ماهي حقيقة كل الأزمات في منطقتنا: سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية؟ وهل هناك إمكانية لفهم أشكال السيولة في الأوضاع الداخلية لدول المنطقة ؟ الإجابات التعميمية عادة ما توحي باستنتاجات خاطئة ومضللة؛ هذا التمييز بين ما هو سياسي واقتصادي وثقافي متوهم وغير حاصل، الواقع يقول إن مشاكلنا كلها ناتجة عن اضطراب العلاقة بين ما هو ديني من ناحية وبين ما هو سياسي واقتصادي وغيره. هذا الإشكال في طبيعة العلاقة نتج مع لحظة القطع مع التاريخ «سقوط الخلافة» ودخول مرحلة «الدولة الحديثة»، وما تلى ذلك من خطابات ثلاثة بارزة: انفصالي مثلته تيارات سياسية تبنت إيديولوجيات مُباينة للواقع وحاولت إعادة إنتاجها من جديد في بيئة مأخودة بالعاطفة الدينية، لكنها لم تكن مُسيسة. والحال أن تجارب كاليسار والقومية، كانتا الأبعد عن ربط أفكارها بالمناخ الاجتماعي العام، على اختلاف المستويات من اليسار الراديكالي الماركسي، إلى اليسارالإسلامي.. تيار التلفيق أيضا لم ينجح منذ أن أسسه الأفغاني ومحمد عبده؛ فمحاولة أسلمة حضارة الآخر أو حتى بعض مفاهيمها ومخرجاتها الفكرية حمل نتائج عكسية، وأضحى تيارا نُخبويا معزولا ,خطابه كثيرالعيوب والثغرات، وتوقفت حركة هذا التيار عند تجربة علي عبد الرازق، ثم انتقلت إلى تجربة نخبوية مقدسة من طرف الاتجاهات الليبرالية، التي لم تستطع تعميم تجربة التنوير في مرحلة النهضة، ولا أفلحت في تأسيس تيارات يمينية ليبرالية متوافقة مع الحالة الدينية، حيث بالغ الليبراليون العرب في مستوى تطلعاتهم وسقطوا في فخ "الجذرية" التي سقط فيها اليسار والقوميون قبلهم. الإسلاميون ظلوا حتى الساعة داخل محاضنهم الداخلية المحصنة يتعاطون مع متغيرات اللحظة التاريخية من منظور وتصور أُحادي وهو تعميم وتكرار تجربة الشمولية في أبشع صورها التاريخية، وهي تجربة الإسلام السياسي الحديثة، التي تميزت إما بالتطرف والعنف المسلح في محاولة التغيير الجذري، أو إقامة مشاريع انقلابية في الظل عبر التغول الاجتماعي، وإحداث القطيعة مع الأنظمة في فترات ضعفها. وبالتالي فإن مجريات التغيير في الحالة السياسية والاقتصاد والاجتماع والثقافة لم تتشكل بمنأى عن اضطراب علاقة الدين بهذه المكونات، كما أن المناخ الديني العام انتقل من كونه وسيلة مراقبة من قبل السلطة إلى سلطة غير منضبطة ، بسبب انتقال المرجعية الدينية من الإسلام التقليدي إلى الإسلام السياسي، وتحول الفقهاء التقليديون إلى مراجع غير مؤثرة خارج نطاق الفتوى الشخصية، وبرزت مرجعيات دينية غير رسمية لها نفوذ كبير في تشكيل «الحالة الدينية» في المجتمعات العربية والإسلامية. ظهور الأيقونات الدينية المؤسسة خارج هيمنة السلطة مرده أسباب كثيرة، لا يسعف المقام بالتوسع فيها، لكنها في عمومها تعود إلى أنماط جديدة من التدين، التدين الشعبي الحركي والأصولي والجهادي.. وغيرها وكل منها له أساليبه ومقولاته ومرجعياته وأعلامه، وإذا كانت هذه الملاحظات التي تهم هذه الأنماط صحيحة في العموم إلا أن الحقيقة التي لا ينبغي إغفالها هو أن ثمة تحولات كبرى في الخطابات الدينية الرسمية لا سيما ذات الأبعاد العالمية، والتي تتأثر في الغالب بالمتغيرات السياسية العامة المتحكمة نحو خطاب ديني منفتح قابل للتعايش مع العالم المتغير. ماذا عن: الخطابات المتوارية، وأعني بها تلك الحروب الدائرة بين التيارات الدينية والإسلامية المختلفة على الأحقية الشرعية في تمثيل الإسلام الحق، فهذه الخطابات هي التي تجذب العقول بسبب ثوريتها ويقينياتها المطلقة؛ فهناك جملة من المواضيع الدينية والقضايا الشرعية التي ما زالت مؤجلة في خطابنا الديني المعاصر، لكن خارج تلك التجاذبات الداخلية هذه الأسئلة، عادة ما تأتي من مُكون محايد يعبر عن توجه فكري مختلف غير معني بالشرعية أواستمالة الجماهير بقدر اهتمامه بصورة خطابنا الإسلامي لدى الآخر، وغالبا ما يمثل هذا الاتجاه الصحافة والخطاب الفكري والأدبي. تكمن المعضلة في أن الخطابات الدينية التقليدية أو تلك ذات المنحى السياسي النفعي بهدف الوصول إلى فكرة «الخلافة» الطاغية على ذهنية حركات الإسلام السياسي، خطابات لا تاريخية وبالتالي غير واقعية فهي توظف أدوات تفكيروبحت تفرز في المحصلة نتائج سلبية على مستوى علاقة تلك المفاهيم بالواقع، مهما احتجت بشعارات من مثل التقيد بالنصوص الدينية أوتطبيق الشريعة وغيرها... تلك الشعارات التي هي أقوال حق أريد بها باطل، بحيث أصبحت تستخدم كفزاعة لتخويف المعارضين عبر إشهار تهمة "المروق من الدين"، في حين أن كثيرا مما يطرح في مثل هذه المواضيع الحساسة لا يعدو أن يكون عملا برأي فقهي، من بين آراء متعددة جائزة من حيث مرجعيتها الدينية. ما أحوجنا اليوم إلى تجاوز مجرد القيام برصد المعالم السلبية للخطاب الديني، عبرالارتقاء إلى قراءة نقدية لأسس العطْل في بنية الخطاب الذي أعاد بعث الإسلام، وفق رؤى صدامية إيديولوجية تستمد مفاعيلها من شعارات مثالية، تدعي قيادة الأمة، وتطمح للتحكم في مصائرها مع أنها لا تحظى بحق تمثيل الخطابات الدينية الأخرى المنازعة لها فضلا عن وهم امتلاك الحقيقة للتحكم في الأفراد والمجتمعات وفق تصوراتها الضيقة للعالم. الخطاب الديني المعاصر هو خطاب حديث من جهة تعاطيه للقضايا المعاصرة، وإن كان يستخلص نتائجه من خلال الاعتماد على النصوص الدينية عبرأسلوب القياس وربط المُعاصر بوقائع قديمة مع إغفال الفوارق الزمانية الكبيرة, والأكثرمن ذلك أن هذه الخطابات لا تنتظم في إطار توافقي أو أي إجماع؛ فهي منذ بداية المواجهة مع المتغيرات الجديدة لسقوط الخلافة العثمانية، وهي تعيش أنماطا من الانشطار لمحاولة التعايش مع التحولات التي يفرزها الواقع من دون مساءلة للمفاهيم الأساسية التي بنت عليها هذه التيارات كينونتها في الأصل. نعم لتجديد الخطاب الديني، لأنه مطلب مهم وضروي في كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن الحاسم هو تجديد آليات الاجتهاد ومصادر التلقي والفئات المستهدفة عبر طرح كل القضايا العالقة والحساسة حتى لا ندور في دائرة مفرغة كما نحن الآن.