استعاد السجال حيويته، مؤخرا، حول التحالفات (الممكنة)، في سياقنا المغربي، بين العدل والإحسان والفصائل اليسارية، وخاصة فيدرالية اليسار الديموقراطي، بعد تجديد هذه الأخيرة التأكيد (في تعميم داخلي) على رفض التحالف مع الجماعة المذكورة. وكما اللحظات السياسية السابقة، ينشطر اليسار، مجددا، بين مؤيد للتحالف مع الجماعة لتعديل موازين القوى لفائدة التغيير (!)، وبين معارض لهذا التحالف، يضع العدل والإحسان (كأصولية دينية) على نفس المسافة من عوائق التغيير الديموقراطي (الاستبداد المخزني). أما بالنسبة للعدل والإحسان، فعلى خلاف كتابات مؤسسها، الراحل ذ.عبد السلام ياسين، الذي وضع شروطا إيمانية على "الفلول المبثوثة على أرض المسلمين من متقاعدي الثورية التقدمية وأرامل الإيديولوجية"، بمطالبة " المثقفين من ذراري المسلمين بكلمة صريحة واضحة معلنة أنهم مسلمون. وإذاً فلا أرضية تجمعنا، ولا بساط يسعنا إلا الإسلام"، (على خلاف ذلك) تتمسك الأجهزة السياسية للجماعة بضرورة التحالف مع (الفضلاء الديموقراطيين) كمطلب سياسي ملح لإسقاط (الدولة الجبرية). والحقيقة أن جماعة العدل والإحسان، وهي أخر التنظيمات الملتحقة بكل الحركات الاحتجاجية (20 فبراير- دعم الحراك بالريف..)، ولا يرقى سجلها الحقوقي لتضحيات اليسار (شهداء- معتقلون) لا تتردد في التطاول على التنظيمات المناضلة وتنقيط مواقفها حسب درجة تطابقها مع مواقف الجماعة ! أما اليسار، فيتأرجح بين موقفين لا ناظم بينهما. يستبطن هذا التناقض في المواقف حالة ضعف اليسار: تيار استعاض عن بناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين بالتحالف مع مشتقات الاستبداد. وتيار ثاني يؤمن بأولوية بناء اليسار كذات فاعلة في التغيير الذي لن يكون إلا ديموقراطيا. يهمني، هنا، المساهمة في هذا النقاش (الهادئ)، ليس لتضخيم التناقضات والخلافات، وإنما لمساءلة الخطاب السياسي، الذي يدعي بناء المشترك الوطني، حول ممكنات وعوائق التحالف بين الإسلام الحزبي واليسار. إسلام الجماعة ضد "الإسلام المخزني".. أين الاسلام المتنور؟ يستمد وصف "الإسلام المخزني" من بيان جماعة العدل والإحسان، القاضي بالانسحاب من حركة 20 فبراير، باعتباره -الإسلام المخزني- توظيفا للدين لتبرير الاستبداد". مقابل ذلك اجترح ذ. عبد الاله بلقزيز "الاسلام الحزبي"؛ الذي نشأ في قطيعة مع الأفكار الإصلاحية للسلفية المتنورة، ونما في كنف النظم الاستبدادية والتسلطية وفي مناخ انحطاط الثقافة الدينية. إننا، إذن، بصدد صدام إسلام الدولة ضد إسلام الجماعة كنموذج للإسلام الحزبي. فالصراع بين الطرفين على (الدين) ليس لعقلنة الخطاب الديني، بل هو صراع حول احتكار الشرعية الدينية لتبرير/ شرعنة مواقفهما السياسية سواء في تجاه تزكية النظام المخزني أو لتزكية مطلب الجماعة بشأن (الخلافة على منهج النبوة). هذا الصراع حول احتكار الشرعية الدينية لا يهم اليسار. إنه معني، أساسا، في هذا الجانب، بتنوير الخطاب الديني، وبترسيخ فردانية الإيمان (حرية العقيدة) وبإسقاط الوساطة/ الكهنوت. ويحق لنا مساءلة حلفاء الجماعة، من (ذراري المسلمين كما وصفهم ذ. ياسين)، عن مضمون خطابها الديني/ الدعوي من حيث تطابقه، كوظيفة وآليات، مع (الإسلام المخزني) في احتكار الشرعية الدينية وتزكية السلطة القائمة (المخزن) أو المنشودة (الخلافة)؟ ! في هذا الموضوع، وباستحضار سجل الصراع الدموي بين فصائل الإسلام الحزبي، أعتقد أن اليسار مطالب، مرحليا، بجعل الدين تحت الإشراف الرمزي للملك دون أن يترتب عن هذا الإشراف صلاحيات سياسية؛ كتجربة ترأس الملكة البريطانية للكنيسة الأنجليكانية، في إطار الملكية البرلمانية. الديموقراطية.. رفض مُغلف. رغم التناقضات التي تخترق الخطاب السياسي لحركات الإسلام الحزبي، في مطالبتها للأنظمة القائمة بالديموقراطية وحقوق الإنسان، فإنها لا تتردد، بدورها، في تكفير الديموقراطية لمرجعيتها اللائكية (كحالة العدل والإحسان). إن سقف الديموقراطية، وفق منظور معظم (الحركات الإسلامية)، لا تتعدى آليات فرز من يحكم. وهي بهذا المعنى تتعامل نفعيا مع الآلية الديموقراطية التي ستمكنها، كأقلية أكثر تنظيما، في هذه المرحلة، من الوصول إلى السلطة. إن الأحزاب الدينية، في كل التجارب الديموقراطية، لا تعارض الحد الأدنى من القيم الديموقراطية، وهي بذلك مكون أساسي في التعاقدات الاجتماعية والسياسية للأنظمة الديموقراطية. وعلى العكس من ذلك، تنازع الحركات الإسلامية "المعتدلة" في القيم الديموقراطية، مما يعيق التوافق المجتمعي على الحد الأدنى من التعاقدات لبناء المغرب الديموقراطي. وباستثناء تجربة البديل الحضاري والحركة من الأمة، في محاولتهما قراءة الماضي الإسلامي بأفق مستنير، وتثمين القيم الإنسانية، فإن باقي فصائل الإسلام الحزبي، ومنها العدل والإحسان، تستمر في الكفر بالحريات وتعارض تمكين المرأة من حقوقها وتنفعل في كل نقاش خاص بحرية العقيدة. ويمكن، في هذا الصدد، أن نستحضر تطاول كل فصائل الإسلام الحزبي (لا فرق بين المعتدلين والمتطرفين) على تكفير المدافعين عن الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية. لا أحد يطالب جماعات الإسلام الحزبي بالفهم ذاته للديموقراطية، لكن الاستحقاق الوطني، لمواجهة الاستبداد، يستدعي التوافق على الحد الأدنى من الحقوق والحريات الفردية والجماعية التي يستحيل بدونها بناء الدولة الديموقراطية الحاضنة للجميع. إن فشل هذا التحول الديموقراطي في حركات الإسلام الحزبي هو ما يعيق بناء المشترك الوطني. أما من يجر اليسار لهذا التحالف الهجين، دون إحداث المراجعات المطلوبة من فصائل الإسلام الحزبي، فإنه يسعى إلى التغيير باستبدال الاستبداد السياسي بأخر ديني. الدولة المدنية.. شرط التعاقد/ الميثاق الوطني. النقاش المطروح اليوم، بنفس جدول الأعمال، هو استئناف للسجال السياسي الذي رافق حركة 20 فبراير. كان الرهان كبيرا على الجماعة لمراجعة مواقفها من الدولة المدنية وحقوق الإنسان والديموقراطية، غير أن هذا الرهان فشل لتصلب الجماعة في تحيين مواقفها، كباقي الحركات الإسلامية المتنورة، كاستحقاق وطني لصياغة التعاقدات المشتركة المؤسسة للمغرب المنشود. لقد اختارت الجماعة قرار الانسحاب من حركة 20 فبراير، بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكومة، بذريعة أن الحركة، حسب قرار الانسحاب، " حفلت بمن جعل كل همه كبح جماح الشباب، أو بث الإشاعات وتسميم الأجواء، أو الإصرار على فرض سقف معين لهذا الحراك وتسييجه بالاشتراطات"، وهي تقصد بذلك تمسك مكونات فيدرالية اليسار والشباب الفبرايري بالأرضية التأسيسية التي طالبت بمباشرة الإصلاحات السياسية والدستورية المؤسسة لنظام الملكية البرلمانية. والحقيقة أن انسحاب الجماعة، بالتزامن مع مشاركة الحزب الإسلامي، العدالة والتنمية، في الحكومة يسائل الخلفيات الحقيقة لهذا القرار السياسي، خاصة وأن نجلة مرشد الجماعة، نادية ياسين، أشارت إلى دور جماعة العدل والإحسان في عدم الإطاحة بالنظام كما حدث في بلدان "الربيع العربي"! وإذا كانت الجماعة لا تعير اهتماما لطبيعة الدولة (الملكية)، بل طالبتها، من خلال رسائل مرشدها، ب"التوبة العمرية"، فإن اليسار، نموذج الفيدرالية (الطليعة-المؤتمر الاتحادي- الاشتراكي الموحد)، تهتم بمضمونها الديموقراطي الذي يؤلف بين احترام الإرادة الشعبية (كأسمى شرعية) والملكية (رمزية دينية): أي الملكية البرلمانية. إن هذه الاختلافات في تقدير المواقف تغذي المشهد السياسي، غير أن الالتباس، الذي يجري رعايته بالصمت، هو حول تلكؤ الجماعة في التعبير عن موقفها الواضح من الدولة المدنية؛ بما تعنيه من إلغاء للدولة الدينية والعسكرية. ورغم أنه لا يمكن تصور نظام ديموقراطي دون الإقرار بمدنية الدولة، ورغم أن كل التجارب الديموقراطية التي يشارك فيها الإسلام الحزبي تندرج ضمن الأنظمة العلمانية، فإن الجماعة مندفعة في سياسة الإنكار ورعاية الالتباس في مواقفها الحقيقية للالتفاف على هذا الشرط الضروري لصياغة التعاقد/ الميثاق الوطني. قضايا عالقة من المحيط الإقليمي: إن المتحمسين للتحالف مع حركات الإسلام الحزبي لا ينقلبون على موقفهم بضرورة تحييد الدين من الرهانات الحزبية والسياسية، بل يحترفون القفز على الوقائع المادية الماثلة في محطينا الإقليمي، ويجتهدون للتلاعب بسجلات الذاكرة الجمعية لنفي دور فصائل الإسلام الحزبي في عسكرة الثورات وتخريب الأوطان واحتضان التدخلات الاستعمارية في دول المنطقة. كانت هذه الفصائل أدوات طيعة في يد الدول الأمبريالية في حربها على المعسكر الشرقي، وأداة نافذة لإعادة ترتيب المنطقة العربية والمغاربية. كما كنت، ولا يزال بعضها، موضوع توظيف من طرف الأنظمة التسلطية لقمع الحركات اليسارية. ولا يشكل إنشاء "دولة الخلافة الإسلامية" تجسيدا لهذه الوظائف القذرة فقط، بل إنه يجسد مستقبل الرعب الذي ينتظرنا في حالة فشل الإسلام الحزبي في التحول الديموقراطي. أوهام الكتلة التاريخية. بلور غرامشي أطروحة الكتلة التاريخية، اتحاد لأطراف متناقضة (إرادة جماعية فاعلة)، كإجابة سياسية عن تمزق إيطاليا إلى شمال صناعي متقدم وجنوب متخلف خاضع للكنيسة، ولمواجهة المد الفاشي في مرحلة ما بين الحربين. إنه تحالف بين قوى وتيارات وفئات عريضة من المجتمع، تختلف مرجعياتها (شيوعيون- ليبراليون- الكنيسة..)، لكنها تتقاسم الموقف من التغيير والإصلاح، وتتوحد في ولائها الوطني القومي. وإثر "انكسارات" المشاريع القومية أو تلك المحسوبة على اليسار في منطقتنا العربية والمغاربية، استعار محمد عابد الجابري، في مطلع الثمانينيات، مفهوم الكتلة التاريخية، واجتهد لتبيئته مع معطيات الواقع العربي. وفي هذا السياق، دعا الجابري (في مقالة بعنوان: الكتلة التاريخية..بأي معنى؟) قوى اليسار (أو ما يسميه بالقوى الوطنية الشعبية) إلى تدشين عملية الانتظام الفكري والسياسي، في إطار الكتلة التاريخية، لقيادة حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن باستيعاب جميع مكوناته، "العصرية" منها و"التقليدية"، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منه والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد... صفوف المصلين". وفي المقال ذاته، ألمح الجابري، في محاولة محتشمة لتحليل عوائق الكتلة التاريخية في سياقنا السياسي والثقافي، إلى الأخطاء التي اقترفتها (الثورة الإيرانية) "بإقصاء حركة "مجاهدي خلق" ذات التوجه الماركسي، وشخصيات وطنية ليبرالية وازنة، مثل مهدي بارزكان أول رئيس حكومة في إيران الثورة، ثم أبي الحسن بني صدر أول رئيس جمهورية فيها، إضافة إلى تهميش وتجميد شخصيات إسلامية متفتحة مثل آية الله شريعاتي ثم آية الله منتظري الخ". وفي شروط واقعنا المغربي، تنتصب العوائق ذاتها في أي محاولة لبناء المشرك الوطني بين اليسار وفصائل الإسلام الحزبي، لتصلب هذا الأخير في مراجعة مواقفه بشأن الديموقراطية وفلسفة الاختلاف، مما يعزز الهواجس من إعادة إنتاج مثل هذه التجارب الدموية التي انقلب فيها الإسلاميون على التعاقدات الوطنية، بذرائع حيازتهم للأغلبية العددية في الاستحقاقات الانتخابية. إن ما كان يوحد مكونات الكتلة التاريخية في إيطاليا ليس هو الولاء الوطني والقومي فحسب، بل أيضا مواجهة الفاشية الإيطالية، والتطلع الجماعي لبناء نظام ديموقراطي بديل. وفي حالتنا، فإن أدبيات فصائل الإسلام الحزبي مشبعة بالاتجاهات الفاشية، ولا تنشد التغيير الديموقراطي، وكأن أعز ما تطلبه هو الإحلال محل الاستبداد السياسي القائم. إن الاتفاق بين الفصيلين حول معارضة الحكم القائم، لا يمكن أن يحجب عنا تناقضاتهما الجوهرية في تقييم الماضي "الذهبي" (إعادة إحياء الخلافة)، وتعارض منظورهما لوظيفة الدين (مركزية الهوية بالنسبة للإسلام الحزبي مقابل مركزية العلم والمعرفة لليسار)، واختلافاتهما حول طبيعة ومضمون النظام البديل. فللجماعة أحلامها في استعادة الخلافة على منهج النبوة من الماضي الغابر، ولليسار طوباويته في تشييد المجتمع الاشتراكي. وبين الانجرار للماضي والاندفاع إلى المستقبل يهدر التوافق على الحاضر. التوافق على تعاقدات بناء المجتمع الديموقراطي كاستحقاق حضاري. وشرط نجاحنا الجماعي في هذا الاستحقاق هو إحداث المراجعات الضرورية في تجاه استيعاب الديموقراطية كمسكب إنساني. أما كيف يمكن تجاوز هذا التناقضات بين الطرفين، فلا سبيل غير الحوار العلني والمنتج، والصراع/ التدافع الفكري، بما يحفز على مراجعة المواقف والتقديرات في تجاه صياغة المشترك الوطني- الديموقراطي. على اليسار اليوم ترتيب تحالفاته من أجل بناء كتلة تقدمية، تلف التيارات اليسارية بكل أطيافها والهيئات النقابية والمدنية والحقوقية والنخب الثقافية والفصائل المتنورة من حركات الإسلام الحزبي (إن وجدت)، على قاعدة النضال من أجل الديموقراطية. *عضو اللجنة المركزية لحركة الشبيبة الديموقراطية التقدمية/ شبيبة الاشتراكي الموحد