاشوا؟ وماالذي اضطرهم إلى ترك الدنيا وراء أظهرهم والفراربدينهم إلى كهف موحش مظلم؟ وما ذا كانوا يمثلون بالنسبة لقومهم وبالنسبة للسلطة الحاكمة؟ وماذا ترتب على بعثهم من نومهم الطويل وخروجهم إلى عالم غريب عنهم؟ وماهي العبرة العامة من هذه القصة ومغزى العجائب التي اكتنفتها؟ قبل أن نتتبع السرد القرآني لهذه القصة ونحلل مضامينها ونتأمل بناءها الفني وما طبع أساليبها الجمالية، نستأنس ببعض ما دونه المفسرون والمؤرخون عن أحداثها وزمنها وشخصياتها. لأن سياق القصة في القرآن الكريم لم يكن الغرض منه التعريف بهذه الشخصيات وذكرالأسماء وتحديد الإطارالزمني والمكاني للقصة بل كان هوالعبرة الإيمانية والتنبيه إلى آيات القدرة الإلهية المعجزة فيها حتى يؤوب الشاردون إلى رشدهم ومنهم على الخصوص أولئك الذين سألوا النبي سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الفتية قاصدين التعجيزوالإنكارفإذا بالوحي الإلهي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم مبينا حقائق هذه القصة العجيبة. فكان ذلك من أسباب نزولها وهي سورة مكية. قال أبوجعفرمحمد بن جريرالطبري رحمه الله في تفسيره الجليل: " جامع البيان في تأويل آي القرآن" في معرض حديثه عن سبب نزول سورة الكهف:" وقيل : إنما افتتح جل ثناؤه هذه السورة بذكرنفسه بما هوله أهل وبالخبرعن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير، وأمروهم بمسألتهموه عنها وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فهو متقول. فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخرمجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده وأنه متقول، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم، وافتتح أولها بذكره، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدثوها بينهم"(ص 17230). وسرد الإمام الطبري رحمه الله أسماء وأقوال الذين ذكروا هذا بالسند المتصل. وذكرفي سبب مصيرهؤلاء الفتية إلى الكهف الذي قص لنا الله تعالى قصته في كتابه أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى، وكان لهم ملك عابد وثن، دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم، أويقتلهم، فاستخفوا منه في الكهف. ثم ساق السند المتصل إلى عمرومفسرا قول الله تعالى (أصحاب الكهف والرقيم) : كانت الفتية على دين عيسى على الإسلام، وكان ملكهم كافرا، وقد أخرج لهم صنما، فأبوا، وقالوا:(ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا )(18/14). قال : فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله. فقال أحدهم : إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه، فانطلقوا بنا نكن فيه، فدخلوه، وفقدوا في ذلك الزمان، فطلبوه، فقيل: دخلوا هذا الكهف، فقال قومهم: لانريد لهم عقوبة ولاعذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف، فبنوه عليهم ثم ردموه، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى، ورفع البناء الذي كان ردم عليهم، فقال بعضهم لبعض:(كم لبثتم؟) ف( قالوا: لبثنا يوما أوبعض يوم) حتى بلغ (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة)(1819). وكان ورق ذلك الزمان كبارا، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب، فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة فأنكرما رأى، ثم أخرج درهما، فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم، وقالوا: من أين لك هذا؟ هذا من ورق غيرهذا الزمان. واجتمعوا عليه يسألونه، فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون، فنظروا في ذلك اللوح، وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقد، فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له: انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه، ليريهم، فدخل قبل القوم، فضرب على آذانهم، فقال الذين غلبوا على أمرهم (لنتخذن عليهم مسجدا) (18 21). وفي رواية عن ابن إسحاق قال: مرج أمرأهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم على ذلك بقايا على أمرعيسى ابن مريم، متمسكون بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم، ملك من الروم يقال له: دقينوس، كان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم، كان ينزل في قرى الروم، فلا يترك في قرية ينزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلاقتله، حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل دقينوس مدينة الفتية أصحاب الكهف فلما نزلها دقينوس كبرذلك على أهل الإيمان، فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه(...) فلما رأى ذلك الفتية أصحاب الكهف حزنوا حزنا شديدا، حتى تغيرت ألوانهم، ونحلت أجسامهم، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة والتحميد والتسبيح والتهليل والتكبيروالبكاء والتضرع إلى الله، وكانوا فتية أحداثا أحرارمن أبناء أشراف الروم" (تفسيرالطبري : ص17268 17270). ولعل في هذا الذي ساقه الإمام الطبري ما يحدد لنا الإطارالعام لقصة أهل الكهف، مما يساعدنا على استجلاء دلالاتها وتذوق جمالياتها.