عالج المشرع المغربي مسألة إنعقاد الإختصاص القضائي أو ما يعرف بالإختصاص المكاني أو المحلي من خلال القاعدة الثلاثية ، حيث يرجع الإختصاص إما لمحكمة مكان ارتكاب الجريمة أو محكمة مكان إلقاء القبض على المجرم أو أحد مشاركيه أو محكمة موطن إقامة المجرم ، و ذلك من خلال المواد 44 و55 و 259 من قانون المسطرة الجنائية. فالثابت أن موضوع الإختصاص في الجريمة الإلكترونية و في غياب إطار تشريعي يحكمه و ينظمه يتم التعامل معه وفق قواعد الإختصاص المحلي التي أشرنا إليها و هذا ما يطرح جملة من الصعوبات ، خصوصا أن مكان ارتكاب الجريمة الإلكترونية و الذي يكون دائما في البيئة الإفتراضية غير الملموسة يختلف عن مكان ارتكاب باقي الجرائم التقليدية الأخرى في العالم المادي الملموس. فتطبيق القواعد التقليدية التي تحدد معايير الإختصاص لا يتلاءم مع طبيعة الجريمة الإلكترونية ، حيث يصعب تحديد مكان وقوع الفعل الجرمي في هذه الجرائم ، لأن الطبيعة الخاصة لهذا الصنف من الجرائم المستحدثة تتطلب تجاوز المعايير التقليدية ، الشيء يجعل من الصعب تطبيقها على الجرائم الإلكترونية على اعتبار أنها لا تتلاءم مع تحديد محل وقوع الجرم في العالم الإفتراضي، فهذه الجرائم لا تعترف بالحدود الجغرافية و السياسية للدول و لا بسيادتها، بحيث فقدت الحدود الجغرافية كل اثر لها في هذا الفضاء المتشعب العلاقات، و أصبحنا بالتالي أمام جرائم عابرة للحدود تتم في فضاء إلكتروني معقد عبارة عن شبكة اتصال لا متناهية غير مجسدة و غير مرئية متاحة لأي شخص حول العالم وغير تابعة لأي سلطة حكومية، يتجاوز فيها السلوك المرتكب المكان بمعناه التقليدي، له وجود حقيقي وواقعي لكنه غير محدد المكان ، و عليه يمكن القول أن قواعد الإختصاص القضائي المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية صيغت لكي تحدد الإختصاص المتعلق بجرائم قابلة للتحديد المكاني و بالتالي لا ينبغي إعمالها بشأن الجريمة الإلكترونية و التي ترتكب في فضاء تنعدم فيه الحدود الجغرافية يبقى معها أمر تحديد مكان ارتكاب الجريمة في غاية الصعوبة مما ينبغي معه إيجاد قواعد إجرائية تحكم مسألة الإختصاص في هذه الفئة من الجرائم بما يتناسب مع طبيعتها الخاصة. كما نظم المشرع المغربي مسألة الإختصاص المتعلق ببعض الجرائم المرتكبة خارج المملكة من خلال المواد من 707 إلى 712 من قانون المسطرة الجنائية ، حيث اعتبر بعض المهتمين من خلال استقراء أحكام الإختصاص القضائي الواردة في هذه المواد أنها تنسجم و بشكل تام مع ضوابط الإختصاص التي قررتها المعايير الدولية في هذا الباب و المتعلقة بالجريمة الإلكترونية و تغطي جميع الحالات الواردة فيها ، حيث أن المشرع المغربي قد أوجد مجموعة من المقتضيات لجلب الإختصاص أو التوسع في مجاله فهي مقتضيات تنضاف إلى القواعد التقليدية للإختصاص المحلي ،كما أنها تهدف إلى الحيلولة دون الإفلات من العقاب و بالتالي إتاحة المحاكمة أمام الهيئات القضائية المختصة وطنيا. إلا أن مختلف هذه المعايير تبقى في مجملها تقليدية سواء معايير الإختصاص المحلي أو المعايير المتعلقة بالجرائم المتركبة خارج الحدود ، حيث ظهرت معايير مستحدثة تتجاوز هذه المعايير مرتبطة بالأساس ببعض الفئات المستهدفة من هذه الجرائم.فحتى ما تضمنته إتفاقية بودابست و المتعلقة بالجريمة الإلكترونية -باعتبارها تشكل الإطار أو المرجع الدولي الذي يمكن اللجوء إليه عندما يتعلق الأمر بالجريمة الإلكترونية - من قواعد إجرائية متعلقة بالإختصاص القضائي من خلال المادة 22 و المتعلقة بضوابط سريان الإختصاص القضائي على الجريمة الإلكترونية ،حيث وضعت مجموعة من المعايير و التي بمقتضاها تنسق الأطراف المتعاقدة حدود صلاحياتها المتعلقة بالجرائم الواردة في الإتفاقية ، لم تستطع إيجاد حل لإشكالية الإختصاص باعتبارها نصت على معايير هي في الأصل تقليدية مقارنة بطبيعة الجريمة الإلكترونية. فالثابت أيضا من خلال استقراء بعض الأحكام الصادرة عن المحاكم المغربية أن القضاء المغربي في تعامله مع الجريمة الإلكترونية تأثر لا محالة بغياب قواعد إجرائية خاصة تنظم معايير انعقاد الإختصاص في الجريمة الإلكترونية و لازال يحتكم لقواعد الإختصاص المحلي التقليدية و خير دليل على ذلك ما جاء في الحكم الصادر عن المحكمة الإبتدائية بالرباط ، " ...و حيث أن المحكمة بعد تمحيصها لوقائع النازلة و أطوارها اتضح لها بجلاء أن الدفع المثار جاء مرتكزا و مؤسسا و مؤصلا تأصيلا قانونيا و صرفا ذلك أن كل مقومات الإختصاص المحلي الثلاثي الواردة تحديدا في المادة 259 من قانون المسطرة الجنائية تنطبق برمتها على وقائع هذه النازلة ذلك أن محل ارتكاب الفعل الجرمي محل المتابعة يعود إلى دائرة نفوذ المحكمة الإبتدائية بوادي زم و عليه تكون المحكمة المختصة قانونا للبت في هذه القضية هي المحكمة الإبتدائية بوادي زم بحكم و بعلة ما سلف بيانه و بالتالي يبقى الإختصاص المذكور منعقدا إليها مما يتعين معه التصريح بعدم الإختصاص المحلي و بإحالة الملف برمته على المحكمة الإبتدائية المشار إليها." و أيضا مايستشف من خلال حكم أخر صادر عن نفس المحكمة- المحكمة الإبتدائية بالرباط_ و الذي جاء فيه " و حيث الثابت من وقائع الملف ، أن الظنين ألقي عليه القبض بمدينة واد زم و سكنه بنفس المدينة كما أن الأفعال المنسوبة إليه ارتكبت بمدينة خريبكة ، وحيث تأسيسا على قاعدة الإختصاص الثلاثي المنصوص عليها ضمن مقتضيات المادة 259 من قانون المسطرة الجنائية ، فإن مكان إقتراف الفعل هو مدينة خريبكة لذلك فالمحكمة تكون غير مختصة مكانيا للبت في نازلة الحال ، وحيث تبعا للتفصيل المشار إليه فإنه يتعين إحالة الملف على المحكمة الإبتدائية بواد زم." للإشارة فقط فإن موضوع المتابعة في هذين الحكمين كان يتعلق بالحصول على مبالغ مالية عن طريق التهديد بإفشاء أمور شائنة و الدخول عن طريق الإحتيال إلى نظام المعالجة الآلية للمعطيات و تزييف وثائق معلوماتية تزييفا ألحق ضررا بالغير و استعمالها و التقديم لأنظار العموم عن طريق العرض لأفلام خليعة و صور شائنة للأخلاق و الآداب العامة. إلا أنه و بالرجوع إلى الإجتهاد القضائي الفرنسي نجده قد أوجد معايير جديدة للإختصاص المحلي عموما و لمكان ارتكاب الجريمة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالجرائم الإلكترونية وذلك من خلال مجموعة من الأحكام الصادرة عن قضائه المحلي ، حيث صدرت عن محكمة النقض الفرنسية مجموعة من الإجتهادات القضائية و التي تبنت تصورا واسعا لمحل ارتكاب الجريمة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الإلكترونية المرتبطة بالصحافة و في هذا الصدد صدر قرار عن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 8 ديسمبر 2009 اعتبر فيه " أن مكان ارتكاب الجريمة هو المكان الذي تم فيه التلفظ بالتهديد (توجيه التهديد) و ليس في الدول التي نقل الخبر فيها عبر التلفاز أو الصحافة المكتوبة أو الإلكترونية و التي من خلالها علم الشخص " كما اعتبرت محكمة باريس في إحدى قراراتها الصادرة بتاريخ 13 نونبر1998 أنها صاحبة الإختصاص في إحدى الجرائم المرتبطة بالصحافة و التي تقع في العام الإفتراضي حيث جاء فيه " وحيث أن النص المخالف قد تم نشره على موقع أجنبي يمكن الوصول إليه و رؤيته من خلال الولاية الإقليمية لمحكمة باريس و بالتالي فهي من لها الولاية في التحقيق و المتابعة " كما صدرت عن المحاكم الفرنسية مجموعة من القرارات فيما يخص الإختصاص في الجرائم المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية حيث صدر قرارين عن محكمة النقض الفرنسية الأول بتاريخ 9 ديسمبر 2003 قبلت من خلاله اختصاص محكمة فرنسية للنظر في إصلاح الضرر الناتج عن تقليد علامة تجارية في موقع إسباني و لكنه قابل للوصول إليه من فرنسا و رفضت الدفع المثار من أجل عدم إختصاص القضاء الفرنسي" ، و الثاني بتاريخ 5 أبريل 2012 اعتبرت فيه أن التقليد المتنازع بشأنه تم نشره على موقع للأنترنيت يمكن الوصول إليه من فرنسا و بالتالي فإن القضاء الفرنسي هو صاحب الإختصاص في النازلة " ، و في نفس الإتجاه ذهبت محكمة الإستئناف بباريس من خلال القرار الصادر عنها بتاريخ 25 شتنبر 2007 حيث اعتبرت " أن القانون الجنائي الفرنسي هو المطبق و القضاء الفرنسي هو المختص في واقعة التقليد التي قام بها موقع إيطالي و رفضت الدفع المثار بعد إختصاص المحاكم الفرنسية على اعتبار غياب أي فعل مكون للجريمة تحقق في الأراضي الفرنسية و أن الطرف المدني الوحيد هو من جنسية إيطالية". وتأسيسا على هذا كله يمكن القول أن مختلف هذه الإجتهادات القضائية قد أوجدت معايير جديدة لجلب الإختصاص في الجريمة الإلكترونية تتجاوز مختلف المعايير الكلاسيكية و التي وضعت أساسا لتنظيم ضوابط الإختصاص في جرائم تقليدية ترتكب في العالم المادي، فالملاحظ من خلال مختلف هذه المعايير المستحدثة أنها قد تجاوزت المعايير التقليدية لإنعقاد الإختصاص و جاءت بمفهوم جديد لمكان ارتكاب الجريمة الإلكترونية يتماشى و ينسجم مع طبيعة هذه الجرائم . وعليه يمكن القول أن الجريمة الإلكترونية لا تحدها حدود خلافا للجرائم التقليدية الأخرى ، الأمر الذي يجعلها في كثير من الأحيان تستعصي على الخضوع للقوالب القانونية التي تحكم مسألة الإختصاص المكاني ، ومن تم فإن الطبيعة الخاصة لهذا الصنف من الجرائم تتطلب تجاوز المعايير التقليدية قصد التغلب على مشكلة تعدد الإختصاص و العمل على تبني حلول أكثر مرونة تأخذ في الحسبان النطاق الجغرافي لهذه الجرائم وسهولة ارتكابها و التخلص من أثارها و ما إلى ذلك من اعتبارات يفرضها الطابع التقني المتطور لها ، و تجعل من التعاون الدولي آلية مهمة لا مجال لغض الطرف عنها ، فمن الضروري تعزيز التعاون بين الدول في المجال القضائي لضمان الفعالية في محاربة هذا النوع من الجرائم حيث أن ما من دولة يمكنها النجاح في مواجهة هذه الأنماط المستحدثة بمفردها دون تعاون وتنسيق مع غيرها من الدول، ما يفرض حتمية التعاون الدولي لتوحيد التشريعات أو على الأقل لتقليص الفوارق بينها و محاولة تعزيز هذه الآليات حتى لا يستفيد المجرمون من عجز و قصور التشريعات الداخلية من جهة و غياب التنسيق الدولي الذي يعالج سبل التصدي لهذه الجرائم من جهة أخرى ، حيث لا تستطيع أية دولة مجابهة الجريمة الإلكترونية و إشكالية الإختصاص التي تطرحها و التي تتخطى إمكانياتها القضائية بمنأى و بمعزل دون وضع نظام تعاون دولي فعال من أجل إزالة مختلف هذه الإشكاليات ، الأمر الذي أصبح يفرض على المجتمع الدولي البحث عن وسائل أكثر ملاءمة لطبيعتها و تضييق الثغرات القانونية التي برع مرتكبوها في استغلالها للتهرب من العقاب و لنشر نشاطهم في مناطق مختلفة من أنحاء العالم. -باحث في العلوم الجنائية [email protected]