لقد طرح مشكل الإيداع بالأسبقية لدى أحد مجلسي البرلمان منذ رجوع المغرب إلى اعتماد نظام البرلمان ذي المجلسين في دستور 1996، الذي تفادى التنصيص على تحديد الإيداع بالأسبقية لدى أي أحد من المجلسين، مراعاة لنوع من المساواة بينهما، وجعل سلطاتهما شبه متكافئة. غير أن الحكومة كانت تحرص، كل الحرص، على نوع من التوازن، واحترام مبدأ المساواة في إيداع مشاريع القوانين، كيفما كان نوعها بمكتبي المجلسين معا. في حين دأبت على إيداع مشروع قانون المالية السنوي بالأسبقية لدى مجلس النواب. فكان مجلس المستشارين يحتج على هذا التمييز باستمرار، ويسجل ذلك في التقارير المنجزة حول مشاريع قوانين المالية كل سنة. ولإضفاء الشرعية الدستورية على ذلك التمييز، نص دستور 2011، في الفصل 75 على إيداع مشروع قانون المالية بالأسبقية لدى مجلس النواب. كما نص بالمقابل، وبصريح العبارة، في الفصل 78 على:" تودع مشاريع القوانين بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، غير أن مشاريع القوانين المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين". أوليست هذه الكلمات والعبارات في معناها ومبناها؟ والحالة هذه، فإنني سأبدي برأي مخالف تماما لرأي بعض الباحثين والفقهاء الدستوريين حول أحكام فصول الدستور المتعلقة بالمساطر التشريعية. وذلك أخذا بمقاصد الدستور ومراد كلماته وعباراته، و ليس انتصارا لمجلس على آخر، أو من أجل مخالفة تأويل الحكومة وفهمها. وبتعبير آخر، البحث عن تأويلات مضادة لتأويلها(الحكومة)، لا سيما تأويلهم / تأويلها لأحكام الفصل 78 من الدستور. حيث تم ترجيح كفة الرأي القائل و/ أو التأويل الرامي إلى إيداع مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية بالأسبقية لدى مجلس النواب. بينما ظاهر النص الدستوري واضح، لا يحتاج للبحث في باطنه أو تأويله، أو الوقوف عند (ويل للمصلين...)، بغرض تأويله، يقول النص:" غير أن مشاريع القوانين المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين." ومعناه واضح جدا، ولا يحتمل أي تأويل، طالما أن الجميع يفهم منه ويعرف أن مشاريع القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين. فلماذا نحمل هذا المتن ما لا يحتمل ونقول أنه يعني مشاريع القوانين العادية، وليس مشاريع القوانين التنظيمية؟ والجماعات الترابية كما حددها الدستور في الفصل 135، هي: الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات. تساهم، حسب الفصل 137 من الدستور ، في تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين. وبناء على الفصل 63 من الدستور فإن ثلاثة أخماس الأعضاء بمجلس المستشارين يمثلون الجماعات الترابية، يتوزعون بين جهات المملكة بالتناسب مع عدد سكانها، ومع مراعاة الإنصاف بين الجهات. ينتخب المجلس الجهوي على مستوى كل جهة، من بين أعضائه، الثلث المخصص للجهة من هذا العدد. وينتخب الثلثان المتبقيان من قبل هيئة ناخبة تتكون على مستوى الجهة، من أعضاء المجالس الجماعية ومجالس العمالات والأقاليم. إن إشارة الدستور إلى مساهمة الجماعات الترابية في تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين، وتحديد الهيئات التي تقوم بانتخاب أعضائه، ليست إشارة اعتباطية، بل هي إشارة لها دلالة واضحة على أهمية وعلاقة أعضاء مجلس المستشارين بالجماعات الترابية، وبالتالي ترجيح إيداع مشاريع القوانين المتعلقة بتلك الجماعات، بالأسبقية، لدى مكتب هذا المجلس، ولو استثناء من القاعدة. علاوة على ما سبق هناك ثلاثة أدلة على الأقل، ذات مرجعية دستورية وعرفية ومنطقية-عقلية. تقطع الشك باليقين دون بذل الجهد والعناء للي ذراع الدستور بسبب الغموض تارة، وتبرير التأويلات الرامية لخدمة أهداف سياسية لجهات معينة، تارة أخرى، هي: أولا. عملا بالأسبقية المنصوص عليها في الفصل 78 من الدستور، سبق للحكومة أن أودعت بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين مشروع قانون رقم 131.12 يتعلق بمبادئ تحديد الدوائر الترابية للجماعات الترابية، في فبراير 2013 ووافق عليه المجلس في قراءة أولى بتاريخ 30 أبريل 2013، ووافق عليه مجلس النواب في قراءة واحدة بتاريخ 8 يوليو 2013، وتم نشره بالجريدة الرسمية عدد 6224، بتاريخ 23 يناير 2014. فلماذا اتخذت موقفا مخالفا تماما لموقفها السابق وقامت بإيداع مشاريع القوانين التنظيمية الثلاثة المتعلقة بالجهات والجماعات المحلية والعمالات والأقاليم بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب؟. قد يتم الدفع بأن القانون الأول عادي، بينما القوانين الأخيرة تنظيمية،. لكن الدستور ذاته، ينص في الفصل 71 منه، بشكل عام وبدون تمييز بين القوانين، أن من ضمن الميادين التي يختص القانون بالتشريع فيها نظام الجماعات الترابية ومبادئ تحديد دوائرها الترابية، والنظام الانتخابي للجماعات الترابية، ومبادئ تقطيع الدوائر الانتخابية. وتأسيسا عليه، يتعين إيداع جميع القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية، بالأسبقية، لدى مكتب مجلس المستشارين سواء أكانت قوانين عادية أو قوانين تنظيمية. كما نصت على ذلك بوضوح تام، وكما أسلفنا، العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور. ثانيا. المسطرة المنصوص عليها في الفصل 84 من الدستور والتي توضح تداول المجلسين في مشاريع ومقترحات القوانين، استعملت نفس العبارات، في الكلمات والتسميات، بالنسبة للتداول في كل من المجلسين. ولم تخول لمجلس النواب، على انفراد، سوى حق التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه. بل اشترطت أن يكون هذا التصويت النهائي بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين، إذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية. فلماذا قيد الدستور التصويت النهائي لمجلس النواب، بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين، على كل نص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية؟ وأكثر من ذلك، قيد التصويت في الفصل 85 على أي مشروع أو مقترح قانون تنظيمي يخص مجلس المستشارين أو الجماعات الترابية، بأغلبية أعضاء مجلس النواب، وليس الحاضرين منهم فقط. ألا يعزى ذلك للأهمية والمرتبة العليا التي بوأها المشرع للروابط المتينة بين مجلس المستشارين والجماعات الترابية من جهة، والقوانين التنظيمية من جهة أخرى، لا سيما منها التي تخص الجماعات الترابية ومجلس المستشارين. علاوة على ضرورة أن يتم إقرار القوانين التنظيمية المتعلقة بمجلس المستشارين، باتفاق بين مجلسي البرلمان، على نص موحد. كما أن إصدار الأمر بتنفيذ جميع القوانين التنظيمية مشروط بتصريح المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور؟ ثالثا. إن المسألة تفرض الاحتكام لشيء من المنطق والعقل، وليس إيعازها لغموض النص الدستوري بسبب السرعة التي اشتغلت بها اللجنة الاستشارية التي قامت بمراجعة الدستور، أو لأشياء من هذا القبيل. لأن اللجنة المذكورة تدرك تمام الإدراك أنه ليس من حقها تحديد سلطات غير متكافئة بين مجلسين يشكلان برلمانا واحدا. ولا يقبل عاقل أن يعطى حق الأسبقية والبت النهائي في جميع النصوص التشريعية لمجلس النواب وحده. ويحرم مجلس المستشارين من الحق في أن تودع بمكتبه حتى مشاريع قوانين، سواء كانت تنظيمية أو عادية تتعلق بالجماعات الترابية، وتهمه بالدرجة الأولى وتربطه بها علاقة التمثيلية، قبل مجلس النواب. فلو لم تكن هناك علاقة وثيقة لمجلس المستشارين بالجماعات الترابية، لما تمت الإشارة، واللبيب بالإشارة يفهم، إلى الإيداع بالأسبقية لمشاريع القوانين المذكورة، بمكتب هذا المجلس. ولا تم ربط الممثلين بمجلس المستشارين بالجماعات الترابية. ولأراحنا الدستور نهائيا، بالتنصيص على إيداع جميع القوانين كيفما كان نوعها ومرتبتها، بالأسبقية لدى مجلس النواب. ولأعفانا من إهدار وقتنا في التنقيب على التأويلات والتأويلات المضادة، في هذه النازلة أصلا؟!.